سوانح تدبرية من سورة الفاتحة - الفاتحة |4| الرحمن الرحيم

منذ 12 ساعة

افتتاحُ العلاقة مع الله بالرحمة لا بالعقوبة؛ فأولُ ما يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعلمه عنه هو رحمته، لا سلطانه ولا جبروته ولا عقابه، بل رحمته الواسعة.

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}} [ص:29].

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.

قال تعالى في سورة الفاتحة: { { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)}}

{{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}} هما اسمانِ مشتقَّان من الرَّحمة على وجه المبالَغة، ورحمن أشدُّ مبالغةً من رَحيم؛ وذلك لأنَّ (رحمن) على وزن فعلان، وهذه الصيغة تفيد الكثرة والسعة.

والرحمن يدل على سعة رحمة الله، والرحيم يدل على إيصالها لخلقه، فالرحمن: ذو الرحمة الواسعة، والرحيم: ذو الرحمة الواصلة.

فوائد ووقفات وهدايات وتأملات:

1- اسم "الرحمن" ورد في القرآن سبعاً وخمسين مرة، وسام "الرحيم" ورد في القرآن أربعة عشر ومائة مرة.

2- قيل: أنّ اسمه "الرحمن" يدل على الصفة الذاتية من حيث اتصافه تعالى بالرحمة، واسمه "الرحيم" يدل على الصفة الفعلية من حيث إيصاله الرحمة إلى المرحوم.

3- لما كان في اتصافه بـ "رب العالمين" ترهيب قرنه بـ "الرحمن الرحيم"، لما تضمن من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه؛ فيكون أعون على طاعته وأمنع.

4- فبعد أن قال الله تعالى: {{الحمد لله رب العالمين}} ، قد يتوقع السامع أن تُذكر صفات العظمة والهيبة، كصفات الملك والتدبير والتصرف في الخلق، لما في قوله: {{رب العالمين}} من دلالة على السيادة والسلطان، لكن تأتي الآية التالية مباشرة: {الرحمن الرحيم}، في موضع بديع، وبلاغة رفيعة، تحمل حِكمًا عظيمة يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط:

الأولى: إنَّ ربوبيةَ اللهِ تعالى قائمةٌ على رحمةٍ واسعةٍ شاملة، تمتدّ إلى جميع خلقه، فهي ربوبيةُ لطفٍ وإنعام، لا ربوبيةُ قهرٍ وانتقام.

الثانية: لكي يحيا العبدُ راجيًا عفوَ ربّه وصفحَه إذا زلَّ أو قَصَّر، فلا ييأس من رحمته مهما عظم الذنب.

الثالثة: لندرك أن تربيةَ اللهِ للعالمين لا تنبع من حاجةٍ إليهم، فلا هي لجلب نفعٍ ولا لدفع ضرّ، وإنما هي مظهرٌ من مظاهر رحمته الواسعة، وإحسانه الشامل لكل خلقه.

5- روى الشيخان في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «"لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"» .

6- من لطيف التأمل في اسميه تعالى: {الرحمن الرحيم} ، أن ندرك أن ما يبدو من العقوبة في الدنيا، أو العذاب في الآخرة لمن تجاوز حدود الله، إنما هو في ظاهره قهرٌ، ولكنه في حقيقته رحمةٌ؛ إذ فيه تربيةٌ للنفوس، وزجرٌ للخلق، لئلا يزيغوا عن طريق الهداية، أو يتمادوا في الغي والضلال.

7- افتتاحُ العلاقة مع الله بالرحمة لا بالعقوبة؛ فأولُ ما يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعلمه عنه هو رحمته، لا سلطانه ولا جبروته ولا عقابه، بل رحمته الواسعة.

8- فيها دعوة إلى الثقة بالله، فحينما يكرر الله صفة الرحمة بقوله: {{الرحمن الرحيم}} فإنه يغرس في قلب العبد شعورًا بالأمان والثقة، حتى وإن أذنب وأخطأ، فهو يدعوه ليعود إلى باب الرحمة، لا لييأس أو ينكسر.

9- هذه الآية ترسم منهجاً في التعامل مع الناس، إذا كانت صفات الله التي بدأ بها كتابه هي صفات الرحمة، فنحن أولى أن نتخلّق بشيء من هذا الخُلق العظيم، فيكون تعاملنا بالرحمة لا بالشدة.

10- تكرار {{الرحمن الرحيم}} في البسملة وفي الفاتحة يؤكد أن الرحمة أصل من أصول العبودية، وأن العبودية لله لا تكتمل إلا مع استشعار رحمته، وأن السير إليه لا يكون عن طريق الخوف وحده، بل بالمحبة والطمأنينة.

11- {{الرحمن الرحيم}} : ذَكَرَ صفتين، بينما للتهديد صفةً واحدةً {مالك يوم الدين}، ليبينَ أنّ رحمته أوسعُ وأقرب.

12- {{الرحمن الرحيم}} : اسمان مشتقان من الرحمة، دالان على كمال الرحمة التي اتصف بها ربنا تبارك وتعالى، ويدلان على سعة هذه الرحمة، التي وسعت كل شيء وعمت كل حي، وكل ما نحن فيه من النعم هي من آثار رحمته جل جلاله.

13- كلا الاسمين "الرحمن" و"الرحيم "يدلان على الذات والصفة والأثر، وكلٌ منهما يشير إلى رحمة عظيمة، واسعة، كثيرة، ومستمرّة.

وقد وصف الله نفسه بذلك فقال: {{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}} [الأنعام: 147].

14- إن اسم "الرحمن" أبلغ من "الرحيم"، ولهذا قُدّم في الذكر عليه، إذ إن صيغة "فَعَّال" (الرحمن) تدل على الامتلاء والكثرة والمبالغة، بخلاف "فَعِيل" (الرحيم) فهي دونها في القوة.

كما أن "الرحمن" يدل على الرحمة العامة الشاملة لجميع الخلق، وهو بذلك أخص من "الرحيم" الذي يدل على الرحمة الخاصة بالمؤمنين، فكان التقديم لمقتضى البلاغة والتناسب في المعنى.

15- الفرق بين "الرحمن" و"الرحيم" عند اقترانهما وافتراقهما:

إذا اقترن الاسمان: كان "الرحمن" دالًّا على الرحمة الذاتية، الثابتة في ذات الله، كما في قوله تعالى:
{{وربك الغفور ذو الرحمة}} ، وكان "الرحيم" دالًّا على الرحمة الفعلية، أي رحمته بعباده في الواقع، كما في قوله تعالى: {يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء}.

أما إذا افترقا، شمل كلٌ منهما الرحمة الذاتية والفعلية معًا، فدلّ كل واحد منهما على كمال رحمة الله في ذاته وآثارها.

16- برحمته سبحانه ابتدأت النِّعَم ودامت:

فبرحمته أرسل إلينا رسوله ﷺ، كما قال تعالى: {{وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}} ، وبرحمته أنزل علينا كتابه، شفاءً للصدور وهدايةً للقلوب: {{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}} .

وبرحمته خُـلِقت الجنة، وعُمِرت بأهلها، ووصلوا إليها بفضله ورحمته، وطاب لهم فيها العيش أبد الآبدين.

17- برحمته سبحانه أوجدنا من العدم وأسبغ علينا من النعم، وبرحمته علمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا.

18- من رحمته سبحانه جعل الخلق والتعليم ناشئا عن رحمته: {{الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}} .

19- كَانَ عمر بن عبد العزيز يَقُول: اللَّهُمَّ لَا تعطني فِي الدُّنْيَا عَطاء يبعدني من رحمتك فِي الاخرة.

20- "الرحمنُ" أوسعُ أسماء الله، و"الرحمةُ" أوسعُ صفات الله، و"العرشُ" أوسعُ مخلوقات الله، قال تعالى: {{الرحمن على العرش استوى}} ، فاستوى بأوسعِ صفاته على أوسعِ مخلوقاته.

21- قال ابن القيم في كتابه "الفوائد": وفائدةُ الجمعِ بين الصفتينِ "الرحمن" و"الرحيم" الإنباء عن رحمةٍ عاجلةٍ وآجلةٍ وخاصةٍ وعامة.

22- جاء ذِكرُ الرحمة بعد الحمد في الفاتحة، لبيان أن الرحمة تُنال بالحمد، فمن أثنى على ربه، استجلب رحمته.

وأولُ من جُرّب له ذلك هو آدم عليه السلام، فلما خَلقه الله وعطس، قال: "الحمد لله"، فأجابه ربه: "يرحمك ربك".

23- الرحمةُ من أعظمِ نِعمِ الله على عباده.

24- على المؤمن مجافاةُ اليأسِ والبعدُ عن القُنوط، فإن الله رحمنٌ رحيم، {{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}} .

فكل من استقرت في نفسه سَعةُ رحمة الله، لا يمكن أن يَدِبَّ إليه اليأسُ ولو مثقالَ ذرة.

25- ينبغي للعبد أن يتفـاءل في السراء والضراء، ويحسن الظنّ بربه في أوقات السَّعة كما في أوقات الضيق، فربُّه أرحم به من نفسه، وألطف بتدبيره مما يتصوّر قلبه.

26- {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، في هذين الاسمين تنزل السكينة، وتطمئن القلوب، وتأنس النفوس، وينشرح الصدر، فهما مصدر راحةٍ وطمأنينة، وباب تهدئةٍ ورحمة لا يُغلق.

كثرةُ الرحمات من الله تُورث العبد طمأنينة القلب، وسَعَةَ الفضل، وعميمَ الخير، ووفرةَ الرزق، وبركةَ العيش، وسعادةَ الدنيا، وفوزَ الآخرة.

قال تعالى: {{ومن تَقِ السيئاتِ يومئذٍ فقد رحمته، وذلك هو الفوز العظيم}} [غافر: 9].

ولعِظَمِ شأن الرحمة، سمّى الله دار كرامته في الآخرة بها، فقال: {{فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}} [آل عمران: 107].

وسمّى الرزق رحمة، فقال: {{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا...}} [الإسراء: 28].

وسمّى الغيث والمطر رحمة، فقال: {{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}} [الأعراف: 57]، أي: المطر.

27- وفي اسميه: {{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}} ، دعوةٌ ضمنيةٌ للتحلِّي بخلق الرحمة، فمن تخلّق برحمة الخلق، نال رحمة الخالق.

قال ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".

بل إن الرَّحم مأخوذة من اسمه "الرحمن"، كما قال ﷺ: "الرَّحِمُ شِجْنَةٌ  - مشتقة - من الرحمن، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله".

28- إن من أعظم صور الحرمان، أن يُحرم العبدُ من رحمةٍ وسعت كل الخلائق، وشملت المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر.

29- {{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}} رحمته فضل، وجزاؤه عدل، وفضلُه يسبقُ عدلَه، ورحمتُه تَغلِبُ غضبَه.

30- اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.

أيمن الشعبان

داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.

  • 3
  • 0
  • 46
المقال السابق
|3| الحمد لله رب العالمين
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً