يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
{{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا} } فروا وأدبروا وهربوا، وظاهر {تولوا} يدل على مطلق التولي يوم اللقاء، سواء فرّ إلى المدينة، أم صعد الجبل.
{{مِنْكُمْ} } وهم أكثر الجيش حتى إنه لم يبق مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينهزموا إلا ثلاثة عشر رجلاً، منهم خمسة من المهاجرين: أبو بكر، وعلي، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار منهم: أبو طلحة.
{{يَوْمَ الْتَقَى} } أي تلاقوا وجهاً لوجه {{الْجَمْعَانِ} } جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد.
{{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ}} أوقعهم في الزلل وهو الخطيئة بالفرار من الجهاد {{الشَّيْطَانُ}} الشيطان: اسم جنس، مشتق من شَطَن إذا بَعُدَ؛ لبعده عن رحمة الله تعالى.
واستزلهم بمعنى أزلهم أي جعلهم زالين، والزلل مستعار لفعل الخطيئة، والسين والتاء فيه للتأكيد، مثل استفاد واستبشر واستنشق. ومنه قوله تعالى: {{وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} } [التغابن:6] وقوله: {{أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}} [البقرة:34]. ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأن المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول، فهو زلل واقع.
وقيل: المراد بالزلل الانهزام، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضده وهو النصر قال تعالى: { {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}} [آل عمران:147].
{{بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}} الباء هنا للسببية، أي: ببعض ذنوبهم، من مفارقة موقفهم، وعصيان أمر الرسول، والتنازع، والتعجيل إلى الغنيمة.
والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان، وما هم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم، وإبطال ما عرض به المنافقون من رمي تبعة على أمر الرسول عليه الصلاة والسلام والخروج، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد. وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه.
ولم يجيء (بما كسبوا)، لأنه تعالى يعفو عن كثير كما قال تعالى: {{وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}} [المائدة:15] فالاستزلال كان بسبب بعض الذنوب، فجعلت سبباً للاستزلال.
ومناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها أنه تعالى بعد أن بين لهم مرتبة حق اليقين بقوله: {{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ}} انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة، فبين لهم أنه إن كان للأسباب تأثير، فسبب مصيبتهم هي أفعالهم التي أملاها الشيطان عليهم وأضلهم، فلم يتفطنوا إلى السبب، وَالْتُبِسَ عَلَيْهِمْ بِالْمُقَارَنِ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه، ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصحيح، وتزكية النفوس، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين، وتعظيمه عندهم، وتنفيرهم من الشيطان، والأفعال الذميمة، ومعصية الرسول، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين.
** قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها.
وقال العلماء: «المعاصي بريد الكفر»، يعني تنتقل بالإنسان مرحلة بعد أخرى حتى يصل إلى قمة المعاصي وهي الكفر.
** والخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه، ومعنى هذا أن الشيطان لَا يفتح معاقل النفس، ويغزو مواضع الفضيلة، إلا بالصغائر التي تسهل الرذائل، فإذا فتح النفس من هذا المعقل هجم بكل أسلحته، فتحكم الهوى والشيطان واستضعفت النفس وذلت، وأحاطت بها الخطايا، وسدت عنها منافذ الهداية والنور.
** وفيه: أن الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة أخرى فلذا وجبت التوبة من الذنب فوراً.
** ويتفرع على هذا أيضاً فائدة وهي: أن العقوبة لا تختص بالألم البدني أو فوات الشهوات، بل قد تكون العقوبة بخذلان المرء عن الطاعات، ويذكر عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قال: "إن الرجل ليحرم قيام الليل بالذنب يصيبه".
يؤيدها أيضاً قوله تعالى: {{فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ}} هذه عقوبة بدنية { {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةٌ} } وهذه عقوبة دينية، {{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ}} وهذه أيضاً عقوبة دينية {{وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}} [المائدة:١٣]
{{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}} فعفا عَمّا كان منهم من الفرار، ولم يؤاخذهم بهذه الزلة.
وهذه كالتي سبقت في قوله: {{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}} [آل عمران:١٥٢] فكرر الله العفو مرتين تأنيسا لهم.
والعفو: ترك المؤاخذة على الذنب، ويكون في الغالب في ترك الواجبات يعني أن الله عفا عمن ترك الواجب، والمغفرة وتكون فيمن فعل المحرم.
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: لَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَفَوْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَبْلِغْهُ أَنِّي لَمْ أَفِرَّ يَوْمَ عَيْنَيْنِ - قَالَ عَاصِمٌ: يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ – [وعينين جبيل تحت أحد بينهما وادي] وَلَمْ أَتَخَلَّفْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمْ أَتْرُكْ سُنَّةَ عُمَرَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَخَبَّرَ ذَلِكَ عُثْمَانَ، قَالَ: فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي لَمْ أَفِرَّ يَوْمَ عَيْنَيْنَ، فَكَيْفَ يُعَيِّرُنِي بِذَنْبٍ وَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155]، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي تَخَلَّفْتُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنِّي كُنْتُ أُمَرِّضُ رُقَيَّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى مَاتَتْ وَقَدْ ضَرَبَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَهْمِي، وَمَنْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَهْمِهِ فَقَدْ شَهِدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي لَمْ أَتْرُكْ سُنَّةَ عُمَرَ، فَإِنِّي لَا أُطِيقُهَا وَلا هُوَ، فَائْتِهِ فَحَدِّثْهُ بِذَلِكَ.
وروى البخاري عنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ الْقُعُودُ قَالُوا هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ قَالَ مَنْ الشَّيْخُ قَالُوا ابْنُ عُمَرَ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ أَتُحَدِّثُنِي قَالَ أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَكَبَّرَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ لِأُخْبِرَكَ وَلِأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ» ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ «فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ هَذِهِ لِعُثْمَانَ» اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ.
قال القرطبي: "ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام. وقوله عليه السلام: (فحج آدم موسى) أي غلبه بالحجة؛ وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة؛ فقال له آدم: (أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه) ومن تاب عليه فلا ذنب له، ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم، وكذلك من عفا الله عنه.
وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك، وخبره صدق. وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك. فاعلم".
ولما كان مذهب الزمخشري أن العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب، وأنَّ الذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو، دسّ مذهبه في هذه الجملة، فقال: "ولقد عفا الله عنهم لتوبتهم واعتذارهم".
{{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}} ذو المغفرة، وهي ستر الذنب والتجاوز عنه.
{{حَلِيمٌ}} الحلم هو التأني وعدم السرعة، فلا يعاجل عبده بعقوبة بل يمهله حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليما لكان يؤاخذ لأول الذنب والزلة فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة. قال تعالى: {{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً}} [فاطر:45]
قيل: وقد أكد سبحانه عفوه بأربعة تأكيدات أولها: بالواو واللام فهي تنبئ عن القسم، والثاني: «قد»، فإنها تفيد تأكيد تحقق القول، والثالث: وصف الله تعالى بالمغفرة فإنه يؤكد أن العفو شأن في شئونه سبحانه، والرابع: الوصف بالحلم فإنه سبحانه لَا يسارع بالعقاب.. والتأكيد من أجل زيادة طمأنينة المخاطب.
** وفيه بيان فضل الله على عباده وإلا فإن الفرار الذي حصل من الصحابة عظيم، لكن رحمة الله أوسع، فمن أجل سعة رحمة الله عفا الله عنهم.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: