أيها السلفيون! استقيموا يرحمكم الله
يحمل الروائي المصري المعروف جمال الغيطاني مشاعر خاصة تجاه التيارات الدينية عموماً، والسـلفيين خصوصاً.
ولا عجب في ذلك؛ فالرجل عَلماني حتى النخاع، وتجلَّت مشاعره الفياضة في تعليقه على الظهور السلفي في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير.
يقول الغيطاني: "لست خائفاً من النشاط السلفي، ولست منزعجاً من السلفيين؛ فالثورة كشفت عن الحفر التي تعيش بها الثعابين، ويمكننا مقاومتهم بكل سهولة" [1].
لا أدري حقيقة كيف سيستفيد الأستاذ غيطاني من هذا الكشف المذهل حول "ثعبانية" السلفيين؛ هل يمكن أن يقترح - مثلاً - تعليق نبات "الشيح" على اللجان الانتخابية ومبنى مجلس الشعب لإبعاد السلفيين؟ أم سيلجأ إلى السحرة الشعبيين لصرفهم؟ أم تراه سيؤذنهم ثلاثاً خشية أن يكونوا من الجن؟
في مواجهة هذا الاتهام "الثعباني" يبدو الاتهام الآخر للسلفيين بـ (أنهم خرجوا من الكهوف) مهذباً ورقيقاً؛ فعلى الأقل في هذه الحالة يحتفظ السلفيون بـ "إنسانيتهم"؛ فقد أصبح نفي التهم عن التيارات السلفية الآن يتضمن هذا المعنى؛ حتى إن الدكتور محمد سليم العوا على الرغم من الخلافات الفكرية بينه وبين السلفيين في بعض القضايا، إلا إنه اضطر لتوضيح هذه الحقيقة فقال: "إن السلفيين ليسوا غيلاناً" [2].
أما وقد ثبت ذلك بالأدلة القاطعة، وأن السلفيين لم يأتوا من المريخ، وأنهم يسكنون الأرض منذ مئات السنين، فقد لجأ العلمانيون إلى تحليلات أخرى للفكر السلفي.
نظم المجلس الأعلى للثقافة (وهو هيئة حكومية تابعة لوزارة الثقافة) ندوة موسعة تحت عنوان "الجماعة السلفية في مصر"، تحملت تكلفتها - طبعاً - ميزانية الوزارة، وشهدت الندوة هجوماً ضارياً على الفكر السلفي، وتبارى باحثون وأكاديميون في توجيه التهم وإلصاق الأفكار الشاذة بالسلفيين.
تحدث في الندوة باحث تاريخي يُدعى محمد حافظ دياب، فقال: "إن السلفية تعد بالنسبة للولايات المتحدة خطاً أحمر؛ نظراً لما تعانيه من جماعات سلفية أخرى مثل حزب الله اللبناني"! وقال دياب: "إن السلفيين حولوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى "دورة مياه"، وإنهم يصفون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه "ساعي القرآن"، وأضاف: "إن السلفيين يُحرِّمون النوم على البطن، والسفر إلى بلاد الشرك، وارتداء النظارة، وترك السواك، وقراءة الصحف، وإنهم يلزمون المرأة بعدم استعمال اليد اليسرى، وأنها يجب أن تسير في الطريق وراء محرمها، وأن تبتعد عن وسائل الإعلام"، لكنه في الوقت نفسه يقول: "إن السلفيين يملكون 36 قناة فضائية" [3].
لقد كان الظهور السلفي بعد الثورة مفاجئاً وقوياً وصادماً، حتى أنه اصطدم بـ "رأس" العَلمانيين فأصابها بـ "هلوسة" فكرية تجلَّت مظاهرها لكل متابع ومراقب للشأن المصري، وهي "هلوسة" موروثة ومعهودة تتكرر دوماً عندما يُصاب أعداء الدين بصدمة عصبية جراء رؤيتهم تنامي الإسلام وارتفاع رايته، فينصرفون عن الاتعاظ بعلو الدين إلى تكلُّف أسباب زائفة لظهوره ورفعته، وهذه "الهلوسة" وصفها القرآن الكريم في قوله تعالى: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إنْ هَذَا إلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 18 - 25].
للإنصاف أقول: لا يمكن إنكار أن السلفيين لعبوا دوراً كبيراً في مساعدة العَلمانيين على مهاجمتهم؛ فمن المسلَّم به أن كيانات العَلمانيين وأفرادهم يتغذون على أخطاء الإسلاميين، فتنمو أجسادهم وتكبر أفكارهم بها، وإذا ما توقف الإسلاميون عن ارتكاب الأخطاء فستحدث للعَلمانيين مجاعة فكرية قد لا يستقيم لهم عود بعدها.
إن واقع الأمر أن القوى العَلمانية لا تخشى من إخفاقات أو سلبيات التيارات السلفية؛ لكنها تخشى من نجاحها، ومن اعتدالها، ومن بُعدِها عن التطرف، ومن إقبال الناس عليها؛ فهم يطالبون السلفيين بالاعتدال والتسامح ثم يتمنون في أنفسهم ألا يفعلوا؛ لأنهم لو فعلوا فستزيد شعبيتهم ويرتفع مستوى إقبال الجماهير عليهم، وسيكون ذلك خصماً من رصيد العَلمانيين المتدهور أصلاً، وقطعاً للطريق السياسي عليهم، وهذا الخوف لا يشمل السلفيين وحدَهم، بل يتعداه إلى التيارات الإسلامية جميعها.
القطاعات السلفية الرخوة:
هناك ظاهرة خطيرة تعرِض للتيارات السلفية عندما تنتقل من حالة التضييق والخنق الدعوي، إلى حالة الانفتاح والحرية، هذه الظاهرة تتسبب في إفراز أغلب الأخطاء الصادرة عن التيارات السلفية، حيث تظهر للعيان مجموعات متفرقة - قديمة أو حديثة - تحمل أجندات مطالبَ جزئية لا تتناسب مع أولويات المرحلة ومتطلباتها، وتنطلق هذه المجموعات دون وعي واقعي أو استيعاب لما هو ممكن أو غير ممكن من الناحية السياسية؛ فتتحرك وَفْقَ رؤى تستند مباشرة على المبادئ والقيم؛ بغضِّ النظر عن كون القضية المتبنَّاة كُلية أو جُزئية، كبيرة أو صغيرة؛ فكل ما يندرج تحت مبدأ ديني كُلِّي يكتسب بدوره صفة "الكلِّيَة" بغض النظر عن قيمته الواقعية.
هذه المجموعات التي يكثر عددها ويتسع نشاطها في مناخ الانفتاح السياسي، يمكن وصفها بـ "القطاعات الرخوة" داخل بنية التيارات السلفية، ويعود ظهورها إلى عاملين رئيسيين:
العامل الأول: هو الطبيعة الفطرية للتدين السلفي:
فهو تدين تلقائي يمكن حدوثه بدون أي تدخلات خارجية، بمجرد الاطلاع على المصادر الأصلية للإسلام متمثلة في الكتاب والسُّنة، مع الكتب المفسِّرة لهما؛ وذلك مقارنة بتيارات إسلامية أخرى مثل جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال؛ حيث لا بد أن يسبق الانتماءَ إلى الجماعة تدخُّل خارجي وإعداد فكري ممنهج، بينما في الحالة السلفية حتى عندما يكون هناك تدخُّل خارجي يدفع إلى التدين، فإنه غالباً لا توجد أي إعدادت تتعلق بالانتماء.
هذه التلقائية في التدين والانتماء السلفي لها مميزاتها وسلبياتها، وأبرز السلبيات هو ضعف الأُطُر الفكرية لعدد كبير من المنتمين إلى السلفية، وهو ما يجعلهم قطاعات رخوة يسهل اندفاعها أو اختراقها أو توجيهها؛ على الرغم مما يحمله أفرادها من عواطف مخلصة ونيات صادقة.
العامل الثاني: ضعف الأطر التنظيمية:
توجد عدة أشكال تنظيمية للمجموعات السلفية في مصر:
• نموذج الشيخ والأتباع: ويمكن تشبيهه بنقطة (الشيخ) أمامها خط مستقيم (الأتباع)؛ فكلما ابتعد الشخص أو الأشخاص عن القطاع المقرَّب من الشيخ، كان تأثُّره أضعف وارتباطه متدنٍّ؛ فيكون الأشخاص الذين هم على طرفي الخط من الجانبين بمثابة قطاعات رخوة، ويمكن أن يجمع عدد كبير من أفراد السلفيين بين الانتماء لأكثر من "نقطة" (شيخ) في الوقت نفسه.
• نمط التيار العام: الذي يمتلك منطقة تنظيمية مركزية يحيط بها دوائر من الأتباع المرتبطين (أدبياً أو علمياً) مع هلامية الارتباط التنظيمي؛ فيكون الانتماء هنا أشبه بالغطاء الذي يتمدد ليشمل مجموعات سلفية متفرقة؛ يتوفر لديهم الالتزام الأدبي والمنهجي بتبعيتهم للمركز دون أن يكون هناك هياكل تنظيمية أو إدارية واضحة يُمارَس العمل من خلالها، وهذا النموذج يُنتِج أيضاً قِطاعات رخوة، ولكن بدرجة أقل من سابقه.
• نموذج الجماعة ذات الإطار الفكري والتنظيمي المحكم: وهي تشبه المركز الذي تحيط به دائرة، فيكون ارتباط كافة القطاعات بالمركز على درجات متساوية من القوة، وفي هذا الشكل تكون القطاعات الرخوة في حدها الأدنى؛ ولكن هذا النموذج هو الأقل انتشاراً في الأوساط السلفية.
الانكشاف السلفي:
هناك ظاهرة أخرى تُصاحب التيارات السلفية عندما تنتقل من الضيق إلى السعة؛ وهي "حالة انكشاف" شاملة لها ثلاثة مجالات:
1- انكشاف فكري منهجي:
حيث يواجهون ظروف معقدة ومتشابكة دون غطاء فكري، ومن المعروف أن شكل التلازم بين الفكر والحركة يؤثر بدرجة كبيرة على أداء الجماعة أو التيار؛ فالوضع السليم أن يسبق الفكرُ الحركة بقدر مناسب فتنطلق الجماعة وَفْقَ رؤى واقعية مسبقة دون ارتباك أو غموض؛ لكن في بعض الأحيان يتأخر الفكر عن الحركة فيصطبغ الأداء بالعشوائية والتذبذب، وفي أحيان أخرى يسبق الفكرُ بمسافة أطول من اللازم، فتُغرق الجماعة في التنظير وتبتعد عن الواقع.
2- انكشاف إعلامي:
حيث لم تستطع التيارات السلفية حتى الآن صياغة خطاب إعلامي يتناسب مع خطورة المرحلة التي يمر بها العمل الإسلامي؛ فلا يزال الخطاب الإعلامي السلفي مفتقـداً لـ "الجدلية" والقدرة على الإقناع؛ فهو خطاب يُناسب في الأساس الموالين والأنصار وليس المخالفين، كما أنه خطاب لا يفرق بين الداعية الذي يجلِّي الحق للناس دون مواربة، وبين الإعلامي الذي يجب أن يجيد فن المناورة والمداراة.
3- انكشاف تنظيمي:
فالنماذج التنظيمية التي سبقت الإشارة إليها، والتي تصف الواقع السلفي المصري، لا يتوائم منها مع الواقع الحالي إلا النموذج الثالث الأقل انتشاراً؛ على الرغم من أنه النموذج الوحيد الذي يضمن أُطُراً فكرية وتنظيمية قوية للمنتمين إلى التيارات السلفية، بالدرجة التي تقلل من ارتكاب الأخطاء والزلات والاجتهادات الفردية المغردة خارج السرب.
إن السلفيين يُفترض بهم أن يكونوا من أكثر الناس حفاظاً على الصلاة في المساجد؛ حيث يصطفون في مشهد عجيب مهما كثر عددهم وتباعدت صفوفهم، وبمجرد أن يبلغ مسامعهم نداء الإمام: "استقيموا.." يبادرون على الفور الكتف في الكتف والقدم في القدم؛ فلا بروز مخالف إلى الأمام، ولا ثغرة ينفذ منها الشيطان.
ما أشد حاجة السلفيين الآن إلى محاكاة مشهد الصلاة في أدائهم الدعوي، وحَراكهم السياسي، وتواصلهم مع المجتمع، إن نداء "استقيموا" يجب أن يبقى حاضراً في أذهانهم دوماً وفي كل حين؛ فلا يبرز منهم بارز إلى الأمام فيشوش على الصف، ولا يتأخر أحدهم إلى الخلف أو ينكمش في مكانه فيفتح بمسلكه ثغرات لشياطين الإنس كي ينفذوا منها إلى الصف الإسلامي.
إن القطاعات الرخوة والأشكال التنظيمية الباهتة لم تعد تناسب هذه المرحلة التي يمر بها العمل الإسلامي في مصر؛ فيجب على القادة والرموز والعقلاء أن يبادروا إلى تقوية وتدعيم الأطر الفكرية والتنظيمية للتيارات السلفية وتمديدها؛ لكي تستوعب كافة المجموعات المتفرقة الموجودة على الساحة؛ وهذه المهمة لها أولوية على تأسيس الكيانات والهيئات والمؤسسات التي تنطلق من تجمعات جزئية؛ لأنها تعيد إنتاجاً للتفرُّق السلفي، كما أنها تركِّز على النخبة دون اهتمام بالأغلبية السلفية "الصامتة"، بينما الأولوية المطلقة يجب أن تكون للتجميع لا التفريق.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن يندمج السلفيون في إطار واحد؛ فلا بأس من تعدد الكيانات؛ إذ الهدف من ذلك هو استيعاب المجموعات "السائبة" والأفكار "الشاردة" حتى لا تؤثر بأدائها وعملها على المجموع السلفي؛ فقبل أكثر من ثلاثين عاماً لم تكن المجموعة التي اغتالت الرئيس السابق أنور السادات تشكِّل أغلبية وسط السلفيين؛ ولكنها باجتهادها المنفرد بعيداً عن السلفيين والإسلاميين بصفة عامة وضعت التيارات الإسلامية جميعها في حالة من الضيق والاختناق استمرت ثلاثين عاماً.
ما أشد حاجتنا الآن إلى دعاة ورموز ينطلقون في أوساط السلفيين وهم يحملون نداءً واحداً: "استقيموا.. يرحمكم الله".
_______________
[1] اليوم السابع: 19 / 4 / 2011م.
[2] اليوم السابع: 17 / 5 / 2011م.
[3] الوفد 17 / 5 / 2011م.
الكـاتب: أحمد فهمي
- التصنيف: