ماذا تفعل في المطبّات الهوائية؟

منذ 20 ساعة

حالة من الصمت الشديد والهدوء المُريب التي تُخيّم على الطائرة، حين يذهب المضيفون والمضيفات لتثبيت أنفسهم في مقاعدهم في منتصف الرحلة، وتُضيء إشارات الأحزمة، فيُدرِك الجميع أنّ الأمر جادّ هذه المرّة ويهرب كلّ إنسان إلى مُلتَجئه السلوكيّ. ويسود الطائرة صمتٌ شديد، يتخلّله تأوّهات وصرخات حين تضرب إحدى المطبّات بغتة.

جَرَت العادة عندي أثناء السفر أن ألاحظ بعناية ما يفعله النّاس حين تضرب المطبّات الهوائية جسم الطائرة لفترة متواصلة، فتتصاعد شدّتها وفُجائيتها ويعجز الرُكّاب عن التنبّؤ بالضربة القادمة، مكانها وشدّتها.

بطبيعة الحال، يفترق كلّ فرد بطريقة استجابته للشعور بالخطر، أحدهم يُمسك جيدًا بمقعده ويتشبّث محاولًا تثبيت نفسه، وقد تمسك الزوجة بيد زوجها إلى جانبها، وقد يصرخ الأب على طفله طالبًا منه البقاء ساكنًا.. مُحوّلًا خوفه إلى غضب، وآخرون يتمتمون بشفاههم بما يُشبه الدعاء أو الصلوات على اختلاف دينهم ومعتقداتهم. ومنهم مَن يُشتّت نفسه بالحديث إلى مَن يجلس إلى جانبه، وغيرهم ممّن تظهر عليهم علامات اللامبالاة، إمّا تظاهرًا أو صدقًا.

وأكثر ما يلفتني عمومًا، هو حالة الصمت الشديد والهدوء المُريب التي تُخيّم على الطائرة، حين يذهب المضيفون والمضيفات لتثبيت أنفسهم في مقاعدهم في منتصف الرحلة، وتُضيء إشارات الأحزمة، فيُدرِك الجميع أنّ الأمر جادّ هذه المرّة ويهرب كلّ إنسان إلى مُلتَجئه السلوكيّ. ويسود الطائرة صمتٌ شديد، يتخلّله تأوّهات وصرخات حين تضرب إحدى المطبّات بغتة.

وفي اللحظة التي تنتهي فيها موجة المطبّات، وتنطفئ إشارة ربط الأحزمة، يعود المضيفون لخدمة الركّاب، فجأة وبشكلٍ جماعيّ تعود الأصوات المرتفعة، وغالبًا ستسمع بعض الضحك المُتعالي، وبعضًا من محاولات الاستظراف وإلقاء النكات، وكأنّ الإنسان لا يُعجبه أن يُقرّ بخوفه وجدّيته في مواجهة الخطر فيُسارع لإلقاء النكات والمِزاح في إشارة إلى تبدّد الفزع وانتهاء الذعر. (التقط عالم الاجتماع غوفمان بذكاء هذه الظاهرة وأطلق عليها "إدارة الانطباع").

من المعروف بالتحليل النفسي أنّ السخرية والضحك إحدى طرق تنفيس التوتر الحادّ، وهي استجابة نفسية فطرية تذكّرنا بتلعيب الأطفال، إذ حين نُلقي طفلًا في الهواء، سيصعد وعيناه مليئة بالدهشة والخوف، وسنلتقطه فينتهي الخوف فجأة ويبدأ بالضحك تنفيسًا للتوتّر الذي أحدثه رعب الإلقاء بالهواء، وقد يطلب منكَ الطفل مزيدًا من الرمي والالتقاط بحثًا عن ثنائية الخوف والاطمئنان، والتناوب السريع بين الإثارة المُقلِقة والشعور بالأمان.

يُذكّرني هذا المشهد بالإنسان، بحياته اليومية، لكن على نطاق كثيف ومصغّر زمنيًا. الإنسان الذي إذا انتابه الذعر التجأ إلى ما يُطمأنه (ركن الاطمئنان)، وسرعان ما يكفر بمُلتجآته ويترك الركن وراءَه إذا ما اطمأنّ وشعر بالأمان وتبيّن له أنّ مخاوفه ليست سوى إنذارات كاذبة.

يذكّرنا هذا بآيات كثيرة تصف طبيعة الإنسان الآثمة حول التذكّر والنسيان، (إنّ الإنسانَ خُلِقَ هلوعا .. إذا مسّه الشرّ جزوعا) وكذا آيات الابتلاء في البحر والتصوير القرآني البديع لمناجاة الله حين يجيءُ الموجُ من كلّ مكان، والابتهال والتضرّع عند الحاجة والبغي في الأرض عقب النجاة.

يكفرُ الإنسان حين يشعر بالاطمئنان، وهذا يُشبهك كثيرًا، في عباداتك، وفي علاقاتك مع أصدقائك وزوجتك وأمّك وأبيك، تُسرفُ بإهمالهم حين تطمئن لدوام وجودهم، لصحّتهم وسلامة أحوالهم، وتأخذ قربهم منك على هيئة مضمونة لا تتبدّل، ثمّ تأتي صفعات الدهر لتُريكَ تبدّل الأحوال، وحين تشعر أنّك ستخسرُ مَن يُحبُّك أو أنّ سلامتهم يتهدّدها المرض أو الانفصال تعود للالتصاق بهم وتُفني نفسك ومالك لاستعادة الأمان المفقود.

وأعظم من هذا كلّه علاقتك مع ربّك وقد تنبّه العلماء لهذا الباب وسرّه في الوصول إلى مقامات القبول وقالوا:

العارفُ لا يزول اضطراره!

أيّ أنّ اضطرارك إلى الله عزّ وجلّ، ووقوفك على عتبة أبوابه، ترجو رحمته وتخشى عذابه، ولزومك للذكر والدّعاء، أمرٌ غير منوطٍ بحاجاتك الظرفية ولكن مرهون بافتقارك الذاتيّ. 

والافتقار الذاتيّ يأتي لازمًا للهشاشة الوجودية التي تُحدثها معرفة الإنسان بنفسه، فمن عرف نفسه.. عرف ربّه، ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربّه بالغنى، ومن عرف نفسه بالشحّ عرف ربّه بالكَرَم، ومن عرَف نفسه بالضعف عرف ربّه بالكفاية (فسيكفيكهم الله) ومَن عرف نفسه بالفناء عرفَ ربّه بالبقاء.

والافتقار والشعور بالفقر شرط أساسي لورود العطايا الإلهية، التقطها أهل الذوق بعناية (إنّما الصدقاتُ للفقراء)، وفي مدارج السالكين كلامٌ بديع عن باب الفقر والافتقار.

لا يبتلعكَ النسيان ولا يكن من طبعك التذبذب والتقلّب والطغيان، وتذكّر أنّ الثباتَ في الأمرِ ولزوم باب الفقر عادةُ الصادقين المُخلصين، وقد تورّمت بالعبادة قدما أبي القاسم الشريفيتين ﷺ، وهو الذي غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، لأنّه يصدق في الحبّ، يعرف مقامه ومقام ربّه، ويعرف أنّ الشكر والامتنان يُثبّته دوامُ الاتّصال وحُسنُ الوِصال.

تذكّر هذا جيدًا عند قضاء حوائجك وانفراج كُرَبِك وزوال همومِك، تذكّر أن تُبقي شعورك بالفقر والافتقار، حين توهمك الحياة غناكَ المُزيّف واكتفاءَكَ المُؤقّت. تذكّر أن تحافظ على اضطرارِك وأن تُداوِم على حُسنِ وصِالك ودوام اتّصالِك.
 

محمود أبو عادي

مختصّ نفسي وباحث في علم النفس والدراسات السلوكية والاجتماعية، حيث أكمل دراسته في علم النفس بعد دراسته للهندسة المدنية.

  • 0
  • 0
  • 61

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً