سوانح تدبرية من سورة الفاتحة - |3| الحمد لله رب العالمين

منذ 10 ساعات

فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}} [ص:29].

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.

قال تعالى في سورة الفاتحة: {{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)}}

الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وفي ضمنه أَمْرٌ لعباده أن يحمدوه، فهو المستحق له وحده، وهو سبحانه المنشئ للخلق، القائم بأمورهم، المربي لجميع خلقه بنعمه، ولأوليائه بالإيمان والعمل الصالح. / التفسير الميسر.

فوائد ووقفات وهدايات وتأملات:

1- في هذه الآية الجليلة افتتاحٌ للثناء المطلق على الله تعالى، بما يليق بجلاله، ويُظهر كمال أسمائه، وجلال صفاته، وعظيم أفعاله.

2- "الحمد" ثناء يليق بمن له الصفات الكاملة، و"الله" اسم الجلالة الجامع لمعاني الألوهية، و"رب العالمين" يدل على سعة تدبيره وربوبيته لكل ما خلق.

3- {{الحمد لله رب العالمين} } حسن افتتاح للقرآن ولسورة الفاتحة، وبراعة استهلال.

4- افتُتح القرآن بالحمد لأن أعظم النعم هي القرآن، وبالحمد تُستجلب النعم وتُدفع النقم.

5- افتُتح القرآن بالحمد لأنه من أحبّ العبادات إلى الله وأعظمها ثناءً عليه.

6- {{الحمد لله}} : أي: ما من حمد وثناء في الكون إلا والله المستحق له.

7- الحمد: هو وصف المحمود بصفات بالكمال، مع المحبة والتعظيم والإجلال.

8- {{الحمد لله}} : فالله يُحمدُ على كماله من كل وجه؛ ويحمد على ذاته وصفاته وأفعاله، وعلى نعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية.

9- رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ كُلِّ شَاكِرٍ.

10- {{الحمد لله}} : هي أعظم صيغة في الحمد، لأنها تحمل أسمى معاني الثناء والتعظيم لله سبحانه وتعالى. ولذا، اختار الله عز وجل هذه الصيغة لتكون في مفتتح كتابه.

11- من تمام رحمة الله وفضله أن علّمنا كيف نحمده، إذ لا أحد أعلم بكماله منه، وأعظم الثناء ما أثنى به الله على نفسه.

12- {{الحمد لله رب العالمين}} : اعترافٌ منا بنعمِ الله علينا فنحمده ونشكره.

13- كم نعمةٍ أسبغها عليك تستدعي حمدك إيَّاه في كل لمحة، وكم منّةٍ أسداها إليك تستوجبُ شكرك له في كل لحظة! فلا يزال لسانك رطبا بالثناء عليه في كل خَطرة.

14- لم يقل "قل الحمد لله"، لأنه لا يمكن لأحد أن يستحضر كمال استحقاق الله للحمد كما يفعل هو سبحانه.

15- {{الحمد لله}} {} : جملة خبرية بمعنى الأمر، فهو يخبر سبحانه عن اتصافه بالحمد، ويأمر عباده أن يحمدوه.

16- كل حمد لأحد من العالمين فالله أولى به، أوَليس قد خلق لك لساناً حامداً ويسَّر لك أسباب حمده؟

17- إنّ حمدك إياه نعمة تستوجبُ منك مزيد الحمد.

18- لماذا قال "الحمد" ولم يقل "الشكر"؟ لأن الشكر يكون مقابلاً لنعمة معينة، فهو يعبر عن الامتنان لفضل الله ونعمه، أما الحمد فيشمل الثناء على الله بجميع صفاته وأفعاله، سواء كان هناك نعمة معينة أم لا.

19- جاء بالجملة الاسمية: {{الحمد لله}} : ولم يقل "احمدوا الله"، "يحمد الله" أو "أحمدُ الله"؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والثبات والاستقرار والاستحقاق والاختصاص والاهتمام، وهي أقوى من الجملة الفعلية، فالحمد ثابت ومستقر لله.

20- لماذا لم يقل "أحمد الله" أو "نحمد الله" أو "حمداً لله" أو "لله الحمد"؟

لأن "الحمد لله" صيغة مطلقة تشمل حمد جميع الخلق دون تحديد فاعل أو زمان، فهي دائمة وغير محدودة، مما يعبر عن الثناء الكامل المستمر لله تعالى.

21- اسم الجلالة "الله" دال على استحقاق جميع المحامد، بدلاً من أسماء أخرى مثل "الخالق" أو "السميع"، حتى لا نقتصر على ثناء محدد، فـ"لله الحمد" يشمل كل الثناء دائمًا.

22- فائدة دقيقة: في لفظ رب خصوصية لا توجد في غيره من أسمائه تعالى، وهي: أنك إذا قرأته طردا كان من أسمائه تعالى، وإن قلبته كان من أسمائه تعالى، "رب" و "بَر".

23- اللام في قوله {لله} تفيد التخصيص والاستحقاق، فالحمد بجميع أنواعه وأكمله حقٌ خالصٌ لله وحده، إذ لا يُحمد سواه إلا مع وجود نقص أو قصور، أما هو سبحانه فحمده مطلق وكامل من كل وجه.

24- في الآية أدبٌ رفيع في الخطاب مع الله؛ إذ يُعلَّم العبد أن يبدأ حديثه ودعاءه بالثناء على الله، فهو من تمام الأدب والتمهيد بين يدي المسألة.

25- تقدّم اسم "الله" على "الرب" إشارة إلى أن المقصود الأسمى من التوحيد هو توحيد الإلهية، أي توحيد العبادة، إذ ما خُلق الخلق إلا ليعبدوا الله، وفيه تقديم للغاية على السبب.

26- كمالُ الثقة بالله يظهر في قوله "الرب"، إذ يستحضر المؤمن سعة ملكه وخزائنه، وأنه المعطي المانع، يؤتي الملك لمن يشاء وينزعه ممن يشاء.

27- هو رب العالمين، وإليه مردّ الأولين والآخرين، فيا خيبة مَن صرف شيئا من العبادة والتعظيم، لمربوب ضعيف مثله وترك الجليل العظيم.

28- من الأسماء التي اختصّ الله بها نفسه ولا يُسمّى بها غيره: اسم "الله" و"الرحمن"، فهما علمان دالّان على الذات الإلهية، ولا يشاركه أحدٌ فيهما.

29- فإن قيل: لماذا جاء "العالمين" جمع قلة مع أن المقام يستدعي جمع الكثرة؟

يُجاب بأن ذلك ينبه إلى أن رغم كثرة المخلوقات، إلا أنهم في جنب عظمة الله وكبريائه لا يعدون شيئًا.

30- "الرب" هو من اتصف بالخَلق والملك والتدبير؛ فهو الخالق لكل شيء، والمالك له، والمدبر لأمره.

31- {{رب العالمين}} : تعددت العوالم وتنوعت، وربها واحد، يدبر أمرها جميعًا بحكمة وربوبية مطلقة.

32- قوله: {{ربِّ العالمين}} يدل على أن الله تولّى شؤون خلقه، ومن ذلك رزقهم، فهو المدبر لأمورهم، الكفيل بأقواتهم، لا يكلهم إلى غيره.

33- {{الحمد لله رب العالمين}} : يجري على ألسنة الجميع: الكبير والصغير، العالم والجاهل، الطائع والعاصي، في السراء والضراء، فسبحان من استحق الحمد في كل حال.

34- حين تقول: {الحمد لله رب العالمين}، فإنك تُعلن رضاك بقضاء الله، وقناعتك بما قسمه لك، إذ لا يقدّر الله لعبده إلا ما فيه صلاحه وخيره، وإن خفي عليه وجه الحكمة.

35- تشير الآية {{الحمد لله رب العالمين}} إلى أن الله وحده هو المتفرّد بالخلق والتدبير، والمنعِم على عباده، وهي دلالة على كمال غناه المطلق، وافتقار جميع الخلق إليه في كل حال وعلى كل وجه.

36- أفضل عباد الله الحمادون، ففي الحديث الصحيح: «"إنَّ أفضلَ عبادِ اللهِ يومَ القيامةِ الحمَّادون"» .

37- الحمد أفضلُ الدعاء، قال عليه الصلاة والسلام: " أفضلُ الذكرِ: لا إلَه إلَّا اللهُ، وأفضلُ الدعاءِ: الحمدُ للهِ".

38- العالَم مشتق من العلامة، لأنه دليل على خالقه، ففي كل مخلوق آية تشهد بربوبية الله، كما قال الأعرابي: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، تدل على الواحد القهار.

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 2
  • 0
  • 52
المقال السابق
|2| البسملة
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً