الغلام الأصبحي

منذ يوم

من هؤلاء الأفذاذ مالك بن أنس الأصبحي. يعرفه العالم فقيها أرسى دعائم مذهب منتشر في أرجاء المعمورة، وأسدى للعلوم الشرعية خدمات جليلة رفعته إلى مصاف العلماء الموثوقين

 

حميد بن خيبش

" إن من زينة الدنيا أن يقول الرجل: حدّثنا مالك."      بشر الحافي

كل قاعدة في التربية، أو توجيه أو نصيحة، تظل حبرا على ورق، مالم يترجمها شخص ما بسلوكه ومشاعره وتصرفاته. حتى أن الوحي الإلهي، وهو أعظم حدث في الدنيا، إنما تنزل على قلب بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ليتخذ الناس من ديدنه في الحياة والعبادة قدوة ومترجما لأوامر الحق سبحانه ونواهيه.

ولأن الروح البشرية طاقة تتحول إلى إشعاع ثم إلى نور، كما يقول الأستاذ محمد قطب، فمن البديهي أن يستضيء الناس في مضمار التربية والتنشئة الاجتماعية بسلف صالح ومصلح، تجلت في سيرته قبسات تربوية، تعكس فهما عميقا لحركة المنهج في الحياة، وتجاوبا مع المحيط الاجتماعي والسياسي والثقافي بما يتوافق مع المبادئ والقناعات.

وفي ديوان السلف الصالح صحابة وفقهاء وعلماء، نهلوا من معين النبوة الصافي ما سدد أقوالهم وأفعالهم، فكانت ترجمة لمعاني الصدق والمثابرة، وإعلاء كلمة الحق حين تدلهم سحب الباطل، والانتصار للخير في معرض الشر وأهله. وبين ثنايا كل قول أو فعل توجيه تربوي سديد، ورسالة لمن يهمه أمر الاقتداء وتصويب مسيرة المجتمع الإنساني برمته.

من هؤلاء الأفذاذ مالك بن أنس الأصبحي. يعرفه العالم فقيها أرسى دعائم مذهب منتشر في أرجاء المعمورة، وأسدى للعلوم الشرعية خدمات جليلة رفعته إلى مصاف العلماء الموثوقين؛ غير أن سيرته ظلت حكرا على الفقيه دائما، وعلى المؤرخ في أغلب الأحيان، بينما غاب المربي عما في سيرة مالك من قبسات تربوية وتعليمية، وما اشتملت عليه مواقفه ونهوضه بوظيفته كعالم من رسائل نافعة لجيل الخلف.

كان مالك بن أنس في مبتدأ صباه يلهو كغيره من الصبيان. ثم حدث يوما أن أباه ألقى عليه مسألة؛ يقول مالك: "فأصاب أخي وأخطأت، فقال لي أبي: ألهتك الحمام عن طلب العلم، فغضبت وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين لم أخلطه بغيره."(1)

كانت المدينة حيث نشأ مالك وترعرع، قِبلة طلاب العلم، ففيها قضى كبار الصحابة معظم حياتهم، وفيها تشكلت أولى مجالس العلم والإفتاء بما نُقل عن الهدي النبوي غضا طريا. وسيدرك مالك عِظم هذه المنحة الإلهية فيقرر أن يجعل من المدينة موطنه الدائم، ويعتذر عن أي دعوة للرحيل عنها، مرددا في كل مناسبة: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. ويجعل لأحداثها وقاطنيها مكانة فكرية في اجتهاداته الفقهية، فيحدث عن إجماعها، ويؤثر خبر الواحد منها، لأن له فضل صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

في المدينة تتلمذ مالك على فقهائها الذين انتهى إليهم علم الصحابة. كان معظم ما يسمى علما آنذاك عبارة عن سلاسل من السند الحديثي المروي، يتلقاها خلف عن سلف بطريق النقل. غير أن مالك قُدّر له في ابتداء أمره أن يلتقي الفقيه الكبير ربيعة الرأي، فجمع في رحلة تعلمه بين تلقي الحديث عن ابن هرمز، وبين الفقه والاجتهاد عن ربيعة الرأي. هذا التوفيق صادف لدى مالك ذهنا متوقدا، وسعة في الحفظ، وحرصا على الإفادة المستمرة من الشيوخ، رغم ما يلقاه طالب العلم من عناء في ذلك.

 يصف شيئا من ذاك العناء بقوله:" كنت آتي نافعا نصف النهار، وما تُظلني الشجر من الشمس أتحيّن خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أره، ثم أتعرَّض له، فأسلّم عليه، وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ فيجيبني، ثم أحبس عنه، وكان فيه حدّة.."(2). ومالك هنا ينقاد لما اصطُلح عليه ب "آداب المتعلم مع شيخه"، وهي مجمل القواعد التربوية التي هذّبت مسار التعلم، برسم حدود منبثقة من الوضع الاعتباري للعالم في القرآن والسنة.

تنشأ عن الرغبة في التعلم أحوال وسلوكيات لا يستوي فيها كل الطلبة، وهي إحدى سمات النجابة التي ينبغي للشيخ أو الأستاذ أن يحفزها، ويوفر لها متسعا من الجهد والوقت. وفي زمن مالك حيث كانت الصدور مستودع العلوم، فإن ميزة الحفظ وتوثيق ما أملاه الشيخ بأمانة استدعت حرصا على الوقت، وتضحية بكل ما يشغل عنه. لذا لم يكن يوم العيد بما يستلزمه من فسحة للبهجة والفرح، حائلا دون أن يواصل مالك برنامج تعلمه اليومي، فيحكي كيف أنه انصرف من المصلى لينفرد بشيخه الزهري في بيته، ويتلقى عنه الأحاديث. وكيف أن شيخه امتحن حفظه فوجده من أوعية العلم، أو كما قال: "إنك لنِعم المستودَع للعلم!"

ولا يقل بذل المال أهمية عن بذل الوقت، وهو ما شكل ضائقة حكى عن مظاهرها جل العلماء. لذا كان من إجلال العلم أن يضحي طالبه بدنياه، وما يتعلق بها من رغد عيش وملبس وسكن. ومالك لم يشذ عن هذا المبدأ حين اضطره طلب العلم أن ينقض سقف بيته، ويبيع خشبه لينفق على تعليمه.

لم يجلس مالك للتعليم والفتيا إلا بعد أن شهد له شيوخه بالقدرة. ولم يكن جلوسه هذا جافا يقف عند حدود تلقين العلم وتدوينه، بل عّبر مالك غير ما مرة عن تلك التبعية الاجتماعية، والمسؤولية التي يجدر بالعالم أن ينهض بأدائها، خاصة في كل ظرفية سياسية يلتمس فيها الحاكم توجيه العلم لاستتباب حكمه. كان مالك يقول: "بلغني أن العلماء يُسألون عما يُسأل عنه الأنبياء"، ويشير بذلك إلى أن أداء الواجب الاجتماعي غير متعلق برضا السلطة السياسية أو سخطها.

كان من مظاهر هذا الواجب الاجتماعي حرصه على تشريف العلم، والسمو بمكانته عن أي توظيف لا يليق بها، فيحكى عنه أنه حمل هارون الرشيد، وكان ملك الدنيا آنذاك، على أن يجلس أمامه مع الناس ليسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولمّا دعاه ليعلّم أبناءه الموطأ، ردّ قائلا: "إن هذا العلم منكم خرج، فإن أنتم أعززتموه يعزّ، وإن أذللتموه ذلّ، والعلم يؤتى ولا يأتي". فقال هارون: "صدقت؛ وقال لولديه: أخرجا إلى المسجد حتى تسمعا مع الناس!"

يرصد العلّامة محمد التاويل في كتابه (خصائص المذهب المالكي) اثنتي عشرة ميزة لمذهب الإمام مالك على الصعيد الفقهي، من بينها: رحابة الصدر، وقابلية التطور والتجديد، والبعد المقصدي، والبعد العلمي والمعرفي، والواقعية وغيرها.. وخلف كل ميزة ينتصب عقل راجح، ومسار علمي مثير، ومواقف أظهرت الولاء الشديد للكتاب والسنة في أشد المنعطفات السياسية غبشا وضراوة.

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك. ص55

2- ترتيب المدارك 1. ص55

 

 

 

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 3
  • 1
  • 78

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً