أهمية الأمانـة
يذكر الله تعالى في مُحكم كتابه ما يتعلق بأمر الأمانة وأهميتها، وكيف كان أداء الناس لتأدية هذه الأمانة، وما استحقَّ الناس على ذلك؛ قال جل وعلا: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}
معاشر المؤمنين: يذكر الله تعالى في مُحكم كتابه ما يتعلق بأمر الأمانة وأهميتها، وكيف كان أداء الناس لتأدية هذه الأمانة، وما استحقَّ الناس على ذلك؛ قال جل وعلا: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
فلقد اجتمعت كلمة علماء التفسير فيما يتعلق بالأمانة في هذه الآية المباركة من آخر سورة الأحزاب - أن المراد بها التكاليف الشرعية التي أراد الله جل وعلا من عباده أن يقوموا بها، ولذلك خلَقهم من أجل أن يقوموا بها، ولذلك خلقهم من أجل أن يقوموا بواجب أمر الله به، أو أن ينتهوا عن حرام حرَّمه الله جل وعلا، فأرسل الله الرسل وأنزل الكتب من أجل أداء ذلك كله، وألا يتعذَّر بعذرٍ بين أيدي الله؛ قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، وقال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16].
معاشر المؤمنين، سَمِعتم هذا الأمر العظيم فيما يتعلق بالأمانة وأهميتها، وأن الله عرض هذا الأمر على السماوات والأرض والجبال، وبيَّن الله لهذه المخلوقات العظيمة فداحة ضياع الأمانة، أظهر الله ذلك على السماوات والأرض والجبال، فكان منها الإشفاق والخوف وليس العصيان، فإن السماوات والأرض طائعة لأمر الله؛ كما قال جل وعلا متحدثًا عن السماوات والأرض: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]؛ أي: إنها متذللة لأمر الله، لكن في باب الأمانة، وما يتعلق بحملها، وما يتعلق بأدائها، كان الاعتذار خوف التقصير، أو الإفراط، أو الضياع، أو الإهمال، فحينئذٍ برز لها هذا الإنسان ابن آدم، فكان متحملًا لهذه الأمانة، فكان الناس ثلاثة أصناف: قسمان معذبان هم الكفار والمنافقون، وقسم ناج وهم أهل الإيمان الذين أدوا الامانة؛ قال جل وعلا: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 73].
يا أمة الإسلام، إن أعظم ما أمر الله به من الأمانات، أمر التوحيد والعقيدة، وما يناقض ذلك، فقد حرَّمه الله من الإشراك به؛ قال جل وعلا في محكم كتابه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56]، فأمر الله بتوحيده، وقال سبحانه متحدثًا عن العبد الصالح لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
فأعظمُ شيءٍ أمر الله به التوحيد، وأعظم شيء نهى عنه الإشراك، فما بعث الله من نبي إلى قوم إلا قرع آذان قومه بهذا، بتوحيد الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].
فما من نبي أرسله الله إلا كان داعية إلى التوحيد، ومحذرًا من الإشراك، ومن أعظم ذلك متابعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تجعله قدوة وقيادة لك في الدنيا، فلقد أوحى الله به فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92].
وحرَّم الله الخروج عن أمر الرسول وعصيانه، فقال جل وعلا: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، فبعد توحيد الله طاعة محمد بن عبد الله.
من قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى ** ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي
كذلك في باب العبادات أمانة في أعناق المسلمين والمسلمات، كل عبادة أمر الله بها فهي أمانة في أعناق المسلمين والمسلمات، أمر الله بإقامة الصلاة، وبالوضوء، والزكاة، والصيام، والحج، والاعتمار، فكل عبادة أمانة، وهكذا في باب المعاملات يجب أن تكون الأمانة سائدة في باب البيوع والمشتريات، وفي باب الإيجارات والاتصال مع الناس، لابد وأن تكون الأمانة هي السائدة، فقد أثنى الله على أهل الأمانات، فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32]؛ أي: يراعون هذه الأمانة التي أمَر الله بها في كل شؤونهم، ثم يا عباد الله في باب السلوك أمر الله بالأمانة ملازمة صحيحة؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا يعجبنَّك طنطنةُ الرجل، وإنما من عفَّ وحفِظ الأمانة، فهو الرجل»[1]، فالرجل إنما هو بأمانته، وهكذا كل عضو فيك أمانة يا عبد الله، فسمعك أمانة، وقلبك أمانة، وفكرك أمانة، وبصرك أمانة، ويدك أمانة، وفرجك أمانة.
احفَظ منيَّك ما استطعتَ فإنه ** ماء الحياة يُصَبُّ في الأرحام
زوجتك أمانة، وأولادك أمانة، وبناتك أمانة، وجوارك للمؤمنين أمانة، وكلمتك التي تُطلقها من بين شفتيك هي أمانة عندك، فإياك أن تفرِّط فيها، فيا أرباب الكلمة، ويا صنَّاع الحرف، هذه أمانات كلها، فاتقوا الله فيما تقولون، واتقوا الله فيما ترصدون، وتكتبون: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
وما يتعلق بالأموال العامة، وموافق الدولة، ومحاضن التعليم، والوظائف العامة والخاصة أمانة: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته»[2]، فإن تقاضينا مالًا من الدولة لا يحل لك أن تأخذ من المواطن الذي جعلتك الدولة مسؤولًا لها، ومنفذًا وقاضيًا لحاجات المراجعين من المواطنين المسلمين، فلا يجوز لك أن تحتجب عنهم، أو أن تؤخر حقوقهم، أو أن تُماطل في قضاياهم، أو ألا تنفِّذ شيئًا إلا بعد أن تُعطى مالًا، هذه أمانة نسأل عنها بين يدي الله، يقول صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما»[3]؛ أي: الواسطة بين هذا وذاك، فعلى القضاة وعلى المربين والحكام، على من ولَّاهم الله أمور المسلمين أن يعلموا أنها أمانة.
يجب أن تكون أمينًا، فإن رُقي الأمة وتقدُّمها، إنما هو بنزاهة أفرادها، هذه قصة عجيبة من الصدر الأول من أولئك القوم الذين صحبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
أولئك آبائي فجِئني بمثلهم ** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة الصحابي الجليل، أرسله إلى يهود خيبر، وكانت الأرض بأيديهم على أن يجعلوا للمسلمين شيئًا، شطر ما يخرج منها، فبعد غزوة خيبر، مكَّن الرسول اليهود من أرضهم؛ لأنهم أدرى بأرضهم على أن يعطوا الرسول شطر ما يخرج منها، فأرسل الرسول عبد الله بن رواحة، فلما وصل إلى اليهود من أجل أن يقيِّم الثمار، وأن ينظر في المحاصيل الزراعية، جمع اليهود من المال وأعطوه ابن رواحة من أجل أن يخفف عنهم، فقال لهم ابن رواحة: «تعطوني سحتًا؟! فوالله إني جئت من أحب الناس إلى قلبي، جئت من عند محمد صلى الله عليه وسلم إلى أخبث خلق الله، ووالله لا يحملن حبي لرسول الله وبغضي لكم، لا يحملني ذلك أن أخونه أو أخونكم»، فصاح اليهود كلهم، قالوا: «والله بهذا أقيمت السماوات والأرض»[4]؛ أي: بالعدل أقيمت السماوات والأرض، فما كان ليخون يهوديًّا، لكنك إن رأيت أحوال المسلمين صلى الله عليه وسلم، لرأيت عجبًا، المسلم يغش أخاه في بيع، في شراء، في إيجارات، في تجارات، في مراسلات، في سرقات، في معاملات، في محاكم، في كل مكان، إلا من رحم الله - سبحانه وتعالى - ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غشنا فليس منا»[5].
فيا أيها المسلم الكريم، اعلَم أن الغنى والفقر من الله، فإن أراد الله لك الخير أوصله إليك، لا يستطيع مَنْ في السماوات والأرض أن يجعلوا لك الغنى، وقد أرادك الله فقيرًا، وقد أراد الله لك الغنى، فكن ذا عفاف أيها المسلم، فإياك أن تخون فيما ولَّاك الله تبارك وتعالى، وتعفَّف يبارك الله لك في الحلال، ويجعل القليل كثيرًا، يبارك الله لك في مالك، وإن كان شيئًا قليلًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح آمنًا في سربه»؛ أي: في بيته «معافًى في بدنه عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»[6].
فيا أيها الحكام، ويا رجل المرور، ويا أيها القاضي والأستاذ، يا أيها الموظف، اعلم أنك مسؤول بين يدي الله، ويا أيها العالم والداعية، ويا من ترقَى المنابر، اعلم أنك مسؤول عن ذلك كله بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأنه لا عبرة بكلامك ما دام الحال يخالف المقال، يقول الناظم الأول:
يا أيها الرجلُ المعلِّمُ غيــــــــــــــــرَه ** هلا لنفسك كان ذا التعليـــمُ
تصف الدواءَ لذي السقام وذي الضنا ** كيما يَصِحَّ به وأنت سقيـــمُ
ابدأ بنفسك فإنْهَها عن غيِّهـــــــــــــا ** فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ
وقال الآخر:
مواعظ الواعظ لن تُقبــلا ** حتى يَعيَها قلبــــه أولَا
يا أيها المسلمون، إننا أمة عظَّم الله شأنها، وعظم الله شأن نبيها، يوم أن كانت الأمانة فينا هي السائدة، يوم أن كان المؤمن يأمن أخاه، فيؤدي أمانته.
روى الأمام البخاري في صحيحه: « ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاَ، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا»[7].
وهكذا قال صلى الله عليه وسلم والقصة في صحيح البخاري: «اشترى رجل من رجل عقار قطعة أرض، فلمَّا حرَثها، وجد جرة مملؤة بالذهب، فذهب إلى صاحب العقار، قال: إنما اشتريت منك العقار ولم أشترِ منك المال، قال له صاحب العقار: بل بُعتك العقار بما فيه، فترافعا إلى حاكم البلاد، وتأملوا أيها الناس في موقف الحاكم كيف كان؟ ما قال: هاتوا هذه الجربة أو هذه الجرة، وإنما أصلح بينهما صلحًا، قال للأول: ألك جارية؟ قال: نعم، قال للثاني: ألك ولد؟ قال: نعم، قال زوِّجوا الغلام الجارية، وأعطوهم هذا المال لينفقا على أنفسهما»[8]، وحُلَّت القضية بين هذين الخصمين، فلو تأملنا أحوالنا، وفي مشاكلنا، الاغتصابات، الاتهامات، أمانة المجالس الافتراءات، أمور كثيرة، أعوذ بالله إلى أي حال وصل المسلمون! أن يكون عند أحدنا تراجع يراجع نفسَه مراجعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا اشتغلتم بالزرع وتركتُم الجهاد في سبيل الله، سلَّط الله الذل عليكم حتى ترجعوا إلى دينكم»[9]، وفي رواية: «حتى تُرجعوا دينكم»، بمعنى إذا أردتم الخير والفلاح، فارجعوا إلى الدين، والدين يتمثل بالأمانة، فالأمانة مصدر الفلاح، والفوز، والنجاح في كل المستويات، في الأمور العامة والخاصة، أمورك مع نفسك وإخوانك، وأمورك مع الله، فإنه لا ينجيك في الدنيا ولا في الآخرة، إلا الأمانة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تَخُن من خانك»[10]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «علامة المنافق ثلاث ومنها: إذا اؤتمن خان»[11]، ومن أراد أن ينزِّه نفسه، فليبتعد عن هذه الخصلة الذميمة، وهي خيانة الأمانة، وليكن على خصلة كريمة المحافظة على الأمانة، يحافظ عليها ما استطاع، فمن حفظ الأمانة حفظه الله ومن ضيَّعها ضيَّعه ربه سبحانه في هذه الدنيا والآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
[1] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة رقم (5 /116).
[2] قد سبق تخريجه.
[3] قد سبق تخريجه.
[4] رواه ابن حبان رقم (5199)، قال: شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح.
[5] صحيح: رواه مسلم رقم (102).
[6] حسن: رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (300)، والترمذي رقم (2346)، وابن ماجه رقم (4141)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (6043) من حديث عبد الله بن محصن ﭬ.
[7] البخاري رقم (2169)، وأحمد رقم (8571).
[8] رواه البخاري رقم (3285)، ومسلم رقم (1721) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] صحيح: رواه أبو داود رقم (3463)، والبيهقي رقم (10484)، ومسند الشاميين رقم (2407)، قال الألباني: صحيح لغيره، انظر: صحيح الترهيب الترغيب (2/70).
[10] صحيح: رواه أحمد رقم (15462)، والترمذي رقم (1264)، وأبو داود رقم (3534)، قال الألباني: صحيح الجامع رقم (240).
[11] صحيح: رواه البخاري رقم (33)، ومسلم رقم (59).
_________________________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
- التصنيف: