أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ....
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) }
والكلام استئناف قصد منه ذكر الخُلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود، وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرقة في سورة البقرة: {{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}} [البقرة:40] {{وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}} [البقرة:41] {{وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}} [البقرة:102] {{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [البقرة:174]. فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا.
{{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ}} يستبدلون ويأخُذون.. يقال: {يَشْتَرُونَ}، ويقال: {يَشْرُونَ} البائع معطي والمشتري آخذ.
الشاهد للبائع المعطي من القرآن قوله تعالى: {{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}} [النساء:٧٤] يعني يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.
وقوله تعالى: {{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}} [البقرة:۲۰۷]، أي يبيع نفسه.
وأما الاشتراء الذي بمعنى الأخذ ففي مثل هذه الآية: {{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}} ، يعني يأخذون ثمناً قليلاً بعهد الله، فينكثون عهد الله من بعد ميثاقه ويحلفون على الكذب بالأيمان من أجل الدنيا .
{بِعَهْدِ اللَّهِ} يحتمل أن يكون المراد بما عاهدوا الله عليه، ويحتمل أن يكون المراد بما عاهدوا الخلق عليه.
فأما على الأول: أي بما عاهدوا الله عليه، فهو ظاهر من الآية؛ لأن الله أضاف العهد إليه، ومثاله أن يكتم العالم علمه من أجل عرض من الدنيا، فإن الله عهد إلى العلماء أن يبينوا العلم {{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}} [آل عمران:۱۸۷]
فإن قال قائل: كيف أخذ الله العهد على العلماء، ونحن لم نعلم أن أحداً من العلماء أجرى صفقة عهد مع الله؟ .
فالجواب: لما أعطى الله العلماء العلم كان إعطاؤهم إياه عهداً بأن يقوموا بنشره وإعلانه بين الخلق، فإذا لم يقوموا بذلك فإنهم لم يقوموا بعهد الله .
القول الثاني: يشترون بعهد الله أي بعهدهم مع الناس، وأضافه الله لنفسه {بِعَهْدِ اللَّهِ} لأنه أمر بالوفاء به، قال الله تعالى: {{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}} [النحل:٩١]، فسمى الله معاهدة المؤمنين لغيرهم، سماها عهداً له مع أنهم ما عاهدوا الله وإنما عاهدوا الخلق، لكنه أضافه إلى نفسه لأنه أمر بالوفاء به، فصح أن يُقال: أوفوا بعهد الله .
{{وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}} ويشترون -أيضاً- بأيمانهم ثمناً قليلاً من عروض هذه الدنيا الفانية الزائلة، والأيمان جمع يمين، وهي الحلف بالله عز وجل، فيشترون باليمين ثمناً قليلاً مثل أن يحلف على جحد حق واجب عليه، أو يحلف على دعوى حق له وهو كاذب، وهذه هي اليمين الغموس التي قال عنها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ [كاذب] لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) [البخاري]
{ {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ}} لاحظ ولا نصيب لهم، كما قال تعالى: {{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}} [البقرة:200-202] فقال: {لَهُمْ نَصِيبٌ} في مقابل قوله: {من خلاق} فدل ذلك على أن الخلاق هو النصيب.
{{فِي الْآخِرَةِ}} لأنهم اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي، والجزاء من جنس العمل. أما في الدنيا فقد يكون لهم من هذا السحت نصيبا يأكلوه ولا خير فيه.
** وفيه أن مَنْ وفى بعهد الله، وحلف على صدق، فإنه لا يحرم النصيب في الآخرة. ووجهه أنه إذا كان من اشترى بعهد الله ثمناً قليلاً أو بيمينه لا خلاق له في الآخرة، فان ضده له خلاق. وهذا الطريق من الاستدلال أخذناه من قول الشافعي رحمه الله على قوله تعالى: {{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}} [المطففين:١٥] قال: في هذه الآية دليل على رؤية المؤمنين الله؛ لأنه لما حجب هؤلاء في الغضب كان دليلاً على رؤية الآخرين في حال الرضا.
{{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}} لا يكلمهم كلام لطف بهم، أو تكليم رضا، ولكنه قد يكلمهم تكليم إهانة. فإن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل النار: {{قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}} [المؤمنون:۱۰۸] وهذا كلام من الله، ولكنه كلام تقريع وتوبيخ وإهانة والمنفي هو «تكليم الرضا».
وفيه إثبات صفة الكلام. ووجه ذلك أنه لو كان الله لا يتكلم لم يكن لنفي الكلام مع هؤلاء فائدة. فلولا أنه يتكلم ما صار عدم تكليمه لهؤلاء عقوبة.
{ {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}} ولا ينظر إليهم بعين الرحمة، والظاهرُ أنه كنايةٌ عن شدة غضبِه وسَخَطِه نعوذ بالله من ذلك. والمراد به النظر الخاص، أما النظر العام فإن الله تعالى لا يحجب عن بصره شيء.
وهاتان الكنايتان من امتناع الكلام والنظر يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي.
** وفيه إثبات نظر الله؛ لقوله: {{وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ}} وهل فيه دليل على إثبات العين لله؟ الجواب: لا .. لأنه لا يلزم من إثبات النظر إثبات العين، كما إننا نثبت سمع الله ولا يلزم أن نثبت الأذن، وهذه مسألة يجب أن نتفطن لها؛ لأنه لا يلزم من الكلام وجود اللسان والشفتين، ولا يلزم من السمع وجود الأذنين، ولا يلزم من النظر وجود العينين.
فيوم القيامة تحدث الأرض أخبارها فهل لها لسان وشفتان؟ الجواب: لا.
وكان الحصى يسبح بين يدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهل له لسان وشفتان؟ لا .
وهل تسمع الأرض أو لا تسمع؟ الجواب: تسمع؛ لأنها تحدث أخبارها. فلولا أنها تسمع ما حدثت.
ولما قال الله تعالى للسموات والأرض: {{اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}} [فصلت:۱۱] خاطبهما فسمعتا أولا؟ فقالتا: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
فقوله تعالى: {{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}} [الزلزلة:٤]، أي: ما عمل عليها من خير وشر كما قال السلف. والذي يعمل على الأرض إما قول يسمع وإما فعل ينظر، إذن فهي ترى ومع ذلك لا نقول لها عينان.
فإذن لا يلزم من ثبوت نظر الله ثبوت العين. ولكن العين ثابتة بنصوص أخرى. فإن الله تعالى له عينين اثنتين لا تماثلان أعين الخلق؛ كقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) [البخاري]
والجمع في الآيات من أجل التعظيم كقوله تعالى: {{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}} [يس:۷۱]، مع أن الله ليس له إلا يدان اثنتان، وكلتا يديه يمين سبحانه.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هو يوم البعث، وسُمِّي يوم القيامة لأمور:
الأول: قيام الناس من قبورهم.
والثاني: يوم يقوم الأشهاد، قال تعالى: {{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}} [غافر:51] أي يوم تشهد فيه الملائكة والأنبياء والمؤمنون على الأمم التي كذَّبت رسلها, فتشهد بأن الرسل قد بلَّغوا رسالات ربهم, وأن الأمم كذَّبتهم.
والثالث: يقام فيه العدل. قال تعالى: {{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}} [الأنبياء:47]
{{وَلَا يُزَكِّيهِمْ}} ولا يطهرهم من ذنوبهم ولا يكفرها عنهم، ويحتمل أن يكون المعنى ولا ينميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيرات ولا ينمي أعمالهم الطيبة، فلا زكاء لهم عند الله لأنهم ليسوا أهلاً للتزكية. لأن من بلغ من رقة الديانة إلى حد أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا، فقد بلغ الغاية القصوى في الجرأة على الله، فكيف يرجى له صلاح بعد ذلك.
ولهذا ينادى يوم القيامة على الظالمين {{هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}} [هود:١٨] يــعــنــي طردهم وإبعادهم عن رحمته .
** وفيه أن هؤلاء المشترين بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً لا يزكيهم الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا جاءت الكلمة {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} بعد قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهؤلاء لا يزكيهم الله في الدنيا بل يظهر عوارهم ويفضحهم في الدنيا حتى يعرفهم العباد ويعرفوا سقوط عدالتهم وزوال زكائهم، كذلك لا يزكيهم الله يوم القيامة، فلا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً .
{ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} العذاب: النكال والعقوبة وأليم بمعنى مؤلم.
** وفيه تهديد هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، وينصب هذا على العلماء الذين يكتمون ما أنزل الله مداهنة أو مراعاة أو من أجل مال، فإنهم اشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً؛ لأن الله عهد إلى العلماء أن يبينوا العلم.
فالعلماء ثلاثة أقسام: عالم أمة، وعالم دولة، وعالم ملة، فعالم الملة لا يشتري بعهد الله ثمناً قليلاً، بل يبين الملة ولا يبالي. وعالم الدولة يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً ليكون له جاه عند الدولة، وربما ليعطى مالاً، وعالم الأمة هو الذي يراعي الأمة، ينظر ماذا تشتهي الأمة أي عامة الناس فيفتي به أو يقول به، وما لا تشتهيه الأمة يسكت عنه، فإذا رأى الأمة على شيء غير سائغ في الشرع سكت عنه، وإذا طلبوا منه شيئاً غير سائغ في الشرع ولكنه يرى أنه يرضيهم وافقهم عليه.
روى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ مِرَارًا. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)» .
وروى أحمد في المسند عَنِ ابْنِ الْأَحْمَسِي، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُحَدِّثُ حَدِيثًا «عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَا تَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَمَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، فَمَا الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: (ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ، وَثَلَاثَةٌ يَشْنَؤُهُمُ اللهُ) قَالَ: قُلْتُ: وَسَمِعْتَهُ. قُلْتُ: فَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحِبُّ اللهُ؟ قَالَ: (الرَّجُلُ يَلْقَى الْعَدُوَّ فِي الْفِئَةِ فَيَنْصِبُ لَهُمْ نَحْرَهُ حَتَّى يُقْتَلَ، أَوْ يُفْتَحَ لِأَصْحَابِهِ، وَالْقَوْمُ يُسَافِرُونَ فَيَطُولُ سُرَاهُمْ حَتَّى يُحِبُّوا أَنْ يَمَسُّوا الْأَرْضَ، فَيَنْزِلُونَ فَيَتَنَحَّى أَحَدُهُمْ، فَيُصَلِّي حَتَّى يُوقِظَهُمْ لِرَحِيلِهِمْ، وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ) قُلْتُ: وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْنَؤُهُمُ اللهُ؟ قَالَ: (التَّاجِرُ الْحَلَّافُ، أَوْ قَالَ: الْبَائِعُ الْحَلَّافُ، وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ)» [قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح]
وروى أحمد أيضا حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ وَالْعُرْسُ ابْنُ عَمِيرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَدِيٍّ [الضمير عائد إلى عدي بن عدي- وهو ابن عميرة الكندي-] قَالَ «خَاصَمَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ رَجُلًا مِنْ حَضَرَمَوْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَرْضٍ فَقَضَى عَلَى الْحَضْرَمِيِّ بِالْبَيِّنَةِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَقَضَى عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ بِالْيَمِينِ فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ إِنْ أَمْكَنْتَهُ مِنْ الْيَمِينِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَتْ وَاللَّهِ أَوْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَرْضِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ أَخِيهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) قَالَ رَجَاءُ وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} فَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ مَاذَا لِمَنْ تَرَكَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجَنَّةُ قَالَ فَاشْهَدْ أَنِّي قَدْ تَرَكْتُهَا لَهُ كُلَّهَا» .
عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي. فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْحَضْرَمِيِّ: (أَلَكَ بَيِّنَةٌ) قَالَ: لَا. قَالَ: (فَلَكَ يَمِينُهُ) قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ: (لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ) فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أَدْبَرَ: (أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ) »
وروى البخاري عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)»
فَقَالَ الْأَشْعَثُ: «فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟) قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: (احْلِفْ) قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى» {{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
وفي رواية للبخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ»
قَالَ فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قُلْنَا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ) فَقُلْتُ إِذًا يَحْلِفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ [هي التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين، والصبر: الحبس، فكأنه يحبس نفسه على هذا الأمر العظيم وهي اليمين الكاذبة، ويقال لها: اليمين الغموس أيضاً] يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ)
وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ فِيهَا لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِهِ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ {{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
وروى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ -يَعْنِي كَاذِبًا-، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ)» . [إسناده صحيح على شرط الشيخين]
أما قوله بعد العصر فقد قيل: إن هذا من الأوقات التي تكون فيها الأيمان مغلظة، فقد يكون تغليظ اليمين بالمكان، كما جاء في الحلف عند منبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا من حيث الزمان.
وفي المسند بسند ضعيف عَنْ زَبَّانَ، عَنْ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «(إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادًا، لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) قِيلَ لَهُ: مَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (مُتَبَرٍّ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا، وَمُتَبَرٍّ مِنْ وَلَدِهِ، وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ)»
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: