بالقرآن نحيا .. سورة التحريم
كما بينت الآيات أهمية التغافل بين الزوجين لحماية الأسرة من الانجراف وراء أمور صغيرة قد تؤدى إلى هدم البيت فى النهاية
سورة التحريم :
مناسبة السورة لما قبلها
يقول الإمام الفخر الرازي: أما التعلق بما قبلها، فذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء، واشتراك الخطاب بالطلاق في أول تلك السورة مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة، لما كان الطلاق مشتملاً على تحريم ما أحل الله
ويربط البقاعي بين آخر سورة الطلاق حيث ختمت ببيان علم الله المحيط بما في السماوات والأرض جليلها ودقيقها حيث قال جل جلاله {﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾} [الطلاق: 12].
وذكر في افتتاحية التحريم علم الله المحيط بحادثة خاصة جرت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين بعض أزواجه وإحاطته بالسر الذي أودعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أزواجه، وإحاطته كذلك بإفشائها لسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث ورد ذلك في قوله تعالى: {﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ } [التحريم: 3].
سبب النزول :
اختلف المفسرون فى سبب نزولها لكن الصحيح فيها مارواه البخارى أن هذه الآيات كانت في تحريمه العسل فعن عائشة «قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير إني أجد منك ريح مغافير قال "لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا" فنزلت الآيات»
{"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم إلى قوله: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكم" } الآية عتاب من الله تعالى للنبى صلى الله عليه وسلم فى الامتناع عن المباح بغير مصلحة وبدأها بوصفه أنه نبى ولم يقل يا محمد ليذكره أنه صاحب رسالة ونموذج يقتدى به الناس وتحريم المباح قد يلبس على الناس فيحرموا على أنفسهم أشياء هى حلال فى الأصل فيقعوا فى حرج ومشقة ويتبن من الآيات أن الموقف كله أصله الغيرة بين الأزواج وليس هناك مصلحة معتبرة وفى ختام الآية تختم بتذكرة أنه يغفر الذنوب وأنه هو الرحيم بعباده فلا يشقوا على أنفسهم وهذا دليل على مكانة النبى عند الله عزوجل
يقول الدكتور مصطفى مسلم هذا يدل على عظيم مكانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ربه، ففي كل مقام هضم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حظ نفسه إشفاقاً على من حوله، أو تواضعاً أو إيثاراً لرغبات غيره، تولى الله سبحانه وتعالى الدفاع عنه وعلمهم الأدب اللائق والتصرف الذي يتناسب مع مقام النبوة كما في افتتاحية سورة الحجرات، وتقديم الصدقة بين يدي نجواه في سورة المجادلة وعدم مناداته باسمه المجرد كما في سورة النور، وعدم إحراجه في بيته في أوقات راحته كما في سورة الأحزاب.
وهذا عتاب بطريق التلطف، مثل قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة ١٠/ ٤٣]، وكيف أن الامتناع عن الحلال يعد ذنبا وهو مباح بالنسبة لغيره لعظيم قدر النبى عند الله
يقول القرطبى : الصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة وعلى مذهب ابو حنيفة ان تحريم الحلال يعد يمينا حسبما نوى ، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله، وإذا حرّم ملبسا أو شرابا أو شيئا مباحا، فهو بمنزلة اليمين فكاان هذا فى حق النبى فقط لعظم قدره.
وجمهور العلماء على رأى أن مجرد الامتناع عن تناول الشيء المأكول أو المشروب من غير حلف ليس يمينا، ولا يحرّم قول الرجل: «هذا علي حرام» إلا الزوجة، فيكون إيلاء منها.
ثم قال سبحانه وتعالى
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"} الاية دليل على أن هناك يمينا تحتاج إلى التحلة أى تحليل الإيمان بأداء الكفارة المقررة فى سورة المائدة إذ يقول تعالى { وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُم } " ْ ثم تختم الآية.
الله مولاكم ناصركم ومؤيدكم وهو العليم بما فى صلاحكم وهو الحكيم فى تشريعه يحل ويحرم لحكمة
ثم ذكر الدليل على إحاطة علم الله بكل شيء، فقال
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡخَبِيرُ(3) }
حَدِيثاً المقصود به أنه شرب عسلا عند زينب ولن يعود إليه وقد أخبرت به السيدة حفصة رضى الله عنها فلما أخبره الله بما وقع منها عرفها بعض ما أخبرت به وأعرض عن بعض الكلام ولم يفصل فى الأمر ولكنه عتاب لإفشاء أسرار الزوجية فلما سالته كيف عرفت ذلك قال لها نبأنى العليم بالسرلا يخفى عليه شيئا الخبير ببواطن الأمور وبما تكن صدورهم وهو ما يغفل عنه كثير من الناس
وفى قوله " عرف بعضه وأعرض عن بعض "هو دعوة للتغافل فى بعض المواقف بين الزوجين حتى تسقيم الحياة فالحياة الزوجية قائمة على الثقة بين الزوجين التى قوامها حفظ الأسرار بين الطرفين فالقرآن يربى على حفظ الأسرار وأن يزن الكلام بميزان الشرع قبل ان يتحدث به وقد دعاهم للتوبة مما فعلوه وقد تظاهرا عليه أى اجتمعا عليه بدافع الغيرة واتباع الهوى فقد مالت القلوب عن الحق فلذلك
دعاهم إلى التوبة فى قوله تعالى : "
{إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ } وكتم الأسرار وأن يعظما قدر النبى فى قلوبهما إعلاء من شأنه فيحبا ما يحب ويكرها ما يكره وكأنهم عادوا الله ورسوله بكرههم ما احب االنبى فإن تعاونا عليه أو اجتمعا عليه فإن الله حافظه من كل ما يؤذيه والملائكة تؤيده والمؤمنون الصالحون
فإن لم يذعنوا إلى أمر الله فهو القادر أن يبدله أزاوجا خيرا وأفضل منكن مسلمات مستسلمات لأمر الله عزوجل مصدقات بالله وملائكته وكتبه ورسله مطيعات للرسول حريصات على التوبة من الذنوب وموظبات على العبادة صائمات منهن الثيب ومنهن البكر إذ يقول تعالى : {" عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ، قانِتاتٍ تائِباتٍ، عابِداتٍ، سائِحاتٍ، ثَيِّباتٍ وَأَبْكارا}
إنه تهديد لهن بأمر الطلاق فإنه أمر مؤرّق للبال فلا شىء أقصى على المرأة من أن تطلق وتخرج من مملكتها
وفي الآية أيضا وعد من الله لنبيه ﷺ أن يزوجه بما يريد،
كما أنها تبين صفات الزوجة الصالحة التى يرضى الله عنها فلتتدبرها كل زوجة تريد أن تنعم برضا الله عنها ورضا زوجها عنها ولتسأل نفسها هل هى من المسلّمات لأمر الله عزوجل ومن المداومات على الطاعة سريعه التوبة والرجوع إلى الله فلنعرض أنفسنا علي آيات الله عسى أن يكون فيها الحل لمعظم مشاكلنا الأسرية
كما بينت الآيات أهمية الكلمة فى الإسلام وأن على المسلم أن يتفكر فى الكلمة قبل أن يخرجها هل له أم عليه ولا يستهين بها فمعظم النار من مستصغر الشرر إذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم
"إن المرء ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في نار جهنم أما إذا نطق بما لا يرضى الله فعليه بالمسارعة بالاستفغار والتوبة منها والتحلل منها غذا كانت وعد على شىء فى المستقبل
وبعد أن حث زوجات النبى على التوبة أمر المؤمنين أن يؤدوا واجبهم فى بيوتهم من التربية والتذكير بحق الله والحث على الطاعة والتحذير فى الوقوع فيما يغضب الله وهو أسلوب متبع فى كثير من السورة وهو الانطلاق من واقعه معينه إلى المبدأ العام أو أسلوب تربوى عام يحث المسلمين عليه تؤكده القصة وهو حماية الأسرة والمجتمع من الانحراف والضياع
{{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ} } عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه» ))؛ متفق عليه.
عندما تحدث النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث المشهور عن المسئولية عبر عنها بلفظ الرعاية والرعاية ليس مقصود به توفير المأكل والمشروب والملبس والمسكن ولكن يراعى الجانب العاطفى واحتياجاتهم النفسية
فهو مسئول تجاه أهل بيته عن وقايتهم من الوقوع فيما يغضب الله ومسئول عن أخلاقهم وسلوكياتهم واستقامتهم على المنهج القويم وإنها لأمانة كبيرة التقصير فيها سيعرضه للمسألة عنها أمام الله يوم القيامة فعلى المؤمن أن يقى أهله النار التى استخدم فيها الناس كالحجارة ليحمى بها النار وتزداد اشتعالا وهو دليل على المهانة وانتقاص القدر
وقال ابن جرير: فعلينا أن نعلّم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب
وقال ﷺ فيما رواه الترمذي والحاكم عن عمرو بن سعيد بن العاصي: ««ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن»»
ويجب على الأب أو الأم أن يكونوا قدوة ومثل طيب لأبنائهم فى المسارعة للطاعات والتخلق بالأخلاق الحسنة فى التعامل مع الناس واجتناب ما نهى الله عنه ولا تأخذهم العاطفة كما يفعل البعض فتراهم يتكسبون من حرام حتى يستطيعوا أن يلبوا احتياجات ابنائهم مهما كانت
ووصف ملائكة العذاب وصف قاس يجعل كل انسان يفكر قبل فعل الذنوب كيف أنهم غلاظ الطبع وقبيحو المنظر موكلول بالنار يطيعون الله ولا يعصونه طرفة عين
يقول وهبة الزحيلى : " وفائدة الإتيان بالجملتين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أن الأولى في الماضي، ولبيان الطواعية، فإن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر، ولنفي الاستكبار عنهم، كما قال تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ} [الأنبياء ٢١/ ١٩] والثانية للمستقبل وفورية التنفيذ والامتثال ونفي التراخي والكسل عنهم، كما قال تعالى: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء ٢١/ ١٩]"
ثم الخطاب للكافرين يوم القيامة حيث لا يقبل منهم عذرا جزاء بما عملوا فى الدنيا فإنها مزرعة الآخرة إذ يقول تعالى :" { يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
لأن العذر والتوبة لا تنفع فى الآخرة
ومن الأساليب القرآنية المعروفة الجمع بين الترغيب والترهيب
فكما رهب من النار وأوعد الكفار بأنهم على خطر عظيم رغب فى التوبة وتتدارك التقصير والرجوع إلى الحق دعاهم الى التوبة الصادقة والندم الحقيقى من القلب والاستغفار باللسان والعزم على عدم العودة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «الندم توبة "
يقول الله تعالى :" {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} ..."
ووعدهم بتكفير الذنوب والفوز بالجنة إنه يوم الكرامة والعزة للمؤمن والخزى للكافر ثم يبين أثر الإيمان على المؤمنين ترى الإيمان يشع من قلوبهم نورا يضىء لهم الطريق على الصراط و يظهر على وجوههم البشر يدعون ربهم بأن يتم لهم النور يوم القيامة وغفران الذنوب وأن يتجاوز عن السيئات فهو الغفور الرحيم
وكلمة عسى فى حق الله موجبة تفيد التحقق
وقال العلماء : الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين، فإن كان حقا لله كترك صلاة، فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها، وهكذا إن ترك صوما أو فرط في الزكاة. وإن كان ذلك ما يوجب القصاص أو الحد الذي فيه حق لآدمي كالقذف، وطلب منه، مكّن نفسه من العقوبة، إلا إذا عفي عنه، فيكفيه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. أما إن كان الحد من الحدود الخالصة لله كالزنى والشرب، فيسقط عنه إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح، وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم، ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه- عينا كان أو غيره- إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه.
وإن كان أضرّ بواحد من المسلمين، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه، فقد سقط الذنب عنه" تفسير القرطبى .
ثم أمر الله نبيه ﷺ بجهاد الكفار والمنافقين ، فقال:"
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} " أمره أن يدعو الكفار إلى الاسلام فى البداية فإن أبوا فليجاهدهم بالسيف ويجاهد المنافقين بإقامة الحجة عليهم والغلظة معهم والتشديد ليهم فى الدنيا وبيان سوء عاقبتهم فى الآخرة فهم أخطر من الكفار والغلظة معهم إن لم يذعنوا إلى أمر الله
وقد جمع الله عزوجل بين المنافقين والكفار بالعذاب فى قعر جهنم فى أكثر من موضع بأن لهم نفس المصير
وبذلك تكون السورة قد بينت عدة أساليب تربوية للقادة والمربين والتى تحدث عنها الدكتور مصطفى مسلم فيقول : من الأساليب التربوية الغلظة أحياناً على من يرعاهم ويوجههم. وعدم الانسياق مع رغباتهم وتلبية مطالبهم، فإن الإكثار من التلطف معهم يجعلهم يتطلعون إلى الإكثار من المباحات بل والتجاوز إلى المكروهات والمحرمات وأسلوب الغلظة يتناسب مع الشخص والفئة التي تحتاج إلى الموعظة والتوجيه.
فالأسلوب المتبع مع الأهل - الزوجة والأولاد - الترغيب والترهيب والموعظة الحسنة ولو بتقديم الهدايا والمنح.
والأسلوب المتبع مع المنافقين التخويف بالنار والإنذار والغلظة في القول ببيان سوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
والأسلوب المتبع مع الكفار المستأمنين وأهل الذمة بالدعوة تارة، ورعاية مصالحهم أحياناً ومجادلتهم بالحكمة والموعظة الحسنة كثير
والأسلوب المتبع مع الكفار المحايدين بالدعوة والحجج والبراهين والأسلوب المتبع مع الكفار المحاربين الدعوة ثم التخيير بين الجزية والقتال إن المربي الحصيف يستخدم الوسيلة الأمثل للوصول إلى التأثير في نفس المخاطب
وحتى لا يتوهم الكفار أن قرابتهم من المسلمين ستنفعهم يوما أو يعتقد بعض المسلمين أن خلطتهم بالكفار ستضرهم فضرب المثل لذلك
إذ يقول تعالى :" {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} "
ضرب الله مثلا للكفار فى معاشرتهم للمسلمين بحالة زوجة نوح وزوجة لوط كانتا فى عصمة انبياء يخالطاهما ليل نهار يؤاكلانهما ، ويضاجعانهما ، ويعاشرانهما أشد العشرة ولكن لم ينفعهم ولم يدفع عنهم العذاب كونهما زوجات أنبياء إذا أبوا إلا الكفر وعدم التصديق برسالتهما ولم يكتفيا بذلك بل حرضوا الناس عليهم كما فعلت امرأة لوط التى دلت أهل القرية على ضيفى زوجها كما لا ننكر دور امرأة نوح فى التأثير على ابنها وجعلته يعصى الأب وهذا ياخذنا لاهمية اختيار الزوجة الصالحة التى تربى الاولاد على تقوى الله وطاعة الاب وهو مثل ضرب ليبين أن مخالطة الكافر للمسلمين لن تجدى ولن تنفع إن لم يدخل الإيمان قلوبهم صدقا وحقا
والخيانة هنا خيانة عقيدة وإيمان لأن زوجات الأنبياء معصومات من الوقوع فى الفاحشة لعصمة الأنبياء ومكانتهم عند الله
وما علاقة هذا المثل بقصة عائشة وحفصة التى ذكرت فى مطلع السورة ؟
قال يحي بن سلام: هذا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله ﷺ حين تظاهرتا عليه، ببيان أنهما، وإن كانت تحت عصمة خير خلق الله تعالى، وخاتم رسله، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا. وقد عصمها الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة فلا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط فى المعصية وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم عليها السلام
ثم ضرب مثلا على الجانب الآخر للمرأة الصالحة امرأة فرعون تلك المرأة التى حيزت لها الدنيا بحزفيرها تتزوج ملكا وتسكن فى قصر يمتلأ بالخدم كانوا رهن إشاراتها ولكنها تسامت على كل ذلك حين آمنت بموسى وبرسالته وضحت فى سبيل الله بمتاع الدنيا الزائل فنالها من العذاب ألوانا على يد فرعون
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قال ابن جرير كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة
والعجيب أنها اختارت الجار قبل الدار وهذا يدل على شدة إيمانها فقد اختار مجاورة الله فى الجنة وقد خلد ذكرها فى قرأن يتلى إلى يومنا هذا وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ««كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد, وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»» .
وضربت المثل أنه لا يضر مع الإيمان مخالطة الكافرين فالمسئؤلية فى الإسلام فردية إذ يقول تعالى
" {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } " [الأنعام: 164فكل مسئول عن عمله هو وليس عمل من حوله وكذلك ضرب المثل لمدى الثبات على الدين الحق رغم أن معرفتها عن الدين قليلة برغم بيئة الكفر المحيطة بها ونحن المسلمين المساجد منتشرة فى كل مكان ودور القرآن ولكن لا نرى أثر ذلك على المسلمين فقد ملأ قلوبهم الوهن وحب الدنيا فلم يثبتوا أمام الباطل فعليهم أن يتدبروا فى قصة السيدة آسيا كيف ثبتت أمام من يدعى الألوهية وفى المثلين العظة والعبرة أن صلاح الغير لا ينفع المفسد وفساد الغير لا يضر المصلح
والنموذج الثانى للفتاة الصالحة الطائعة لله التى نشأت فى بيئة صالحة وأسرة مؤمنة وفى كفالة نبى زكريا عليه السلام وخصت الآيات بالذكر من صفاتها العفة والطهر لأن قل أن تاكون فتاة فى مثل سنها تترك الانشغال بالدنيا واللهو مع نظيراتها من البنات وتتجه لطاعة الله وخدمته فحق أن يكرمها الله ويصطفيها أن تكون أما لنبى وصاحب رسالة الى أمته فى هذا التوقيت وهذا يدل على أن عفة الفتاة وطهرها لا يعود عليها إلا بالخير والبركة وقد خلد الله ذكرها فى العالمين وكرمها أن جعلها من الكاملات من النساء كما يبين دور الأسرة فى تنشئة فتياتها على طاعة الله واعانتها على ذلك وكذلك التضحية فى سبيل الله والتسامى على الدنيا كما فى قصة امرأة فرعون يحفظ للمسلم مكانته عند الله
وقد يتسأل البعض عن القضية التى تدور حولها سورة التحريم سورة كاملة تدور حول قضية غيرة النساء وكيف تحاول كل منهن أن تكسب قلب زوجها !
إن الأمر يتعلق بمشكلة حدثت فى بيت النبوة وكيف تكون العلاقة بين أفراد الأسرة لأن هذا البيت يعد النموذج الذى يحتذى به المسلمون ويستمدوا منه التشريع للأسرة وللأمة بأكملها
ومن الدروس والعبر أيضا التى نستقيها من هذه السورة أن لا يلام على الداعية إذا وجد من أهله وأسرته من هو على غير طاعة أو يحارب أهل الخير والصلاح فالهداية بيد الله وليس بيد الداعية فهو عليه البلاغ فقط فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فلنفسه
كما بينت الآيات أهمية التغافل بين الزوجين لحماية الأسرة من الانجراف وراء أمور صغيرة قد تؤدى إلى هدم البيت فى النهاية
كما بينت أهمية البناء الأسرى وأن قوة المجتمع المسلم تستمد من قوة اللبنة الأساسية له وهى الأسرة والتى تناولها الفرآن منذ بدابة تكوينها وأسس الاختيار ووضع الحلول المناسبة للمشكلات إلى انتهائها بالفراق أو بالموت وما يتبع ذلك من حقوق مادية ومعنوية فما أعظم هذا الدين
- التصنيف: