أخلاق النبي مع العصاة والمخالفين
كان من أخلاق الرحمة، فهو يرحم العصاة والمذنبين، ويفتح لهم باب الأمل وباب الرجاء مهما ارتكب العبد من الذنوب والخطايا، فرَبُّ البرايا يغفر الرزايا
إخوة الإسلام، حديثنا اليوم مع خير الأنام صلى الله عليه وسلم؛ لنقف على جانب مشرق من جوانب أخلاقه التي هي رحمة للعالمين، لنقف مع جانب من جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم، وتعامله مع المذنبين والعصاة والمخالفين؛ ليعلم الجميع أن الإسلام ليس دين تشدُّد أو تكفير للمجتمعات، بل هو يحمل الرِّفق والرحمة للعصاة والمذنبين، ولقد رأينا وشاهدنا أناسًا يدعون العلم والإيمان، ثم هم يكفِّرون العصاة، ويقنِّطونهم من رحمة الله تعالى، فهذا في منهجهم كافر، وذلك مبتدع، وهذا فاسق، فقنَّطوا الناس من رحمة الرحمن الرحيم، ونفَّروهم من دين رب العالمين.
الأمل والرجاء:
إخوة الإسلام، كان من أخلاق الرحمة، فهو يرحم العصاة والمذنبين، ويفتح لهم باب الأمل وباب الرجاء مهما ارتكب العبد من الذنوب والخطايا، فرَبُّ البرايا يغفر الرزايا؛ عَنْ أَبِي الطَّوِيلِ شَطْبٍ الْمَمْدُودِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَلَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِهِ، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ، قَالَ: «هَلْ أَسْلَمْتَ»؟ قُلْتُ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «نَعَمْ لِيَفْعَلِ الْخَيْرَاتِ وَيَتْرُكِ الشِّرْكَ، يَجْعَلُهُنَّ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ»[1]؛ يقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
الرِّفق:
إخوة الإسلام، من صور أخلاقه صلى الله عليه وسلم: الرفق بالعصاة والمذنبين، وكان يعِظهم ويبيِّن لهم الحكمة التي شرَعها الله في تحريم الحرام، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا؟ قَالَ: فَصَاحَ الْقَوْمُ بِهِ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَقِرُّوهُ وَادْنُهْ»، فَدَنَا حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ» ؟، فَقَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ» ؟، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ»، قَالَ: «فَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ» ؟، قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ» - ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ كَذَلِكَ - قَالَ: فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، قَالَ: فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ بَعْدُ[2].
الستر:
إخوة الإسلام، من هدْيه مع العصاة أنه كان يحث على الستر، وقد كثُرت النصوص النبوية التي تحثُّ على ستر المسلم، وتحذِّر من تتبُّع عوراته وزلاَّته، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»؛ (رواه البخاري) [3].
قال ابن حجر عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ( «مَن ستر مسلمًا» )؛ أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره، أي للناس، وليس في هذا ما يقتضي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه.
وها هو إمام أهل الستر صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى الستر على العاصين، ويجازكم الله تعالى بالستر سترًا في الآخرة؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ»؛ (رواه ابن ماجه) [4].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (م «ن علِم من أخيه سيئة فسترها عليه، ستر الله عليه يوم القيامة» )؛ (رواه أحمد) .
لما جاء هزَّالٌ رضي الله عنه؛ ليشهد على ماعز بالزنا، يغضب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف ذلك في وجهه الشريف، ويُعاتب هزَّالًا، فعن يزيد بنِ نُعَيم عن أبيه أن ماعزًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرَّ عندَه أربعَ مراتٍ، فأمَرَ برجمه، وقال لهزَّالٍ: «لو سَتَرتَهُ بثوبك كان خيرًا لك» [5].
هَزَّال بن رئاب بن زيد بن كليب الأسلمي، ويريد بقوله: «لو سَتَــرْته بردائك، لكان خيرًا لك» يريد: مما أظهرته من إظهار أمره، وإخبار النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر به، فكان ستْره بأن يأمره بالتَّوبة، وكتمان خطيئته، وإنَّما ذكر فيه الرِّداء على وجه المبالغة، بمعنى أنَّه لو لم تجد السَّبيل إلى سِتْره إلَّا بأن تَسْتُره بردائك ممن يشهد عليه، لكان أفضل مما أتاه، وتسبَّب إلى إقامة الحدِّ عليه، والله أعلم وأحكم)[6].
وقال ابن الأثير: (ومنه حديث ماعز ((ألَا سَتَرْته بثوبك يا هَزَّال))، إنما قال ذلك حبًّا لإخفاء الفضيحة، وكراهيةً لإشاعتها)[7].
إنه يحب الله ورسوله:
وتأملوا عباد الله في قصة شارب الخمر، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: (أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» )[8].
حِرْص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ذكر صفة حسنة للصحابي الذي كان يشرب الخمر بكثرة، وهي أنه يُضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو بهذا سبب في إدخال السرور على قلبه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل في إسلامنا، أن نحرص على ذكر محاسن الإنسان، والنظر للجانب المشرق منه، وجعله يطغى على الجانب المظلم حتى يَمحوه، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وذلك على نقيض ما يفعله البعض في عصرنا، حيث تجدهم يُنَقِّبون بحثًا عن الجانب المعتم في الآخرين، وما إن يجدوه حتى يستغلوه وسيلةً تَجُبُّ ما قبلها وتَمحو ما بعدها من الخير!
مع أصحاب الصغائر:
إذا كان هذا حاله صلى الله عليه وسلم مع أصحاب الكبائر، وهذا هدي النبي مع العصاة والمذنبين، فلا شك أنه كان أشد تسامحًا ورحمةً ورأفة مع أصحاب الصغائر؛ عَن أَنَس أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ، قَالَ: يَا رَسولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ شَهِدْتَ الصَّلاةَ مَعَنَا»، قَالَ: بَلَى قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ» [9].
فانظر لم يَسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن طبيعة الذنب وتفاصيله، بل انتقل من الذنب إلى العلاج، دون أن يقف مع طبيعة الذنب منعًا لإحراجه وسترًا عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يَكره أن تُرفع إليه الحدود؛ لأن الحد إذا رُفع إليه فلابد من إقامته، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى الْجَابِرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَاجِدَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَذْكُرُ أَوَّلَ رَجُلٍ قَطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِسَارِقٍ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ، فَكَأَنَّمَا أَسِفَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ، قَالَ: «وَمَا يَمْنَعُنِي، لَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ إِلَّا أَنْ يُقِيمَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»[10].
رفقه وحلمه مع الجاهل:
معاشر الأحباب، قد كان مِن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعفو عن الإساءة، ويغفر الزلَّة، ويتحمل جفاء الجفاة؛ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ مِنْ خَلْفِهِ جَبْذَةً، حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَةَ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ[11].
فتأمَّلوا حال هذا الأعرابيِّ مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكتفِ بتنبيهه بالكلام، بل جبذ بردائه جبذة شديدة، أثَّرت في صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ناداه باسمه كما ينادي بعضَ أولاده، وقد أَمَر الله أن يشرَّف ويعظَّم، ويُدعَى باسم النبوة والرسالة، وهو مع ذلك كله لم يتلطَّف في طلب مسألته، بل قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فلسانُ حاله: الفضل والمنة لله لا لك، ومع ذلك الجفاء في القول والفعل، يضحك النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، ويأمر له بالعطاء، فهذه صورة من صور: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ مَعَهُ؛ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: مَهْ مَهْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: «لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ»، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنَ الْقَذَرِ وَالْبَوْلِ»، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هُوَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ» [12].
قوله صلى الله عليه وسلم: «دعوه ولا تُزرموه»، فيها وجوب الرفق بالجاهل في التعليم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يتركوه، ونهاهم أن يقطعوا عليه بولَه لجهل هذا الأعرابي؛ حيث إنه لم يفعل ذلك استخفافًا وعنادًا، وهكذا يجب أن يكون المُنكِر مع الجاهل ولو عَظُم ذنبه ما دام جاهلًا، فليس بقعة أعظم من بيوت الله، وليس أقبح من البول فيها، ومع ذلك رَفَق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الأعرابي لجهله، وأخبره ما الذي يَصلُح في هذه المساجد من ذكرٍ وصلاةٍ وقرآنٍ، وما لا يصلح فيها.
رِفقه صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين:
كان في أخلاقه مع من خالفه من غير المسلمين آيةً في الرحمة والحلم والصفح؛ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَهْ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ»، فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ إِنَّمَا قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ» [13].
فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم إساءتَهم، ودعا عليهم بالموت، من باب رد الاعتداء بالمثل، من غير خروج عن حد الاعتدال، فملك نفسَه، وصان لسانه عن السب والشتم لهؤلاء المعتدين، فمَلَك النبي صلى الله عليه وسلم بذلك شغافَ قلوب أعدائه؛ بحُسن خلقه، ولطيف معاملته، حتى دعاهم هذا الخُلقُ العظيم إلى قبول الحق، والدخول في الإسلام، أو كف الشر عن المسلمين في كثير من الأحيان، وهذه مقاصدُ عظيمةٌ للشارع.
وصيَّته صلى الله عليه وسلم بالأسرى خيرًا:
وها هو الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم يوصي الأسرى خيرًا، وها هو أبو عزيز شقيق مصعب بن عمير يحكي ما حدث يقول: كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم، خَصَّوْني بالخبز, وأكلوا التمر لوصية رسول الله إياهم بنا, ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفَحني بها، فأستحيي فأردُّها فيردُّها عَلَيَّ ما يَمسُّها!
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث[14]، فعن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه، وقال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تُطعمه[15].
اللهم استُرنا ولا تفضَحنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وكن لنا ولا تكُن علينا.
_________________________________________________________________
[1] (طب) 7235، (خط) 1156، الصَّحِيحَة: 3391، صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 3164.
[2] مسند أحمد ط الرسالة (36/ 545)) (22211) صحيح.
[3] أخرجه البخاري 2442، ومسلم 2580.
[4] سنن ابن ماجه (2/ 850) (2546) صحيح لغيره.
[5] سنن أبي داود؛ ت الأرنؤوط (6/ 430) صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، وأخرجه النسائي في الكبرى (7234).
[6] ((المنتقى شرح الموطأ)) لأبي الوليد الباجي (7/ 135).
[7] ((النِّهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 341).
[8] صحيح البخاري (8/ 159) (6780)
[9] أخرجه البخاري في: 86 كتاب الحدود: 27 باب: إذا أقر بالحد ولم يبيِّن هل للإمام أن يستر عليه.
[10] مسند أحمد مخرجًا (7/ 84) (3977) حسن لغيره.
[11] (رواه البخاري: 6088، ومسلم: 1057).
[12] أخرجه أحمد 3/ 191، ومسلم (285).
[13] أخرجه أحمد 6/ 37، والبخاري (6024) في الأدب: باب الرفق في الأمر كله.
[14] ابن كثير (السيرة النبوية، 2/ 475).
[15] (تفسير الألوسي (22/ 7)
________________________________________________
الكاتب: السيد مراد سلامة
- التصنيف: