من درر العلامة ابن القيم عن العقوبة والعذاب
فالعقوبة والعذاب من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد: فالعقوبة والعذاب من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
[كتاب: الفوائد]
العقوبة بقسوة القلب:
ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.
[كتاب: التبيان في أيمان القرآن]
كان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم؛ فعذب عادًا بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء.
وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين.
وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم، وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان. وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة، فماتوا في الحال
[كتاب: روضة المحبين ونزهة المشتاقين]
أشدُّ العقوبات:
وأشد العقوبات العقوبة بسلب الإيمان, ودونها العقوبة بموت القلب, ومحو لذة الذكر, والقراءة, والدعاء, والمناجاة منه, وربما دبَّت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلئ القلب بها, فتعمى البصيرة, وأهون العقوبة ما كان واقعاً بالبدن في الدنيا, وأهون منها ما وقع بالمال.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
لا ينفع ولا ينجي من العذاب يوم القيامة إلا الصدق:
وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه, قال الله تعالى: {﴿ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾} [المائدة:119]
وقال جل وعلا: { ﴿ قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمۡۚ ذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ أَسۡوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾} [الزمر: 33-35] فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله, فالصّدق: في هذه الثلاثة.
لا ينجي من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم:
ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليمٍ
[كتاب: تحفة المودود بأحكام المولود]
العذاب في البرزخ على حسب الأعمال:
ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله ويُعذب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختص كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو؛ فتُقرض شفاهُ المغتابين الذين يمزقون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار، وتُسجر بطون أكلة أموال اليتامى بالنار، ويُلقم أكلة الربا بالحجارة، ويسبحون في أنهار الدم كما سبحوا في الكسب الخبيث، وتُرضُّ رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم، ويُشقُّ شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه، كما شقت كذبته النواحي، وتُعلق النساء الزواني بثديهن، وتحبس الزناة والزواني في التنور المحمى عليه، فيعذب محل المعصية منهم وهو الأسافل، وتُسلط الهموم والغموم والأحزان والآلام النفسانية على النفوس البطالة، التي كانت مشغولة باللهو واللعب والبطالة، فتصنع الآلام في نفوسهم كما يصنع الهوام والديدان في لحومهم، حتى يأذن الله سبحانه بانقضاء أجل العالم وطيِّ الدنيا.
[كتاب: الروح]
لتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب, وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه, وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن مُنعَّمة أو مُعذبة, وأنها تتصل بالبدن أحياناً فيحصل له معها النعيم أو العذاب, ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد, وقاموا من قبورهم لرب العالمين. ومعادُ الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
أكثر أصحاب القبور معذبين:
أكثر أصحاب القبور معذبين, والفائز منهم قليل, فظواهر القبور تراب, وبواطنها حسرات وعذاب, ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبينات, وفي باطنها الدواهي والبِليَّات تغلي بالحسرات, كما تغلي القدور بما فيها, ويحقّ لها, وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وعظت, فما تركت لواعظ مقالاً, ونادت: يا عمار الدنيا لقد أعمرتم داراً موشكة بكم زوالاً, وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً, عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكناها, خربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها.
عذاب القبر دائم ومنقطع:
عذاب القبر...نوعان:
نوع دائم, سوى ما ورد في بعض الحديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين, فإذا قاموا من قبورهم قالوا: {﴿ يَٰوَيۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜ هَٰذَا ﴾} [يس:52]
ويدل على دوامه قوله تعالى: { ﴿ ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّٗا وَعَشِيّٗاۚ ﴾} [غافر:46]
ويدلُّ عليه ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «فهو يفعل به بذلك إلى يوم القيامة»
النوع الثاني: إلى مدةٍ, ثم ينقطع, وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم, فيعذب بحسب جُرمه, ثم يخفَّفُ عنه, كما يعذب في النار مدة, ثم يزول عنه العذاب
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار, أو ثواب حج....
[كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]
من أبلغ العذاب:
ومن أبلغ العذاب في الدنيا تشتيت الشمل وتفرق القلب, وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه, ولولا سكرة عُشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب, على أن أكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه.
[كتاب: بدائع الفوائد]
العقوبة بالتثبيط عن مراضي الله وأوامره:
حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوءٍ:.....والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته, فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبةً لك, قال الله تعالى: {﴿ فَإِن رَجَعَكَ اللَّـهُ إِلى طائِفَةٍ مِنهُم فَاستَأذَنوكَ لِلخُروجِ فَقُل لَن تَخرُجوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقاتِلوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُم رَضيتُم بِالقُعودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقعُدوا مَعَ الخالِفينَ ﴾}
[كتاب: الداء والدواء]
الذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة
الذنب لا يخلو من عقوبة ألبتة,ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم فإذا استيقظ وصحا أحسَّ بالمؤلم
وقد تقارن المضرة للذنب, وقد تتأخر عنه يسيراً وإما مدة, كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه, وكثيراً ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام, ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه, ولا يدري أنه يعمل عمله على التدرج شيئاً فشيئاً, كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القُذة بالقذة, فإن تدارك العبد بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك, هذا إذا كان ذنباً واحداً لم يتداركه بما يزيل أثره, فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة ؟ والله المستعان
استحضر بعض عقوبات الذنوب ليكون ذلك داعياً إلى هجرانها
استحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه على الذنوب وجوز وصول بعضها إليك واجعل ذلك داعياً للنفس إلى هجرانها, وأنا أسوق لك منها طرفاً يكفي العاقل مع التصديق ببعضه:
فمنها: الختم على القلوب والأسماع, والغشاوة على الأبصار والإقفال على القلوب وجعل الاكنة عليها والرين عليها والطبع وتقليب الأفئدة والأبصار والحيلولة بين المرء وقلبه وإغفال القلب عن ذكر الرب وإنساء الإنسان نفسه وترك إرادة تطهير القلب وجعل الصدر ضيقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء وصرف القلوب عن الحق وزيادة مرضاً على مرضها, وإركاسها ونكسها بحيث تبقى منكوسة.
ومنها: جعل القلب أصم لا يسمع الحق, أبكم لا ينطق به أعمى لا يراه.
ومنها: الخسف بالقلب....وعلامة الخسف به أن لا يزال جوالاً حول السفليات والقاذورات والرذائل...قال بعض السلف: إن هذه القلوب جوالة فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحُشّ.
ومنها: مسخ القلب, فيُمسخ كما تمسخ الصورة, فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته, فمن القلوب ما يمسخ على خُلُق خنزير لشدة شبه صاحبه به ومنها ما يمسخ على خُلُق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك....وتقوى هذه المشابهة باطناً حتى تظهر في الصورة الظاهرة ظهوراً خفيفاً يراه المتفرسون وتظهر في الأعمال ظهوراً يراه كل أحد.
فسبحان الله....كم من مفتون بثناء الناس عليه, ومغرورٍ بستر الله عليه, ومستدرج بنعم الله عليه, وكل هذه عقوبات وإهانة, ويظن الجاهل أنها كرامة.
ومنها: نكسُ القلب حتى يرى الباطل حقاً والحق باطلاً والمعروف منكراً والمنكر معروفاً, ويُفسد ويري أنه يُصلح, ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليها, ويشترى الضلالة بالهدى وهو يرى أنه على الهدى, ويتبع هواه وهو يزعم أنه مُطيع لمولاه, وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلوب.
ومنها: المعيشة الضنك في الدنيا, وفي البرزخ, والعذاب في الآخرة, قال سبحانه وتعالى: ﴿ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} ﴾ [طه:124] فالمعرض عنه له ضنك المعيشة بحسب إعراضه, وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعيم, ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه, وإنما يواريه عنه سكر الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة., فالمعيشة الضنك لازمه لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في دنياه, وفي البرزخ, ويوم معاده
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: