التحذير من الكسب الحرام

منذ 2024-09-05

ينبغي للمسلم أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله"

قال الله - تعالى -:  {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]؛ أي: ولا تأخذوا أموالكم؛ أي: أموال غيركم، أضافها إليهم لأنه ينبغي للمسلم أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله، ولأن أكله لمال غيره يجرِّئ غيره على أكل ماله عند القدرة، ولما كان أكلها نوعين: نوعًا بحقٍّ ونوعًا بباطل، وكان المحرم إنما أكلها بالباطل - قيَّده - تعالى - بذلك، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية أو نحو ذلك.

 

ويدخل فيه أيضًا أخذها على وجه المعاوضة بمعاوضة محرمة؛ كعقود الربا والقمار كلها، فإنها من أكل المال بالباطل؛ لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غشٍّ في البيع والشراء ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأُجَراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عملٍ لم يقوموا بواجبه، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصحُّ حتى يقصد بها وجه الله - تعالى - ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لِمَن ليس له حق منها أو فوق حقِّه، فكلُّ هذا ونحوه من أكل المال بالباطل، فلا يحلُّ ذلك بوجهٍ من الوجوه حتى ولو حصل فيه النزاع والارتفاع إلى حاكم الشرع، وأدلى مَن يريد أكلها بالباطل بحجَّة غلبت حجَّة المُحِقِّ، وحكَم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم لا يبيح محرمًا ولا يحلُّ حرامًا وانما يحكم على نحوٍ ممَّا يسمع، وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطِل راحة ولا شبهة ولا استراحة، فمَن أدلى إلى الحاكم بحجَّة باطلة وحكم له بذلك، فإنه لا يحلُّ له، ويكون أكلًا لمال غيره بالباطل والإثم وهو عالم بذلك، فيكون أبلغ في عقوبته وأشد في نكاله، وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطِل في دعواه لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال - تعالى -:  {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، اهـ، من "تفسير ابن سعدي"[1].

 

لذا حرَّم الله تناول الحرام من أيِّ وجه كان، سواء أكان رشوة أو سرقة، أو ربا أو غلولًا، أو من قمار أو غصب، أو اختلاس من وراء وظيفة، أو غش أو قيمة شيء محرَّم أو أجرته؛ كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وكثمن آلات اللهو والصور المحرمة، والكتب والمجلاَّت والصحف المشتمِلة على الإلحاد أو الخلاعة وكثمن الخمر والدخان، وكالأجرة على الرقص أو الغناء والعزف، وعلى شهادة الزور وما اقتطع بيمين كاذبة أو أخذ بغير الحق وإن كان حكم به القاضي إلى غير ذلك من طرق الكسب الحرام.

 

روى البخاري من حديث خولة الأنصارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: «إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ فلهم النار يوم القيامة»، وروى البخاري عن زيد، عن أرقم، عن أبي بكر - رضِي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم – يقول: «كلُّ جسد نبت من سُحْتٍ فالنار أَوْلَى به»، وفي الحديث: «لا يدخل الجنَّة جسد غُذِّي بالحرام»؛ (رواه الترمذي).

 

وروى البيهقي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا مَن يحبُّ ومَن لا يحبُّ، ولا يُعطي الدين إلا مَن يحبُّ، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه ولا يكسب عبدٌ مالًا حرامًا فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدَّق منه فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيِّئ بالسيِّئ، ولكن يمحو السيِّئ بالحسن»[2]، وفي "صحيح مسلم" حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يُطِيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنَّى يُستَجاب لذلك؟

 

ومن المحرَّمات أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وشرب الخمر ونكاح المحارم، ولباس الحرير والذهب للرجال، ومثل الاكتساب المحرَّم؛ كالربا والميسر، وثمن ما لا يحلُّ بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب ونحو ذلك، قال العلماء - رحمهم الله -: ويدخل في هذا الباب المكَّاس والخائن والسارق، وآكل الربا وموكله، وآكل مال اليتيم وشاهد الزور، ومَن استعار شيئًا فجحَدَه، وآكل الرشوة ومنقص الكيل والوزن، ومَن باع شيئًا فيه عيب فغطَّاه والمقامر والساحر والمنجِّم والمصوِّر والزانية والنائحة والدلال، إذا أخذ أجرته بغير إذن البائع[3].

 

وما سوى ذلك فهو حلال؛ مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام وشرب الأشربة الطيِّبة، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والصوف وغيرهما ممَّا أحلَّ الله ورسوله، إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع أو ميراث أو هبة أو غنيمة، فالحلال بيِّن والحرام بيِّن، والحلال ما أحلَّه الله ورسوله، والحرام ما حرَّمه الله ورسوله، وقد أحلَّ الله لنا الطيِّبات النافعة، وحرَّم الخبائث الضارَّة؛ رحمةً بنا وإحسانًا إلينا، وقد أنزل الله على نبيِّه صلى الله عليه وسلم الكتاب، وبيَّن فيه للأمَّة ما تحتاج إليه من حلال وحرام؛ كما قال - تعالى -:  {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله له ولأمَّته الدين كما قال - تعالى-:  {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} [المائدة: 3]، فما ترك الله ورسوله حلالًا إلاَّ مبينًا ولا حرامًا إلاَّ مبينًا، فلله الحمد على ذلك، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 


[1] جـ1 ص110 - 111، ط1.

[2] انظر: "الإرشاد إلى طريق النجاة": ص43 للشيخ عبدالرحمن الحماد العمر.

[3] انظر: "جامع العلوم والحكم"؛ لابن رجب: ص 59، وكتاب "الكبائر"؛ للذهبي: ص 117.

  • 3
  • 1
  • 283
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    لا سواء... والعاقبة للمتقين كما هو الشّأن في كل أحداث التّاريخ التي تمرّ بها الأمم، لا تكون الحرب غالباً إلا سِجالاً بين الأمم المتحاربة المتكافئة في القوّة، ويشترك في هذه القاعدة كلّ من يخوض الحروب سواء كانوا من أهل الكفر أم من أهل الإيمان، قال الله تعالى (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ)، وكذلك قال أبو سفيان لملك الرّوم لمّا سأله عن الحرب بين قريشٍ والرّسول عليه الصّلاة والسّلام: (تكون الحربُ بيننا وبينه سِجالاً، يُصيب منَّا، ونُصيب منه)، وهي العبارة ذاتها التي قالها للرّسول عليه الصّلاة والسّلام بعد أُحدٍ (يومٌ بيومِ بدرٍ، والحربُ سِجالٌ)، فأبو سفيان رضي الله عنه تكلّم بالسُّنن التي يعرفها عن حياة الأمم، ولكنّ الذي غاب عنه أيّام جاهليّته أنّ الحرب التي يخوضها الرّسل وأتباعهم تختلف عن باقي الحروب لا في غاياتها فقط، وإنّما في أهميّتها ومآلاتها أيضاً، لذلك نجد أنَّ هرقل عظيم الرّوم بما لديه من بقيّة علمٍ من الكتاب ردّ على مقالة أبي سفيان فقال: (وكذلك الرسُل تُبْتَلَى، ثم تكون لها العاقبة)، وكذلك ردّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه على مقالته في أحدٍ فقال: (لا سواء، قتلانا في الجنّة، وقتلاكم في النّار) (رواه الحاكم وصحّحه). فهذا الفقه في المآلات الأخرويّة والدنيويّة لكلٍّ من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وعظيم الرّوم هرقل، يوضّح أنّ حرب الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام وأتباعهم، ليست كبقيّة الحروب في نتائجها، وإن اشتركتْ معها في حقيقتها ومجرياتها، فالرّسل وأتباعهم بثباتهم على الحقِّ، وصبرهم على جهاد أعدائهم، وعدم تركهم لأمر الله بقتالهم، تكون لهم العاقبة بنصر الله تعالى لهم، بعد مراحل عديدةٍ تمسّهم فيها البأساء والضّرّاء والزّلزلة، وكذلك فإنّ جيش الرّسل لا يشارك بقيّة الجيوش في الحال عند الانكسار وإن كان يشابهها في بعضٍ من نتائج الانتصار، وذلك أنّ جيوش الجاهليّة بانكسارها تكون قد خسرتْ كلّ شيءٍ، فيما المجاهدون يكونون بانكسارهم قد فازوا بما لا يُقارن بما خسروه من متاع الدّنيا وفرحة النّصر، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما مِنْ غازيةٍ أو سريّةٍ تغزو فتغنمُ وتسلمُ إلّا كانوا قد تعجّلوا ثُلثَي أُجورِهم، وما مِنْ غازيةٍ أو سريّةٍ تُخفق وتُصاب إلا تمّ أجورهم» (صحيح مسلم). مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 5 مقال: لا سواء... والعاقبة للمتقين

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً