الواجب عند تجدد النعم

منذ 2024-09-14

شكر النعم يكون بتذكُّرها وتذاكرها واعتراف القلب بفضل من أسدى النعمة سبحانه، ثم الشكر باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، رزقني الله وإياكم شكر نِعَمِه سبحانه.

الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وأرانا في خلقه وأمره شيئًا من عظمته، وأرانا في آياته ما يدل على وحدانيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنُّهى، وعلى من تَبِعهم بإحسان إلى يوم الملتقى، أما بعد:

التقوى جماع الخير كله؛ لذا تكرر في القرآن والسنة الأمر بها؛ فهي سبيل الرشاد والفلاح في الدنيا والآخرة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

 

 

إن الناظر فيما حوله يجد عظيم إنعام الله له في كل لحظة وسكنة، على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، فالحمد لله على نِعَمِه الظاهرة والباطنة والخاصة والعامة، فما تراه وتنعم به اليوم من اتفاق الكلمة ووحدة الصف بين العلماء وولاة الأمر، وما نرى ونشاهد من استتباب للأمن ورغد في العيش وضبط للأمن والحدود، نعم أصبحت مطلبًا ملحًّا وكبيرًا لدول شتى مجاورة والواجب كما يقول الإمام السعدي رحمه الله عند قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

 

فالذكر رأس الشكر؛ ولهذا أمر به خصوصًا، ثم أمر من بعده بالشكر عمومًا، فقال: {وَاشْكُرُوا لِي} على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، ثم قال: والشكر فيه بقاء النعم الموجودة وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

 

وإن شكر الله يكون باللسان والجوارح وقبل ذلك الجنان.

 

قال الحسن البصري رحمه الله: ما من رجل يرى نعمة الله عليه فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، إلا أغناه الله، وزاده من فضله.

 

وقال ابن القيم رحمه الله: لو رُزِق العبدُ الدنيا وما فيها، ثم قال: الحمد لله، لكان إلهام الله له بالحمد أعظمَ نعمة من إعطائه له الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا يزول وثواب الحمد يبقى.

 

وقال الفضيل بن عياض: من أكثر من قول الحمد لله، كثر الداعون، قيل له: ومن أين قلت هذا؟ قال: لأن كل من يصلي يقول: سَمِع اللهُ لمن حمده.

 

عبدالله، وعند تجدُّد النِّعَم يتأكَّد الشكر، فتأمل يا من تتقلب بالنعم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها»؛ (رواه مسلم).

 

وفي يوم أُحُد لما انكفأ المشركون كما يروي رفاعة بن رافع رضي الله عنه: لما كان يوم أُحُد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا مُقرَّب لما باعدت، ولا مُباعِد لما قرَّبت، ولا مُعْطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة (أي الحاجة) والأمن يوم الخوف، اللهم إني أعوذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعت، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق»؛ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، ج4، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في الأدب المفرد.

 

ويكون شكر الله بالجنان اعتراف القلب وخضوعه للمنعم، فهو دائم الفكر والاعتبار، شاعر بمنة مولاه عليه، ويكون الشكر بالعمل، قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

 

ومن تأمَّل في شريعتنا المباركة وجد عبادات كثيرة وقربًا متعددة شرعها الله لعباده شكرًا له على نعمه العظيمة وآلائه الجليلة، ومن ذلك سجود الشكر، يقول ابن القيم رحمه الله: وكان من هَدْيه صلى الله عليه وسلم وهَدْي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسُرُّ، أو اندفاع نقمة، كما في المسند من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسرُّه خَرَّ لله ساجدًا شكرًا لله.

 

ولما جاء خبر قتل مسيلمة سجد الصِّدِّيق لله شكرًا.

 

وسجود الشكر فيه تعبير عن حمد العبد لربه، ولأن النعمة المتجددة تسبب للشخص فرحًا وانبساطًا قد يجر إلى الأشر والبطر، فيأتي سجود الشكر لكي يطمئن هذه النفس، ويُظهِر الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى.

 

قال الشافعي رحمه الله: سجود الشكر سنة عند تجَدُّد نعمة ظاهرة، واندفاع نقمة ظاهرة.

 

ومن العبادات العقيقة: شكر لله على نعمة الولد، وذبح التمتع في الحج شكر لله

وتشرع صدقة الفطر إظهارًا لشكر نعمة الله على العبد ببلوغ رمضان وإكماله والفطر بعده؛ ولذا سميت زكاة الفطر.

 

ويشرع صيام عاشوراء شكرًا لله على نجاة موسى اقتداء برسولنا الذي صامه اقتداء بالكليم موسى عليهما الصلاة والسلام شكرًا لله.

 

وكان من هديه عليه السلام أنه يقوم ويطيل القيام حتى تتفَطَّر قدماه مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، فيقول: أفلا أكون عبدًا وشكورًا، كما روت أُمُّنا عائشة رضي الله عنها.

 

كما أن كل عبادة تتقرَّب بها لربك طاعةً وانقيادًا، هي شكر نعمة الإسلام كمن صام أو اعترف أو تصَدَّق أو قرأ شكرًا لله على نعمه، فكعب بن مالك رضي الله عنه وأبو لبابة تصَدَّقنا بماليهما شكرًا لله على قبول توبتهما.

 

فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أتخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

وأبو لبابة بن المنذر رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة، فقال عليه السلام: «يُجزي عنك الثلث»؛ (رواه أبو داود وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود).

 

قال ابن القيم: حمد الله فيه دليل على استحباب الصدقة عن التوبة بما قدر عليه من المال، وأبو هريرة أعتق عبدًا له لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر: وفي الحديث استحباب العتق عند بلوغ الغرض والنجاة.

 

عباد الله، على العبد التأمل في عظيم نعم الله، ثم ليتبع النعمة شكرًا، فبشكر النعم بقاء للموجود من النعم واستجلاب للمعدوم، والله من رحمته وعظيم معرفته بعباده قررهم بنعمهم، ثم ختم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].

 

ورد في الأثر أن الله تعالى قال لداود: ألا تشكرني يا داود، قال: يا رب، كيف أشكرك ونعمة الشكر من عندك، فقال: الآن يا داود.

 

سبحان الله! ما أكرم الله! النعمة منه، ثم التوفيق للشكر منه، والشكر منه، فاللهم لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك سبحانك.

 

عباد الله، وإن من قبيح العمل أن يعصي الله العبد بعد إنعام الله عليه {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، يا سبحان الله! يعصي الله بنعمه التي أنعم الله بها عليه؛ كالسمع والبصر، وما أعظم كلام أبي الدرداء حين جلس يبكي يوم فتح قبرص! فقيل له: ما يبكيك في يوم أعَزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: دعنا منك يا جبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل! إذا تركوا أمره بينما هم أمة قاهرة قادرة إذ تركوا أمر الله عز وجل فصاروا إلى ما ترى.

ويكون الوعيد الشديد بعد العصيان بعد قوة الآية الواضحة الظاهرة، ألم تسمع بتوعُّد الله على أصحاب المائدة من قوم عيسى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115].

شكر النعم يكون بتذكُّرها وتذاكرها واعتراف القلب بفضل من أسدى النعمة سبحانه، ثم الشكر باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، رزقني الله وإياكم شكر نِعَمِه سبحانه.

  • 2
  • 0
  • 472
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} • وعن أسباب هذا الهوان والذل والاستضعاف، يطول الكلام وتكثر زواياه، لكننا نتناوله اليوم من زاوية أخرى، فنقول إن الهوان والذل الذي أصاب المسلمين سببه هجرهم مصدر عزتهم وهدايتهم، هجرهم كتاب ربهم، ليس هجر قراءته والترنم به وحفظه وتدشين الحلقات لذلك، بل هجر العمل به وتطبيقه، هجر اليقين بوعده وما جاء به، هجر نقله من السطور والصدور إلى أرض الواقع، ومن ذلك قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، فهو سبحانه لم يقل: هادنوهم! ولم يقل: سالموهم! بل قال: {قَاتِلُوهُمْ}، وعاتب الله المسلمين كثيرا بقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وساءلهم أكثر من مرة: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}، وتوعدهم لما تقاعسوا عن ذلك بقوله: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وبين لهم أنه غني عنهم وإنما يعود النفع عليهم لا عليه جل جلاله فقال: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وأخبرهم سبحانه بأنه قادر على إنزال النصر بدون جهاد فقال: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ}، وإنما شرع سبحانه الجهاد اختبارا وتمحيصا للعباد فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، ودلّهم على أن خيري الدنيا والآخرة في الجهاد وإن كرهته النفوس فقال: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، قال ابن كثير: "لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذراريهم، وأولادهم، وهذا عام في الأمور كلها، قد يحب المرء شيئا، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة، ومن ذلك القعود عن القتال، قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم". فبعد كل هذه الآيات الربانية التي دلت على طريق الخلاص؛ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؟، ألم يأن للذين آمنوا أن يستشعروا خطاب الله لهم في تلك الآيات؟ ألم يأن لهم أن تتحرك نفوسهم لرد عادية الكفر والظلم، ألم يأن لهم أن يهاجروا ويجاهدوا وينصروا إخوانهم؟ ألم يأن لهم أن يعلموا كم خسروا بتفريطهم في الجهاد؟ ثم ألم يأنِ للذين آمنوا أن يعرفوا أن ضريبة الجهاد أخف من ضريبة تعطيله وهجره، فلا يوجد أدنى مجال للمقارنة بين من سقطوا قتلى -مثلا- في معركة شقحب ضد التتار، ومن أخذهم سيل التتار الجارف حتى وصل إلى الشام! وكيف يقاس ما قدمه المسلمون في حطين مع ما قدموه للصليبيين في حملاتهم إلى بيت المقدس؛ لا لن نقيس، ولن نقارن فلا وجه للمقارنة بحال بين الطاعة والمعصية، بين العزة والمذلة، فالمكاسب أعز وأوفر من ذلك، بل على العكس تماما سنعمد للمقارنة والتذكير بما جرته علينا السلامة والموادعة اللتان أدتا لسقوط الأندلس وسفك الدماء وانتهاك الأعراض المسلمة، فذلك قد كان أضعافا مضاعفة عما أوصلنا له الإقدام والجهاد في فتحها يوم كانت تعلوها راية الإسلام. ألم يأن للذين آمنوا أن يدركوا كل ذلك، فيخلعوا هوان القعود وضعف الفرقة، ويكسبوا عز الجهاد وقوة الجماعة، أيحتاج الأمر مزيدا من الجراحات والمجازر، أم طال العهد فقست القلوب وتحجرت؟! هكذا دلنا الله تعالى في كتابه على طريق النجاة والخروج من نفق الذل والتيه الذي يعيشه أكثر أهل القبلة اليوم، وليس هناك طرق أخرى، فإما أن تبادر وتمتثل الأمر الإلهي بالجهاد والنفير لتقلب الطاولة على رؤوس الطواغيت وتقلب الواقع رأسا على عقب، أو تقعد وتجبن وتتثاقل وتتخلف عن قافلة الجهاد فتنال بذلك خسارة الدنيا والآخرة، أو تسلك طريق نبيك وصحابته فتفوز كما فازوا وتعز كما عزوا، والجزاء من جنس العمل. المصدر: افتتاحية النبأ صحيفة النبأ الأسبوعية العدد 460 الخميس 9 ربيع الأول 1446 هـ
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} • وعن أسباب هذا الهوان والذل والاستضعاف، يطول الكلام وتكثر زواياه، لكننا نتناوله اليوم من زاوية أخرى، فنقول إن الهوان والذل الذي أصاب المسلمين سببه هجرهم مصدر عزتهم وهدايتهم، هجرهم كتاب ربهم، ليس هجر قراءته والترنم به وحفظه وتدشين الحلقات لذلك، بل هجر العمل به وتطبيقه، هجر اليقين بوعده وما جاء به، هجر نقله من السطور والصدور إلى أرض الواقع، ومن ذلك قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، فهو سبحانه لم يقل: هادنوهم! ولم يقل: سالموهم! بل قال: {قَاتِلُوهُمْ}، وعاتب الله المسلمين كثيرا بقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وساءلهم أكثر من مرة: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}، وتوعدهم لما تقاعسوا عن ذلك بقوله: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وبين لهم أنه غني عنهم وإنما يعود النفع عليهم لا عليه جل جلاله فقال: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وأخبرهم سبحانه بأنه قادر على إنزال النصر بدون جهاد فقال: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ}، وإنما شرع سبحانه الجهاد اختبارا وتمحيصا للعباد فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، ودلّهم على أن خيري الدنيا والآخرة في الجهاد وإن كرهته النفوس فقال: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، قال ابن كثير: "لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذراريهم، وأولادهم، وهذا عام في الأمور كلها، قد يحب المرء شيئا، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة، ومن ذلك القعود عن القتال، قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم". فبعد كل هذه الآيات الربانية التي دلت على طريق الخلاص؛ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؟، ألم يأن للذين آمنوا أن يستشعروا خطاب الله لهم في تلك الآيات؟ ألم يأن لهم أن تتحرك نفوسهم لرد عادية الكفر والظلم، ألم يأن لهم أن يهاجروا ويجاهدوا وينصروا إخوانهم؟ ألم يأن لهم أن يعلموا كم خسروا بتفريطهم في الجهاد؟ ثم ألم يأنِ للذين آمنوا أن يعرفوا أن ضريبة الجهاد أخف من ضريبة تعطيله وهجره، فلا يوجد أدنى مجال للمقارنة بين من سقطوا قتلى -مثلا- في معركة شقحب ضد التتار، ومن أخذهم سيل التتار الجارف حتى وصل إلى الشام! وكيف يقاس ما قدمه المسلمون في حطين مع ما قدموه للصليبيين في حملاتهم إلى بيت المقدس؛ لا لن نقيس، ولن نقارن فلا وجه للمقارنة بحال بين الطاعة والمعصية، بين العزة والمذلة، فالمكاسب أعز وأوفر من ذلك، بل على العكس تماما سنعمد للمقارنة والتذكير بما جرته علينا السلامة والموادعة اللتان أدتا لسقوط الأندلس وسفك الدماء وانتهاك الأعراض المسلمة، فذلك قد كان أضعافا مضاعفة عما أوصلنا له الإقدام والجهاد في فتحها يوم كانت تعلوها راية الإسلام. ألم يأن للذين آمنوا أن يدركوا كل ذلك، فيخلعوا هوان القعود وضعف الفرقة، ويكسبوا عز الجهاد وقوة الجماعة، أيحتاج الأمر مزيدا من الجراحات والمجازر، أم طال العهد فقست القلوب وتحجرت؟! هكذا دلنا الله تعالى في كتابه على طريق النجاة والخروج من نفق الذل والتيه الذي يعيشه أكثر أهل القبلة اليوم، وليس هناك طرق أخرى، فإما أن تبادر وتمتثل الأمر الإلهي بالجهاد والنفير لتقلب الطاولة على رؤوس الطواغيت وتقلب الواقع رأسا على عقب، أو تقعد وتجبن وتتثاقل وتتخلف عن قافلة الجهاد فتنال بذلك خسارة الدنيا والآخرة، أو تسلك طريق نبيك وصحابته فتفوز كما فازوا وتعز كما عزوا، والجزاء من جنس العمل. المصدر: افتتاحية النبأ صحيفة النبأ الأسبوعية العدد 460 الخميس 9 ربيع الأول 1446 هـ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً