ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ
وخصه بالتلاوة عليه لأنه أشرف من يتلقى القرآن، وأقوم الناس عملاً به، فكأنه هو المخصوص بالتلاوة عليه.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) }
{{ذَلِكَ}} إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى { {نَتْلُوهُ}} نقرؤه عليك متتالياً يتلو بعضه بعضاً، وأضاف التلاوة إلى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفاً له، وفي: نتلوه، التفات، لأن قبله ضمير غائب في قوله: { {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}} ، ونتلوه: معناه تلوناه، كقوله تعالى: {{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ}} [البقرة:102].. وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب، فهي آيات لنبوتك.
وخصه بالتلاوة عليه لأنه أشرف من يتلقى القرآن، وأقوم الناس عملاً به، فكأنه هو المخصوص بالتلاوة عليه.
{{عَلَيْكَ}} أي هذا الذي قَصَصْنَاه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله الله تعالى، وأوحاه إليك قرآنا نزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك.
{{مِنَ الْآيَاتِ}} نقرؤه عليك من جملة آيات القرآن الحكيم.
{{وَالذِّكْرِ}} الذكر يطلق على معان منها: «الشرف» كما قال تعالى: {{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ}} [الزخرف:٤٤]، أي: شرف عظيم، ومنه قوله تعالى: {{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}} [الشرح:٤]، أي: شرفك.
ويطلق الذكر على ما يحصل به «التذكر»، فيسمى الكلام الجيد المشتمل على الموعظة: ذكرى، قال الله تعالى: {{فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}} [الأعلى:9]، أي: التذكرة.
ويطلق الذكر على «ذكر الله عز وجل» كما قال تعالى: {{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً}} [النساء:١٠٣]
والمراد به في هذه الآية المعنيان الأولان: الشرف وما يحصل به التذكير، فإن هذا القرآن -لا شك- أنه شرف لمن تمسك به وقام بحقه، فإنه ينال شرف الدنيا والآخرة وسعادة الدنيا والآخرة، ولم يشرف العرب ولم ينالوا السعادة والنصر والظهور إلا حين تمسكوا به.
والقرآن أيضاً ذكر من جهة التذكير؛ لأن كل إنسان يقرأ القرآن بحضور قلب فلا بد أن يتأثر به: {{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبُ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}} [ق:٣٧]
{{الْحَكِيمِ} } لأنه ذو حكمة في تأليفه ونظمه، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم، كقوله تعالى: { {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}} [هود:1] محكم متقن ليس فيه اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض.
{إِنَّ مَثَلَ} المثل: الصفة المستغربة البديعة. والعرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه، فلما خفي سر ولادة عيسى من غير أب، لأنه خالف المعروف، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان. وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ، كذلك خلق عيسى بلا أب، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل، وبين من ضرب له المثل، من وجه واحد، أو من وجوه لا يشترط الاشتراك في سائر الصفات.
والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب.
{{عِيسَى} } أي إن شأن عيسى وحاله الغريبة {{عِنْدَ اللَّهِ}} في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب {{كَمَثَلِ آدَمَ} } كشأن آدم فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل { {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}} فما بال النصارى يقولون: كيف خلق الله عيسى بلا أب ما هو إلا إنه ابن الله وجزء منه، ولم يقولوا: إن آدم ابن الله مع أنه لو كان أحد يدعي البنوة في أحد من البشر لكان الأحق بها آدم؛ لأنه ليس له أم ولا أب، فأنتم أيها النصارى أقررتم بأن آدم ليس ابناً لله فيلزمكم أن تقروا بأن عيسى ليس ابناً لله؛ لأن مثل عيسى كمثل آدم خَلَقَهُ ابتدأ من تراب.
وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى. ففي هذه الآية بيان إقامة الحجة بمثل ما يحتج به الخصم؛ لأنه أقام الحجة على النصارى بمثل ما احتجوا به. وكل مثل مضروب في القرآن فإنه دليل على ثبوت القياس.
{{ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ}} وقول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حيا ذا روح ليعلم السامعون أن التكوين ليس بصنيع يد، ولا نحت بآلة، ولكنه بإرادة وتعلق قدرة وتسخير الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكون وكل ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز.
{{فَيَكُونُ}} كناية عن سرعة الخلق والتمكن من إيجاد ما يريد تعالى إيجاده.. ولم يقل: فكان، لاستحضاره صورة تكونه، مثل قوله: {{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً}} [فاطر:9]
والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواهم في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادًا. ولكن الرب -عَزّ وجل- أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: {{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}} [مريم:21].
قال في البحر المحيط: وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً عما استقر واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى، كما قال تعالى: { {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}} [الحجرات:13] والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه.
{{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}} أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى هو الحق الثابت من ربك الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
وأصل الحق من حق الشيء إذا ثبت، كما قال الله تعالى: {{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}} [يونس:٣٣]
{{فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}} الشاكين، ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون ممترياً، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفاً لغيره. قال الراغب: ولم يكن ممترياً ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى.
فالمقصود التعريض بغيره، والمعرض بهم هنا هم النصارى الممترون الذين امتروا في الإلهية بسبب تحقق أن لا أب لعيسى.
** وفيه أن الممترين كثيرون، وإن كان يحتمل أن يراد به الجنس فيصدق بواحد، لكن الظاهر الأول، ولا شك أن الممترين من بني آدم كثيرون؛ لأن ذرية بني آدم من كل ألف منهم تسعمائة وتسع وتسعون كلهم من أهل النار كما ورد في الصحاح.
** وفيه جواز التعريض؛ لأن قوله: {{فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}} ، لا يعني أن الرسول يمكن أن يكون منهم، بل هو تعريض بهؤلاء وأنهم ذوو خلق سيئ، فلا تكن منهم وإن كان هو ليس منهم لا باعتبار الواقع ولا المستقبل.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: