المال الحرام
معلوم للكافة أن المال الحرام وبال على صاحبه في الدنيا والآخرة، إلا أن التعامل المادي مع مثل هذا الشخص تكتنفه الكثير من المحاذير والتوجيهات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، فمما هو معلوم للكافة أن المال الحرام وبال على صاحبه في الدنيا والآخرة، إلا أن التعامل المادي مع مثل هذا الشخص تكتنفه الكثير من المحاذير والتوجيهات التي ينبغي للمرء أن يراعيها ويهتدي بأحكامها؛ كي يسلم له دينه الذي هو أغلى ما لديه.
ولقد اختلف الفقهاء في حكم التعامل مع من اختلط ماله الحلال بالحرام؛ من حيث البيع والشراء، وقبول الهدية والعطية، وأكل طعامه في الضيافات، ونحو ذلك، على أقوال، أرجحها قولان:
القول الأول: أنه لا يحرم قبول هديته والتعامل معه، وإنما يكره، وهو معتمد مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره ابن القاسم من المالكية.
قال الإمام النووي الشافعي في «المجموع»: "إذا كان في مال المشتري حلال وحرام ولم يعلم من أين يوفيه الثمن لم يحرم على الإنسان الموهوب له، ولكن الورع تركه، ويتأكد الورع أو يخف بحسب كثرة الحرام في يد المشتري وقلته".
وقال ابن قدامة الحنبلي في «المغني»: "إذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال؛ كالسلطان الظالم، والمرابي؛ فإن علم أن المبيع من حلال ماله، فهو حلال، وإن علم أنه حرام، فهو حرام، ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه؛ لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع؛ لإمكان الحلال، قل الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها، قال أحمد: لا يعجبني أن يأكل منه".
القول الثاني: ينظر في الغالب على المال، فإن غلب الحلال جاز التعامل معه، وإن غلب الحرام لم يحل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
قال ابن نجيم رحمه الله في «الأشباه والنظائر»: "إذا كان غالب مال المهدي حلالًا فلا بأس بقبول هديته وأكل ماله، ما لم يتبين أنه من حرام، وإن كان غالب ماله الحرام لا يقبلها، ولا يأكل إلا إذا قال: إنه حلال ورثه أو استقرضه".
وذهب بعض العلماء إلى تحريم معاملة من اختلط ماله من حلال وحرام، وقال بهذا القول أَصْبَغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.. ولكن قال ابن رشد في «البيان والتحصيل»: "وقول أصبغ تشدُّد".
والراجح هو جواز معاملته وقبول هديته. وهذا القول هو الذي يرجحه أكثر العلماء المعاصرين.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ثبت عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قبل الهدية من المرأة اليهودية حينما أهدت إليه شاة في غزوة خيبر وأجاب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعوة يهودي دعاه في المدينة على خبز شعير وإهالة سنخة، وعامل اليهود بيعًا وشراءً، حتى إنه عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير اشتراه لأهله، وهذا يدل على جواز معاملة من اختلط ماله بحرام؛ لأن اليهود كما وصفهم الله تعالى: { ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾} [المائدة: 42]".
• أما من غصب مالًا، أو سرقه، وكان هذا المال المأخوذ بغير حق باقيًا- بعينه- عند آخذه، وعنده مال حلال آخر: فلا يجوز لأحد أن يشتري منه المال الحرام، إن كان عرضًا؛ كسيارة مثلًا، ولا يقبله ثمنًا في بيع إن كان عينًا؛ أي: ذهبًا أو فضة، ولا يأكله إن كان هذا المال طعامًا مغصوبًا، مثلًا، ولا يقبله هدية أو هبة.
فالمال المحرم لعينه، هذا سبيله، لا يجوز لأحد أن يعامله فيه، ولو كان لدى الغاصب أو السارق مالٌ حلالٌ آخر؛ لأن التحريم في عين ذلك المال.
• أما المال الحرام الذي زالت عينه، وبقي الحق في ذمة آخذه، أو اختلط بغيره من الحلال، ولم يمكن تمييزه منه، كما لو غصب دابة وماتت، أو طعامًا وأكله؛ فإنه يبقى في ذمته ثمنه أو قيمته، فيجوز له على قول أن يشتري منه، أو يبايعه، أو يقبل منه هدية، إذا كان لديه مال زائد عنه، يغطي قيمة الحرام المستحق لأصحابه.
• روى عبدالرزاق في مصنفه عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «"جَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ لِي جَارًا يَأْكُلُ الرِّبَا، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْعُونِي، فَقَالَ: "مَهْنَؤُهُ لَكَ وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ"، قَالَ سُفْيَانُ: "فَإِنْ عَرَفْتَهُ بِعَيْنِهِ فَلَا تُصِبْهُ"» «» .
فكلام ابن مسعود في المختلط، وكلام سفيان في المحرم الباقي بعينه.
وروى عبدالرزاق عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِذَا كَانَ لَكَ صَدِيقٌ عَامِلٌ، أَوْ جَارٌ عَامِلٌ، أَوْ ذُو قَرَابَةٍ عَامِلٌ، فَأَهْدَى لَكَ هَدِيَّةَ أَوْ دَعَاكَ إِلَى طَعَامٍ، فَاقْبَلْهُ، فَإِنَّ مَهْنَأَهُ لَكَ وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ".
وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة، وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضي من الربا والقمار، نقله عنه ابن منصور.
• والمختلط: منهم من قيده بألا يكون أكثر ماله حرامًا.
قال الإمام أحمد: أما أنا، فإذا كان أكثر مال الرجل حرامًا، فلا يعجبني أن آكل من ماله.
وقال إسحاق: كما قال [أي أحمد]، ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه ليس بمخالف لما قلنا.
قال ابن رجب رحمه الله في «جامع العلوم والحكم»:
"ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام؛ فقال أحمد: ينبغي أن يتجنبه، إلا أن يكون شيئًا يسيرًا، أو شيئًا لا يعرف.
واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين.
وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته والأكل من ماله.
وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام.
وكان النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب، مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله.
وإن اشتبه الأمر: فهو شبهة، والورع تركه.
قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إليَّ.
وقال الزُّهْري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يُعرف أنه حرام بعينه.
فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه، ولكن علم أن فيه شبهة؛ فلا بأس بالأكل منه، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل.
ورخَّص قوم من السلف في الأكل ممن يُعلم في ماله حرام، ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه، كما تقدم عن مكحول والزُّهْري، وروي مثله عن الفضيل بن عياض.
وروي في ذلك آثار عن السلف:
فصحَّ عن ابن مسعود أنه "سئل عمَّن له جار يأكل الربا علانية، ولا يتحرَّج من مال خبيث يأخذه، يدعوه إلى طعامه؟ قال: أجيبوه؛ فإنما المهنأ لكم، والوزر عليه.
وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئًا إلا خبيثًا أو حرامًا؟ فقال: أجيبوه.
وقد صحَّح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: (الإثم حَوَّاز القلوب).
ورُوي عن سلمان مثلُ قولِ ابن مسعود الأول، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُوَرِّقٍ العِجْلي، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب «الأدب» لحميد بن زنجويه، وبعضها في كتاب «الجامع» للخلال، وفي مصنفي عبدالرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم.
ومتى علم أن عين الشيء حرام، وأخذ بوجه محرم: فإنه يحرم تناوله. وقد حكى الإجماع على ذلك ابنُ عبدالبر وغيره"؛ انتهى من «جامع العلوم والحكم».
• وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الأموال المغصوبة، والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض، إن عرفه المسلم: اجتنبه، فمن علمتُ أنه سرق مالًا، أو خانه في أمانته، أو غصبه فأخذه من المغصوب قهرًا بغير حق: لم يجز لي أن آخذه منه، لا بطريق الهبة، ولا بطريق المعاوضة، ولا وفاءً عن أُجْرة، ولا ثمن مبيع، ولا وفاء عن قرض؛ فإن هذا عين مال ذلك المظلوم"؛ انتهى.
والراجح في معاملة صاحب المال المختلط، جواز معاملته مع الكراهة. وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وأما المال المحرم إذا كان باقيًا، فذهب بعض أهل العلم إلى التفريق بين ما كان محرمًا لعينه؛ كالمسروق والمغصوب، وما كان محرمًا لكسبه؛ كالمأخوذ ربا أو رشوة، فيحرم معاملته في الأول، دون الثاني، وهو مذهب المالكية وجماعة من أهل العلم، خلافًا للجمهور.
- التصنيف: