مظاهر وسطية أهل السنة والجماعة في العقيدة

منذ 2024-10-01

وسطيَّتهم في باب أسماء الله وصفاته - وسطيتهم في باب القدر - وسطيتهم في باب الوعد والوعيد - وسطيتهم في باب الأسماء والأحكام - وسطيَّتهم في باب الصحابة - وسطيتهم في الجمع بين الأخذ بالأسباب وبين التوكُّل.

ومن أبرز سمات الوسطية عند أهل السُّنَّة والجماعة: وسطيَّتهم بين الفِرق والطوائف في باب الاعتقاد، فتراهم وسطًا في كل أبواب العقيدة ومن ذلك وسطيَّتهم فيما يلي:

 

أولاً: وسطيَّتهم في باب أسماء الله وصفاته

أما أهل السنة فلم ينفوا الأسماء والصفات عن الله -تعالى- ولم يشبهوا الله بالمخلوقات، فمنهجهم قائمٌ على إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، على حد قوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، فسلموا من الآفتين، ومضوا في سواء السبيل.

يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: " فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسطٌ بين أهل التعطيل الذين يُلحدون في أسماء الله وآياته، ويُعطلون حقائق ما نعت الله له به، حتى يشبِّهوه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذي يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.

 

فيؤمن أهل السُّنَّة والجماعة بما وصَف الله به نفسه، وما وصَفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل[1].

 

ثانيًا: وسطيتهم في باب القدر:

إنَّ أهل السُّنَّة وسط كذلك في باب القدر بين الجبرية؛ الذين يزعمون أنَّ العبد ليس له مشيئة، وأنَّه مجبور على فعله، ليس له فيه مشيئة ولا اختيار، فهو عندهم كالورقة في مهبِّ الريح، وإنما تُنسَب الأعمال إليه مجازًا، وإلا فالفاعل الحقيقي هو الله -تعالى- وبين القدريَّة الذين لا يؤمنون بقُدرة الله الشاملة ومشيئته النافذة، ويقولون: إنَّ أفعال العباد ليست داخلةٌ تحت القضاء والقدر، فالله عندهم لا يُقدِّر على العباد أفعالهم، وليست لمشيئته تعلقٌ بها، فلا يهدي الله ضالًّا، ولا يضلُّ مهتديًا، وإنما العبادُ هم المحدثون لأفعالهم الخالقون لها[2].

 

أمَّا أهل السُّنَّة، فتوسَّطوا في هذا الباب بين هذين الباطلين؛ حيت يعتقدون أنَّ للعبد مشيئةً واختيارًا، وأنَّه الفاعل الحقيقي لأفعاله، وأنَّ مشيئته تحت مشيئة الله تعالى؛ كما قال – تعالى -: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].

 

فقوله تعالى في الآية: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، ردٌّ على الجبرية نفاة مشيئة العبد، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، رَدٌّ على القدرية نفاة مشيئة الربِّ، فالوسط قول أهل السُّنَّة الذين يُثبِتون للعبد المشيئة، ويجعلونها تحت مشيئة الله تعالى.

 

ثالثًا: وسطيتهم في باب الوعد والوعيد:

يقول الباحثُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ بِمَنِّهِ -: إنَّ أهل السُّنَّة والجماعة وسطٌ كذلك بين الفرق في باب الوعد والوعيد، فهم وسط بين المرجئة والوعيديَّة من الخوارج وغيرهم. فالمرجئة أعمَلُوا نصوص الوعد وأهملوا نصوص الوعيد، والوعيديَّة أعملوا نصوص الوعيد وأهملوا نصوص الوعد، أمَّا أهل السُّنَّة فوسط بين هؤلاء وهؤلاء؛ فأعملوا نصوصَ الوعد والوعيد معًا، فلم يُهملوا الوعيد إهمالَ المرجئة، ولم يهملوا الوعدَ إهمالَ الوعيديَّة، بل جمعوا بينهما، وتعبَّدوا الله بهما جميعًا، ومنهجهم هذا هو منهج القُرآن والسنة، وهو منهج وسطي ما بين الترهيب والترغيب، وما بين الخوف والرجاء، جنَّة؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، ويكونون بذلك قد سلكوا مسلكًا وسطًا عدلًا خيارًا بين هاتين الضلالتين الكبيرتين.

 

رابعًا: وسطيتهم في باب الأسماء والأحكام[3]:

إنَّ أهل السُّنَّة وسط في هذا الباب بين الحروريَّة الخوارج والمعتزلة الذين يسلبون اسمَ الإيمان عن مرتكب الكبيرة، فيُسمِّيه الخوارج كافرًا، ويجعله المعتزلة في منزلةٍ بين المنزلتين، أمَّا في الآخِرة فاتَّفق الفريقان على أنَّ مَن مات على كبيرةٍ لم يتبْ منها أنَّه مخلد في النار، وبين المرجئة الجهمية الذين يقولون: إنَّ مرتكب الكبيرة مؤمنٌ كامل الإيمان، وارتكاب الكبائر لا يُؤثرُ في الإيمان، أمَّا أهل السُّنَّة فتوسَّطوا حيث قالوا: مرتكب الكبيرة دون الشرك مؤمنٌ ناقص الإيمان، فلا يُعطى الاسم على الإطلاق، ولا يُسلَبُه على الإطلاق، هذا من حيث الاسم، أمَّا حكمه في الآخِرة فهو تحت مشيئة الله، إنْ شاء غفر له وإن شاء عذَّبه على قدر ذنبه، ثم أخرجه من النار فلا يُخلَّد فيها [4].

 

خامسًا: وسطيَّتهم في باب الصحابة:

من مظاهر وسطيَّة أهل السُّنَّة والجماعة في الاعتقاد أيضًا: توسُّطهم في الصحابة - عليهم رضوان الله - بين الخوارج النواصب الذين كفَّروا عليًّا - رضي الله عنه - وطائفة كبيرة من الصحابة، واستحلُّوا دماءهم، وبين الرافضة الذين غلوا في عليٍّ وأهل بيته حتى فضَّلوه على أبي بكر وعمر.

 

أمَّا أهل السُّنَّة والجماعة، فمنهجهم عدلٌ ووسط مع الصحابة، فلم يُكفِّروا أحدًا منهم، أو يتبرَّؤوا منهم، بل أنزلوهم منازلَهم التي يستحقُّونها، فأحبوهم ووالَوْهم ودَعَوْا لهم، وترضَّوْا عنهم، ولم يقعوا في أحدٍ منهم أو ينتقصوه، ويعتقدون أنهم خيرُ الناس بعدَ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولم يَغلُوا في عليٍّ أو غيره، أو يعتقدوا العصمةَ لأحدٍ من الصحابة[5].

 

فعقيدتهم في الصحابة - عليهم رضوان الله - على وفق قوله - تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

 

سادسًا: وسطيتهم في الجمع بين الأخذ بالأسباب وبين التوكُّل:

ومن مظاهر الوسطيَّة في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة كذلك، وسطيَّتهم في الجمع بين التوكُّل على الله وبين الأخذ بالأسباب معًا، على وفق قولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم: " «احرِصْ على ما ينفعُك، واستَعِنْ بالله» "[6]، فقوله: "احرِصْ على ما ينفعُك" أمرٌ بكلِّ سببٍ ديني ودنيوي، بل أمرٌ بالجدِّ والاجتهاد فيه نيَّة وهمَّة، وفعل وتدبير، وقوله: "واستعِنْ بالله" أمرٌ بالإيمان بالقضاء والقدر والتوكُّل على الله في جلب المنافع ودفع المضارِّ.

 

فهم يعتقدون أنَّ التوكُّل لا بُدَّ فيه من الجمع بين الأمرين: فعل السبب، والاعتماد على المسبِّب وهو الله، فمَن عطَّل السبب وزعم أنَّه متوكِّل، فهو في الحقيقة متواكل مغرور مخدوع، وفعله هذا ما هو إلا عجزٌ وتضييع وتفريط، ومَن قام بالسبب ناظرًا إليه، معتمدًا عليه، غافلًا عن المسبِّب، معرضًا عنه، فعمله هذا عجزٌ وخذلان، ونهايته ضياع وحرمان[7].

 

فهم لا ينكرون الأسباب، ولا تأثيرها إذا ثبتت شرعًا أو قدرًا، ولا يَدَعُون الأخذ بالأسباب، وفي الوقت نفسه لا يلتفتون إليها، ولا يرون أن هناك تنافيًا بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب؛ لأن نصوص الشرع حافلة بالأمر بالتوكل على الله، والأخذ بالأسباب المشروعة أو المباحة في مختلف شؤون الحياة، فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، والتزود للأسفار، واتخاذ العدة في مواجهة العدو؛ قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15]، وقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} [الأنفال: 60].

 


[1] معجم مقاييس اللغة: (6 /108).

[2] مجموع الفتاوى: (3 /373).

[3] المراد بالأسماء هنا أسماء الدِّين مثل: مسلم، مؤمن، كافر، فاسق، أمَّا الأحكام فالمراد به أحكام أصحاب هذه الأسماء في الدُّنيا والآخرة، ينظر: "الفتاوى" (3/ 38).

[4] ينظر: مجموع الفتاوى: (7/ 673 - 679)، و"وسطية أهل السنة" ص (335 - 339).

[5] ينظر: "شرح الواسطية"؛ للرشيد ص (202 - 204)، و"وسطية أهل السنة" ص (399).

[6] رواه مسلم في "صحيحه" برقم (2664) من حديث أبي هريرة.

[7] الفوائد المنثورة: (ص35-37).

_________________________________________________
الكاتب: الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي

  • 1
  • 0
  • 494

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً