الليلة التاسعة: (التغافل عن الزلات وإقالة العثرات من شيم أهل الفضل والإحسان)

منذ 16 ساعة

والمتغافل عن أخطاء وعيوب الناس، يدل على حُسن خلقه وكمال عقله؛ لأنه بذلك يرتاح من تتبُّع الزلات والسَّقطات، ويكون مَن تَحلَّى به رُزِقَ راحةً في نفسه

الحمد لله، والصلاةُ والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فقال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} ﴾ [التحريم: 3]،


وقال الحسن رحمه الله: ما استقصى كريم قط؛ قال الله تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]؛ [تفسير القرطبي، 18/ 188] .

 

والمتغافل عن أخطاء وعيوب الناس، يدل على حُسن خلقه وكمال عقله؛ لأنه بذلك يرتاح من تتبُّع الزلات والسَّقطات، ويكون مَن تَحلَّى به رُزِقَ راحةً في نفسه، وسلامة في صدره، وعاش محبوبًا ممن حوله، ذلكم هو أدب التغافل، وما أدراكم ما التغافل؟ قال سفيان الثوري رحمه الله: وما زال التغافل مِن فعل الكرام.


والتغافل: هو أن يقصد الإنسان للغفلة، مع العلم والإدراك لِما يتغافل عنه؛ تكرمًا وترفعًا عن سفاسف الأمور.


فالمتغافل يتعمَّد الغفلة عن أخطاء وعيوب مَن حوله، مع أنه مدركٌ لها، عالِمٌ بها، لكنه يتغافل عنها كأنه لم يَعلَم بها لكرم خُلقه، وكما قال الحسن البصري رحمه الله: ما استقصى كريمٌ قط، وقال الإمام أحمد رحمه الله: تسعة أعشار حُسن الخلق في التغافل، وليس التغافل عن الزلات دليلًا على غباء صاحبه وسذاجته؛ بل هو العقل والحكمة؛ كما قال معاوية رضي الله عنه: العقلُ مكيالٌ، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل، وقال الشافعي -رحمه الله-: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل، ففَرْقٌ بين أن تقصد الغفلة وبين الغباء، فالأول محمود، والثاني مذموم:

 

ليس الغبيُّ بسيِّدٍ في قَوْمِهِ   **   لكِنَّ سيِّدَ قومِهِ الْمُتَغَابِي 

 

 

ومن تتبَّع سِيَرَ العظماء، وجد أن من أعظم صفاتهم التغافل، قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي: وكان صَبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعلمه بذلك، ولا يتغير عليه.

 

هذه هي أخلاق العظماء، وهذا سرُّ عظمتهم؛ ولهذا قال جعفر الصادق رحمه الله: عظِّموا أقداركم بالتغافل.


ومن أعظم فوائد التغافل أنه يُكسب صاحبه راحة في نفسه، ولقد أعطانا رسولنا صلى الله عليه وسلم مثالًا عظيمًا على ذلك؛ كما في الحديث: إن المشركين كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مُذَمَّمًا، ويلعنون مذمَّمًا، وأنا محمد» ؛ (رواه البخاري رحمه الله ( 3533))، مع أنه يعلم - عليه الصلاة والسلام - أنهم إنما قصدوه، أما الذي يقف عند كل كلمة، ويرد على كل خطأ، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فهو أكثر الناس شقاء، وأشدهم نكدًا.

 

كم من مشاكل وقعت في المجتمع كان سببها عدم التغافل! كم وقع بين الزوجين أو بين الأقارب والأصحاب من مشاكل كان سببها تقصِّي بعضهم على بعض، وتتبُّع الأخطاء والبحث عن المقاصد! ولو أنهم رُزقوا التغافل لزال عنهم شرٌّ كثير؛ كما قال الأعمش رحمه الله: التغافل يطفئ شرًّا كثيرًا، فكم نحن بحاجة إلى التغافل في حياتنا اليومية! كثير من الخلافات والمشاكل التي تقع بين الزوجين سببها أن الزوج يعاتب زوجته على خطأ، والزوجة كذلك تتتبَّع زلات زوجها، وتتصيد عليه الهفوات، وكثير من حالات الطلاق كان هذا سببها.

 

ولو أن كلًّا منهم تغافل عن زلات صاحبه، وغضَّ طرفَه عن هفواته، لاستدامت لهم العشرة، وبقيت بينهم المودة، لكنهم حين فقدوا التغافل حصلَ ما حصل، كم نحن بحاجة إلى التغافل مع أولادنا، وغَضِّ الطرف عن أخطائهم! خصوصًا ما يقع منهم عفويًّا ولم يكن متكررًا، ولنعلم أنه ليس من الحكمة أن نُشعر أولادنا أننا نعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة، وليس من العقل أن نُحاسبهم على كل دقيق وجليلٍ؛ لأن ذلك يكون سببًا في تحطيم شخصياتهم، واكتسابهم عادات سيئة كالعناد والكذب، بل إن ذلك سبب لزوال هيبة الأب من قلوب أولاده، وفقْد محبتهم له، ولو أنه تغافل عن بعض زلاتهم، وتجاوَز عن كثير من أخطائهم، لسلِم من ذلك كله.


كم نحتاج إلى التغافل مع أصحابنا، فلا نُحاسبهم على كل كلمة خرَجت منهم، ولا نحصي عليهم كل فعل صدر عنهم؛ لأننا إن فعلنا ذلك فقَدنا محبتهم وزالت عنا أُخوَّتهم، وقد قيل: تناسَ مساوئ الإخوان تستدِم ودَّهم.


فلم يكن عليه الصلاة والسلام يتتبَّع زلات أصحابه، أو يبحث عن أخطائهم، بل كان ينهى عن التجسس وعن تتبُّع العورات وتفسير المقاصد، فالذي يتغافل عن الزلات يعيش محبًّا لمن حوله، محبوبًا منهم، سليم الصدر من الأحقاد والضغائن، ولهذا كانت العافية كلها في التغافل، قيل للإمام أحمد رحمه الله: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل، فقال: العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل.


وقد قال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل.


ومن طبيعة الناس أنهم جُبلوا على محبة من يغض الطرف عن هفواتهم، وأعظم التغافل - أيها الأحبة - أن يتغافل الإنسان عما لا يعنيه؛ كما قل بعض الحكماء: لا يكون المرء عاقلًا حتى يكون عما لا يعنيه غافلًا، وليس معنى ذلك ألا يقوم بالنصيحة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»؛ (رواه مسلم رحمه الله) (95).

 

ربنا لا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلِّ الله وسلم على نبينا محمد وعلى وصحبه أجمعين.

  • 1
  • 0
  • 67

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً