النهي عن التعيير بالذنب

منذ 2024-09-04

قال الشافعي: "من وعظ أخاه سرًّا، فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية، فقد فضحه وشانه" [إحياء علوم الدين 2 /182]

 
الألوكة : أبو عاصم البركاتي المصري

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلا شك أن كل بني آدم خطاء؛ إلا من عصمهم الله تعالى، ففي الحديث عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «« كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ » » [أخرجه ابن ماجة والدارمي بإسناد حسن].
والله تبارك وتعالى فتح باب التوبة ودعا الناس إلى أن يتوبوا إليه؛ وهو سبحانه يحب التوابين؛ بل إن التائب إذا صدقت توبته ونصحت فإن الله يبدل سيئاته إلى حسنات بفضله وكرمه؛ قال تعالى: { ﴿إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ } (الفرقان: 70).
ولهذا أمر الشرع بالنصح والستر والرحمة والشفقة؛ ونهى عن التعيير والتشفي والشماتة؛ فالمؤمنون نصحة والمنافقون غششة؛ والمؤمن يستر وينصح؛ والفاجر يفضح ويهتك.

النهي عن التعيير بالذنب والخطأ

أخرج أحمد (22402) بإسناد حسن عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «" لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ ، وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ "» .
والتعيير بالذنب إعانة للشيطان على الإنسان. فعند البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أُتِي النبي صلى الله عليه وسلم بِرَجُل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة: فَمِنّا الضارب بيده، والضارب بِنَعله، والضارب بثوبه ، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله ! قال: "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان» ".
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : «"وَإِنْ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ» ". [أخرجه أحمد وأبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ رضي الله عنه].
وقال معمر: كان يقال: أنصح الناس لك من خاف الله فيك. وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرًّا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه" .[جامع العلوم والحكم (1 /224)] .

فضل الستر على المؤمنين

معلوم أن النصح يقترن بالستر والتعيير يقترن بالإعلان؛ والإعلان من إشاعة الفاحشة ونشرها؛ قال الله تعالى: { ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾} (النور: 19).
وفي الصحيحين عن عَبْد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وقد كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنكار المنكر قوله " «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا"، "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» ".

وجوب التحلي بأدب النصيحة

فالنصيحة مشروعة لا شك بنصوص الكتاب والسنة؛ قال تعالى : {{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}} (سور ة العصر)
وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «"الدين النَّصِيحَة". قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"»  [أخرجه مسلم].
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ««بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» » [متفق عليه]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ»»  [ أبو داود (4918) وحسنه الألباني].
إلا أنه ينبغي أن يسر للمنصوح بالنصيحة قال الشافعي: "من وعظ أخاه سرًّا، فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية، فقد فضحه وشانه" [إحياء علوم الدين 2 /182]
وينبغي أن يستعمل الرفق واللين والتعريض يغني عن التصريح وأن يختار الوقت والمكان المناسب ؛ قال ابن حزم: "إذا نصحت فانصح سرًّا لا جهرًا، أو بتعريض لا بتصريح، إلا لمن لا يفهم، فلا بدَّ من التصريح له" [رسائل ابن حزم ص 364]
وعن ثابت، أن صلة بن أشيم وأصحابه، أبصروا رجلًا قد أسبل إزاره، فأراد أصحابه أن يأخذوه بألسنتهم، فقال صلة: (دعوني أكفيكموه، فقال: يا ابن أخي إنَّ لي إليك حاجة، قال: فما ذاك يا عم؟ قال: ترفع إزارك، قال: نعم، ونعمة عين، فقال لأصحابه: هذا كان مثل لو أخذتموه بشدة؟ قال: لا أفعل، وفعل" [ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 90]
قال الشافعي:

تَعَمَّدْنِي بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي ... وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الجَمَاعَهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ .... مِنَ التَّوْبِيخِ لاَ أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي ...... فَلاَ تَجْزَعْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَهْ

وقال أحمد شوقي:

آفةُ النصحِ أن يكون لجاجًا ... وأذى النُّصحِ أن يكون جِهارا

المؤمن ينصح ويرحم والفاجر يهتك ويعير

قال الفضيل رحمه الله : " المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر".
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: "كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئًا، يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه، فيستغضب أخاه ويهتك ستره" [جامع العلوم والحكم (1 /224)]

التواصي بالمرحمة من خلق المؤمنين

قال تعالى مبينًا رحمة المؤمنين ببعضهم: ﴿محمد رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ (الفتح: 29).
وقال تعالى {: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾} (التوبة: 128).
وقال تعالى : { {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}} (البلد: 17).

التعيير طريقة فرعونية

تأمل قول الله تعالى حكاية عن مجادلة فرعون وموسى : {﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ . وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾} (الشعراء : 18 -19).

التعيير سنة جاهلية

وفي صحيح مسلم قال أبو ذر رضي الله عنه: "إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه؛ فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية؛ قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه؛ قال: يا أبا ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية".

التعيير سبب لحبوط العمل

أخرج مسلم في صحيحه برقم (2621) عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَ « أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ؛ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ». ومعنى يتألى: يحلف.
والمعنى أن من أساء الظن بربه؛ وأغلق باب التوبة الذي فتحه الله لعباده؛ وضيق رحمة الله التي وسعت كل شيء؛ وأحسن الظن بنفسه؛ وأعجبته طاعته؛ وأساء الظن بإخوانه وعيرهم بذنوبهم؛ فهذا هالك والعياذ بالله؛ ومتوعد بالعذاب في النار؛ كما دل الحديث.

التعيير طريق العجب والغرور

قال ابن القيم رحمه الله :
ويحتمل أن يريد: أن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به ، ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب: أنفع له وخير من صولة طاعتك وتكثرك بها والاعتداد بها والمنة على الله وخلقه بها. فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله، وما أقرب هذا المُدِّل من مقت الله، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها عليه ، وإنك أن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا خير من أن تبيت قائمًا وتصبح معجبًا؛ فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المُدِلِّين، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر، فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو ولا يطالعها إلا أهل البصائر فيعرفون منها بقدر ما تناله معارف البشر ووراء ذلك مالا يطلع عليه الكرام الكاتبون، وقد قال النبي : " إذا زنت أمة أحدكم فليُقم عليها الحد ولا يُثرَّب " أي : لا يعير، كقول يوسف عليه السلام لإخوته: ﴿لا تثريب عليكم اليوم﴾ فإن الميزان بيد الله ، والحكم لله ، فالسوط الذي ضُرب به هذا العاصي بيد مقلب القلوب، والقصد إقامة الحد لا التعيير والتثريب ، ولا يأمن كرَّات القدر وسطوته إلا أهل الجهل بالله ، وقد قال الله تعالى لأعلم الخلق به وأقربهم إليه وسيلة: ﴿ولولا أن ثبَّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا﴾ ؛ وقال يوسف الصديق: ﴿وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين﴾ وكانت عامة يمين رسول الله: " لا، ومقلِّب القلوب"، وقال : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه" ثم قال: " اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك". ["مدارج السالكين" (1 / 177 ، 178)] .

التعيير طريق لمزالق النفاق

وذلك بالإضفاء على التعيير مسوح الحرص على الطاعة والتحذير من المعصية؛ والحرص على بيان المنهج الصحيح؛ وهو في ذلك كذاب وإنما غرضه التشهير والتعيير والشماتة لا أكثر؛ فيجمع بذلك بين مصائب شتى؛ والأولى به أن يستر على أخيه؛ وأن يدعو الله له؛ وأن يشفق عليه؛ وأن يخشى على نفسه؛ وانظر ما أخرجه البخاري عن ابن أبي مليكة: أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
وَيُذْكَرُ ، عَنِ الْحَسَنِ رحمه الله قوله عن النفاق: مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ.

هذا ما تيسر والله من وراء القصد
  • 1
  • 0
  • 236
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    معركة الجماعة والفصائل (3) ممّا يميّز الشّام عن غيرها من الساحات، أنّ الصراع بدأ مع الطاغوت وليس في البلاد أي فصائل أو أحزاب أو تجمّعات حقيقيّة، وهذا الأمر كان فألاً حسناً - ولا شك - لو أمكن توجيهه إلى تكوين جماعة المسلمين التي تخوض الجهاد ضد الطاغوت صفّاً واحداً، ولكن تأخُّر المجاهدين في إدراك المدى الذي سيبلغه الصراع، وشدة القبضة الأمنيّة للنظام النصيري، أدّيا إلى التأخر في إثبات المجاهدين حضورهم على الأرض، حيث كانت الفصائل قد بدأت تتشكّل، ووجد كلٌ منها لنفسه بوّابة لتلقّي الدعم، ما أجبر جنود الدولة الإسلامية على دخول الساحة رغم تشابكاتها وعدم وضوح أطراف النزاع فيها، ومحاولة تأجيل الصراع مع الأطراف المعارضة للنظام. • التنسيقيّات أول أشكال التجمّعات في الشام مع بداية العمل المضاد للنظام النصيري الذي غلب عليه نشاط المظاهرات والاعتصامات، ظهر مصطلح التنسيقيّات، كتسمية باتت مجموعات من "الثوار" تطلقها على نفسها، هذه التنسيقيّات كانت تقوم بعمليات حشد المتظاهرين وتنظيم المظاهرات وتغطيتها إعلاميّاً عن طريق التصوير والنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، لتكتسب مع الوقت صفة الواجهة الإعلامية وحتى السياسيّة للمتظاهرين الذين تدفعهم الحماسة والحميّة للمشاركة في التظاهرات والقبول ببروز "قادة الحراك الثوري" على أكتافهم، فالفكرة السائدة لديهم أن هذه المظاهرات وهذا "الحراك الثوري" سيسقط النظام النصيري خلال أسابيع أو شهور على حدٍّ أقصى. مع استمرار حالة "الحراك الثوري" لفترة طويلة من الزمن دون أن يتزحزح النظام، باتت التنسيقيّات تنتقل إلى حالة أكثر تنظيماً عن طريق دخول الداعمين على الخط، وهم في الغالب من رجال الأعمال الذين بدؤوا باجتذاب "التنسيقيّات" إليهم عن طريق تقديم الدعم بتوفير أجهزة التصوير والبث الفضائي والاتصالات، وصولاً إلى تمويل المشافي الميدانيّة لمعالجة المتظاهرين بل والتكفّل بإخراجهم للعلاج في المناطق الآمنة، وقليل من هؤلاء الداعمين كان يعمل بجدية لقضيّة إسقاط النظام النصيري فقط، والغالب منهم من كان يحسب مقدار ما سيجنيه من قوّة ونفوذ لقاء كل ليرة يدفعها من جيبه أو تمر عبر يده، وذلك كما أسلفنا لأن الغالب على التفكير آنذاك أن النظام لن يستمر طويلاً، وبالتالي تسابق أصحاب النفوذ، ووكلاء الأحزاب، وأهل الارتباطات الدوليّة لتعزيز نفوذهم في صفوف "الثوار" عن طريق امتلاك ناصية أكبر قدر ممكن من "التنسيقيّات" كونها الواجهات المشهورة "للثوار"، فبدأت محاولات جمع التنسيقيّات في أطر أوسع تحت مسمّيات مختلفة من قبيل "تجمّعات الأحرار" أو "مجالس قيادات الثورة" أو "اتحادات التنسيقيّات" أو "لجان التنسيق" أو "المجالس الثوريّة" وغيرها من الأسماء أو الأوصاف التي زُعم أن الغاية منها تنظيم "العمل الثوري" وحشد القوى بشكل أفضل لتسريع عمليّة إسقاط النظام، وفي الحقيقة كانت تُخفي تحتها مساعي بعض النافذين والمدعومين من قوى محلّية أو خارجيّة لاكتساب نفوذ في صفوف المعارضة، والاستفادة من هذا النفوذ مستقبلاً في تحصيل المكاسب في أي عملية سياسيّة ستجري بعد سقوط النظام، أو على الأقل تحصيل حصّة من الدعم الخارجي الذي كثر الكلام حول إمكانية تقديمه من قبل بعض الدول إلى "الثورة السوريّة"، ومما يثبت ذلك التزامن بين مرحلة التجمّعات هذه وتشكيل مجالس المعارضة في الخارج بدعم من عدّة دول، في سعي من كلٍّ منها لإيجاد قوة تعزّز من نفوذها في داخل "سوريا" في مرحلة ما بعد إسقاط النظام النصيري، بناءً على الفخ السياسي الذي وقع فيه المتظاهرون، وأصحاب التنسيقيّات، وداعموهم، وهو أن النظام سيسقط سريعاً. فمن لم يكن له دعم من قوى خارجيّة أو حضور إعلامي قوي أو اسم معروف في صفوف المعارضة في الخارج، كان الطريق الوحيد أمامه للظهور والمشاركة في الاجتماعات والمؤتمرات هو إثبات القوّة في الداخل عن طريق ادعاء تمثيل المتظاهرين و"الحراك الثوري" عن طريق تجمّعات التنسيقيّات التي سبق الحديث عنها. • اللصوص يستعجلون القسمة وهكذا ظهر كلٌّ من "المجلس الوطني" و"الائتلاف الوطني"، ووُزِّعت المقاعد فيهما على "معارضي الخارج" المدعومين من دول أو منظمات وأحزاب، و"معارضي الداخل" الذين سافروا إلى تركيا لاستلام المناصب باسم المتظاهرين، وكانوا مجموعة من الكذّابين، الذين لا تأثير لهم على الداخل، وليس وراءهم أي مجموعات أو فصائل فاعلة على الأرض، ومصادر قوّتهم تنحصر في الارتباط بمخابرات الطواغيت في دول الجوار، والحضور الذي تؤمّنه لهم وسائل إعلام الطواغيت على الشاشات، والدعم المالي الذي تمر قنواته من تحت أيديهم فيسرقون منه الكثير، وما يتبقّى منها يقوّون به نفوذهم عن طريق ابتزاز "معارضي الداخل" فيكونون تبعاً لهم، كيف لا وهم الذين كانوا يلعبون دوماً دور الساذج الذي يصعد جميع اللصوص على كتفه ليصلوا إلى مآربهم. مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 4 السنة السابعة - السبت 24 محرم 1437 هـ مقال: معركة الجماعة والفصائل (3)

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً