وكان الإنسان قتورا

منذ 2024-11-19

في مُدارسة صفات الإنسان معرفة كمال صفات الله تعالى؛ إذِ الشَّيء يُعرف بضدِّه، وقد جُبل الإنسان على كثيرٍ من الصِّفات السَّلبية؛ لِيُبتَلى بها في رحلة تزكية النَّفس الطويلة

في مُدارسة صفات الإنسان معرفة كمال صفات الله تعالى؛ إذِ الشَّيء يُعرف بضدِّه، وقد جُبل الإنسان على كثيرٍ من الصِّفات السَّلبية؛ لِيُبتَلى بها في رحلة تزكية النَّفس الطويلة: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 7 - 9].

 

فالإنسان غَضُوب، والله تعالى حليم، وهو بَخيل مَنُوع، والله تعالى كريم جواد، وهو عَجُول، والله تعالى حكيم، لو يُؤاخِذُ الناس بِما كسبوا ما ترك عليها من دابَّة.

 

كما أنَّ في مُدارسة صِفات الإنسان مُعالَجتَها، سواء معالجتها في ذوات أنفُسِنا أو في الآخَرِين، فلا تستقيم للإنسان نفْسُه وهو يَجْهل طبائِعَها التي جُبلت عليها، ولا يستقيم للإنسان إحسانُ معاملة الناس حوله وهو يَجْهل صفات نفوسهم.

 

لأجل هذا كلِّه نتدارس نفس الإنسان وما انطوَتْ عليها من صفات، نتدارَسُها في رحاب القرآن، بعيدًا عن الزَّلل في التَّحليل، وبعيدًا عن القصور في التَّجْرِبة، وبعيدًا عن مادِّية النظريَّات التي لا تستطيع التحليق في عالَم الرُّوح، نتدارسها بالتلقِّي عن ربِّ البشر وفاطرهم، الذي يَعْلم خلقه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

 

يقول ابن جرير الطَّبَريُّ - رحمه الله -: "يقول - تعالى ذِكْرُه -: {أَلا يَعْلَمُ} الربُّ - جلَّ ثناؤه - {مَنْ خَلَقَ} مَن خلقَه؟ يقول: كيف يَخْفى عليه خلْقُه الذي خلق {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الْخَبِيرُ} بِهم وبأعمالهم؟؛ (تفسير الطبري).

 

ومن تلك الآيات البيِّنات التي جلَّى الله تعالى فيها صفة من صفات الإنسان - آيةُ سورة الإسراء: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]، وقد تضمَّنَت تلك السُّورة جُمْلة كبيرة من صفات الإنسان التي ذكَرَها الله تعالى.

 

فوصف فيها الإنسان بأنه كان عجولاً، وكَفورًا، وقتورًا.

 

يقول الله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100].

 

فلو أنَّ البشر ملكوا خزائن أملاك الله من مال وغيره، والتي هي من رَحْمته، والتي لا تَنْفَد ولا تفرغ أبدًا، كما في الحديث: «يا عبادي، لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم، وإنسكم وجِنَّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطَيْتُ كلَّ إنسان مسألته، ما نقص ذلك مِمَّا عندي إلاَّ كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر»؛ " (مسلم من حديث أبي ذر) "، فلو أنَّهم ملكوا هذه الخزائن لأمسكوا فلا ينفقون منها شيئًا؛ خشية الفقر والفاقة! فالإنسان طُبع قتورًا بَخيلاً مَنُوعًا.

 

كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21]، وكما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53].

 

وجاء التعبير عن المال وسائر المنافع بالرَّحْمة؛ لِمَا يحصل به من رَحْمة للخَلْق، كما جاء التعبير به في غَيْر آية بالخَيْر، ولتلك الإشارة إلى الرحمة دلائِلُها الواضحة، فهي تعني أنَّ رِزْق الله للعباد مصدَرُه رحمته بِهم، وفي ضمن ذلك حَثٌّ لنا على رحمة بعضنا لبعض نحن البشر، وذلك بالإنفاق وترك البُخْل والمنع، يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «الرَّاحمون يَرْحَمُهم الرحمن - تبارك وتعالى - ارْحَموا مَن في الأرض يرحَمْكم من في السماء»؛ (أحمد وأبو داود والتِّرمذي وغيرهم من حديث ابن عمرو، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

 

والمرء قد يتصوَّر الإنسان يبخل بالمال القليل، يدَّخِره لنفسه ويَخْشى إنفاقه، لكنَّه لا يتصوَّر أبدًا الإنسان وهو يَمْنع الناس ما لا ينقص ولا يزيد في ملكه، كهؤلاء الذين يَمْنعون الناس لِمُجرَّد المنع والإمساك دونَهم، يَمْنعونهم حقوقهم لا فضلهم هم عليهم، يَمْنعونهم إتمام مصالح معاشهم، ويمنعونهم ما لا ضرر لهم في إنفاذه!

 

وانظر موظَّفًا يتقاضى الأجر على إتْمام مصالح الناس، فيتفنَّن في تعطيلها، ويُقْسِم الأَيْمان الغليظة، لا للحصول على رِشْوة أو تكاسُلاً أو طلب مدح أو غير ذلك، فقط لأنَّ نفسه لا تطيق العطاء، أيَّ عطاء، ولو كان عطاء مدفوع الأجر مقدَّمًا!

 

وجاء التعبير في الآية بـ: {خَزَائِنَ} المَجموعة؛ لِتُفيد كثرة ما عند الله تعالى، وهو ما لو ملَّكه البشر لَبخِلوا بأقل شيء منه.

 

والآية تدلُّ على أنَّ مفهوم العطاء أكْبَر من بذل المال، بل يشمل كلَّ عطاء ولو معنويًّا، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أَبْخل النَّاس من بَخِل بالسلام»؛ البيهقي وأبو يَعْلى وغيرهما من حديث أبي هريرة، وصحَّحه الألبانِيُّ في "صحيح الجامع".

 

وفي الآية فوائد عدَّة نركز منها على فائدتين مهمتين:

قطْعُ كلِّ عالقة بغير الله تعالى:

إذْ هذا وصف الله تعالى للبشر، وإذا انقطع تعلُّق العبد بالعبد مثله في كلِّ شيء وإن دقَّ، تعلَّق قلبه بالله تعالى وحده، واقتصر سؤاله على الله تعالى وحده، فيعطيه أو يَمْنعه لِحِكمة يراها - تعالى.

 

والله تعالى إذا منع فإنَّما يَمْنع لِحِكمة، حكمة لصالح العبد الممنوع، قد يقف على أسرارها وقد لا، فهو سبحانه لا يَمْنع بُخْلاً أو فقرًا، كما تقول اليهود - لعنَهم الله - وكما يَمْنع الناسُ الناسَ، بل يَمْنع تعالى لِمَصلحة العبد، فيكون منعه تعالى على تلك الصُّورة عيْنَ العطاء.

 

والعبد ينفر إذا سأله العبد مالاً أو منفعة، والله تعالى يحبُّ أن يسأله عبْدُه وحده، ويرجو ما عنده تعالى وحده، ولأجل هذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ما يزال الرَّجل يسأل الناس حتَّى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزْعَة لَحْم»؛ (أخرجه الشَّيخان من حديث أبي هريرة، و"مزعة لحم"؛ أيْ: قطعة لحم).

 

تهذيب النفس وتزكيتها:

وإذا كانت تلك الصِّفة، صفة البخل والمَنْع، قد جُبِل عليها الإنسان، فإنَّ المؤمن قد أُمر بضدِّها، أُمِر بالإنفاق والعطاء والبذل، ولا يتحقَّق هذا له إلاَّ بتهذيب نفسه، وتربِيَتِها على أوامر الله - تعالى - ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

والمؤمن ينفق ويعطي؛ لأنَّ المال مال الله تعالى، وهو فقط مستخْلَف فيه؛ يقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].

 

وينفق كذلك لأنَّ ماله الحقيقيَّ ما قدَّم؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أيُّكم مالُ وارثِه أحبُّ إليه من ماله» ؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلاَّ ماله أحب إليه، قال: «فإن ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخَّر»؛ (أخرجه البخاريُّ من حديث ابن مسعود).

 

ويُنفق أيضًا لأنَّ المؤمنين كالجسد الواحد، فحقُّ أخيه في ماله كحقِّه هو فيه تَمامًا، فهل يمنع المرء نفسه؟ أو ولده وأهله؟

 

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

___________________________________________________
الكاتب: مركز جنات للدراسات

  • 2
  • 0
  • 130
  • عبد الرحمن محمد

      منذ
    معركتنا مع اليهود عقدية • فالمعركةُ مع اليهود معركةٌ دينيةٌ ليست وطنيةً ولا قومية! ليست بسبب الأرضِ ولا الترابِ ولا الحدود! بل هي معركةٌ تستمِدُ شرعيَّتَها من الكتاب والسنة، لا من الشرعية الدوليةِ ولا قوانيِنها الجاهلية، فالمسلمُ يقاتلُ اليهودَ لأنهم يهود كفروا بالله تعالى، وحاربوا أنبياءَه وناصبوا المسلمين العِداء، ولو لم يكنْ في تاريخ اليهودِ إلا قتلهم أنبياءَنا والطعنَ فيهم، لكان ذلك سببا كافيا لقتالهم حتى لو لم يُدنسوا الأقصى وفلسطين، فكيف وقد فعلوا كلَ ذلك وزادوا؟ ولذلك؛ فإن الحرب معهم ممتدةٌ حتى "معركةِ الحجرِ و الشجر"، ولن تنتهيَ الحربُ مع اليهودِ بحل الدولةِ ولا الدولتين، كما يؤمن بذلك الوطنيون ويطمحون، بل هي حربٌ دينيةٌ عقدية ستستمرُّ حتى نقتلَ دجالَهم تحت لواءِ نبيِ الله عيسى - عليه السلام - وعدَ الله، والله لا يخلف الميعاد. - مقتطف من كلمة صوتية {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} للشيخ المجاهد أبي حذيفة الأنصاري حفظه الله تعالى

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً