بئس مطية الرجل زعموا
فِي النَّاسِ كَسَلٌ مُفْرِطٌ عَنِ التَّثَبُّتِ وَالأَنَاةِ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ تَلَقِّيَ الأَخْبَارِ وَنَشْرَهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالأَمْرِ العَظِيمِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ..)
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ تَعَمُّدَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الخَلْقِ وَإِيقَاعَ الأَذَى بِهِمْ بِالأَقْوَالِ أَوِ الأَفْعَالِ هُوَ مِمَّا تَقَرَّرَ قُبْحُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ مِمَّا يَتَرَفَّعُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ؛ لِحُسْنِ أَخْلَاقِهِمْ، وَصِدْقِ تَدَيُّنِهِمْ، فَإِيذَاءُ النَّاسِ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ العَمْدُ فِي الإِيذَاءِ لَيْسَ أَصْلاً، إِمَّا لِاعْتِبَارَاتٍ شَرْعِيَّةٍ تَصْرِفُ المُعْتَدِيَ عَنْ اعْتِدَائِهِ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ، وَإِمَّا لِاعْتِبَارَاتٍ نِظَامِيَّةٍ وَفَهْمٍ لِمَا يَتْبَعُ الِاعْتِدَاءَ مِنْ مُطَالَبَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَإِمَّا لِاعْتِبَارَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تَحْتِمُهَا أَعْرَافُ بَعْضِ النَّاسِ، بِاخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ وَمَنَاطِقِهِمْ.
وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الِاعْتِدَاءِ؛ لِانْعِدَامِ تِلْكَ الرَّوَادِعِ فِيهِ: الشَّرْعِيَّةِ وَالنِّظَامِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ مُؤْلِمٌ، وَأَثَرُهُ عَلَى الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ كَبِيرٌ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ -تَعَالَى- اعْتِدَاءَ المُعْتَدِي فِيهِ بِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ بِجَهَالَةٍ، يَغْلُبُ فِيهِ عَدَمُ القَصْدِ، وَوَصَفَ اللَّهُ المُتَضَرِّرِينَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ وَلَيْسَ فَرْدًا؛ لأَنَّ الأَصْلَ أَنَّ الضَّرَرَ فِيهِ يَعُمُّ وَإِنْ كَانَ المَقْصُودُ فَرْدًا، وَأَمَّا مَنْشَأُ هَذَا الِاعْتِدَاءِ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يَأْتِي مِنْ أَقْوَامٍ غَيْرِ صَالِحِينَ، وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالفِسْقِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[سورة الحجرات: 6].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي النَّاسِ وَلَعٌ فِطْرِيٌّ بِتَلَمُّسِ الأَخْبَارِ وَقَبُولِ الشَّائِعَاتِ، وَاصْطِيَادِهَا فِي الهَوَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَفِي النَّاسِ كَسَلٌ مُفْرِطٌ عَنِ التَّثَبُّتِ وَالأَنَاةِ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}[سورة الإسراء: 11].
إِنَّ عَقْلَ الرَّجُلِ وَمِيزَانَهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَحْمِلُهُ عَقْلُهُ وَفِكْرُهُ مِنْ مُكْتَسَبَاتِ الأَنَاةِ وَالتَّثَبُّتِ فِي أُمُورِهِ، وَبِالأَخَصِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَذِمَمِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَكَفَى بِعَدَمِ التَّثَبُّتِ ذَمًّا أَنْ جَعَلَ اللَّهُ عَاقِبَتَهُ النَّدَامَةَ وَالتَّحَسُّرَ، وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ.
إِنَّ تَلَقِّيَ الشَّائِعَاتِ وَنَقْلَهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَافِعُهُ الفُضُولُ وَحُبُّ الِاسْتِطْلَاعِ وَمَعْرِفَةُ الخَبَرِ وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ بِأَدْنَى سَبَبٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَافِعُهُ التَّشْوِيشُ وَإِثَارَةُ البَلْبَلَةِ، لِتَحْقِيقِ مَآرِبَ فِكْرِيَّةٍ أَوْ سِيَاسِيَّةٍ أَوْ اجْتِمَاعِيَّةٍ أَوِ اقْتِصَادِيَّةٍ أَوْ دِينِيَّةٍ.
وَأَيًّا كَانَ الدَّافِعُ، فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ تَلَقِّيَ الأَخْبَارِ وَنَشْرَهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالأَمْرِ العَظِيمِ؛ إِذْ إِنَّ التَّلَقِّي فِيهَا لَا يَكُونُ بِالسَّمَاعِ وَالعَقْلِ، وَإِنَّمَا بِاللِّسَانِ، كِنَايَةً عَنْ الجَهْلِ وَانْتِفَاءِ العِلْمِ، قَالَ -تَعَالَى-: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[سورة النور: 15].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا أُوذِيَ بِهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ هُوَ نَشْرُ الشَّائِعَاتِ عَنْهُمْ وَتَنَاقُلُهَا، وَلَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِبَيَانِ صِدْقِهِمْ، وَفَضْحِ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي أَخْبَارِهِمْ يَجِدْ أَنَّ مَا نُشِرَ عَنْهُمْ مِنْ إِشَاعَاتٍ لَمْ تَكُنْ أَحْكَامًا مُبَاشِرَةً، وَإِنَّمَا أَخْبَارًا نُقِلَتْ إِمَّا بِصِيغَةِ التَّعَجُّبِ أَوِ الِاسْتِفْهَامِ.
تَأَمَّلُوا فِي نَبِيِّ اللَّهِ يُوسُفَ -عليه السلام- وَمَا لَقِيَهُ مِنْ أَذًى، فَإِنَّهُ لَمْ يُتَّهَمْ صَرَاحَةً، وَإِنَّمَا قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ لِسَيِّدِهَا: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[سورة يوسف: 25].
وتَأَمَّلُوا فِي نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى -عليه السلام- وَمَا لَقِيَهُ مِنْ أَذًى، يَوْمَ أَنْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى -عليه السلام- رَجُلًا حَيِيًّا سَتِيرًا، يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ وَلَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ، فَقَالُوا: مَا يَمْنَعُ مُوسَى -عليه السلام- أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ، أَيْ بِهِ عَيْبٌ فِي خِلْقَتِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ.
فَلَمَّا أَرَادَ مُوسَى -عليه السلام- أَنْ يَغْتَسِلَ يَوْمًا، وَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ؛ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}[سورة الأحزاب: 69].
وَتَأَمَّلُوا فِي مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ -عليها السلام- وَمَا لَقِيَتْهُ مِنْ أَذًى، يَوْمَ أَنْ جَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، فَقَالَتْ: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}[سورة مريم: 23]، وَمَا تَمَنَّتِ المَوْتَ إِلَّا خَوْفًا مِمَّا كَانَتْ تَظُنُّهُ مِنِ انْتِشَارِ الشَّائِعَاتِ حَوْلَهَا، وَقَدْ قَالُوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[سورة مريم: 28].
وَأَمَّا رَسُولُنَا -صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْذَ فِي حَيَاتِهِ كَالأَذَى الَّذِي لَحِقَهُ فِي أَهْلِهِ يَوْمَ أَنْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى صَفْوَانَ بْنَ المُعَطَّلِ يُمْسِكُ بِزِمَامِ النَّاقَةِ يَقُودُهَا، وَعَائِشَةَ -رضي الله عنها- رَاكِبَةً، قَالَ: صَفْوَانُ وَعَائِشَةُ! وَاللَّهِ مَا نَجَا مِنْهَا وَلَا نَجَتْ مِنْهُ.
فَأَشَاعَ مَا أَشَاعَ، وَوَشَى الحَدِيثَ، وَتَلَقَّفَتْهُ الأَلْسُنُ، حَتَّى اغْتَرَّ بِذَلِكَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ، وَصَارُوا يَتَنَاقَلُونَ الكَلَامَ، وَانْحَبَسَ الوَحْيُ مُدَّةً طَوِيلَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، حَتَّى نَزَلَ الوَحْيُ بِبَرَاءَةِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، فَقَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[سورة النور: 11].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ عَلَّمَنَا رَبُّنَا -سبحانه-، وَعَلَّمَنَا رَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم-، أَلَّا تَكُونَ آذَانُنَا كَالأَقْمَاعِ، نَتَلَقَّى مِنْ خِلَالِهَا أَيَّ خَبَرٍ دُونَ تَثَبُّتٍ، وَأَنْ نُرْسِلَهُ جُزَافًا بِلَا زِمَامٍ وَلَا خِطَامٍ، فَإِنَّ الخَبَرَ أَوَّلَ مَا يُسْمَعُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِحْسَانِ الظَّنِّ بِالمَنْقُولِ عَنْهُ، ثُمَّ التَّثَبُّتِ وَسُؤَالِ البَيِّنَةِ، ثُمَّ إِمْسَاكِ اللِّسَانِ، ثُمَّ الإِنْكَارِ عَلَى النَّاقِلِ وَتَخْوِيفِهِ بِاللَّهِ.
وَتَأَمَّلُوا مَا يُتَدَاوَلُ وَيُنْقَلُ مِنْ أَخْبَارٍ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ اليَوْمَ، وَكَيْفَ يَتِمُّ نَقْلُهَا وَنَشْرُهَا فِي أَقَلِّ مِنْ ثَانِيَةٍ، لَا يُرَاعِي النَّاشِرُ فِيهَا حُرْمَةً وَلَا ذِمَّةً، تُنْشَرُ بِهَا أَسْرَارٌ، وَيُفْضَحُ بِهَا أَقْوَامٌ، كَمْ فُرِّقَ بِسَبَبِهَا شَمْلٌ، وَهُدِمَتْ بِهَا بُيُوتٌ!
وَرَحِمَ اللَّهُ ابْنَ الجَوْزِيِّ، إِذْ قَالَ: شَاهَدْتُ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى الحَيَاةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَطِّعُ الزَّمَانَ بِكَثْرَةِ الحَوَادِثِ مِنَ السَّلَاطِينِ، وَالغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَمْ يُطْلِعْ عَلَى شَرَفِ العُمْرِ وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ الأَوْقَاتِ العَافِيَةِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ اغْتِنَامَ ذَلِكَ.
أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ المُتَسَرِّعَ بِنَقْلِ الأَخْبَارِ إِمَّا مُتَحَدِّثٌ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، وَإِمَّا كَاذِبٌ، وَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
الانْشِغَالُ بِمَا يُنَفِّسُ النَّفْسَ وَمَا يَنْفَعُ النَّاسَ هُوَ مَا أَمَرَنَا بِهِ اللَّهُ -تعالى- وَرَسُولُنَا -صلى الله عليه وسلم-، وَأَمَّا قَالُوا وَتَحَدَّثُوا وَزَعَمُوا، فَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَاحْذَرُوا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ فِي تَنَاقُلِ الأَخْبَارِ، وَلَا تَقُولُوا إِلَّا خَيْرًا، فَإِنَّهُ لَا «يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» ؛ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى، أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَشَدِّ الْأَخْبَارِ ضَرَرًا وَأَعْظَمِهَا عَلَى النَّاسِ أَثَرًا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِشَأْنِ دِينِهِمْ وَأَمْنِهِمْ، وَإِنَّ الْمَنْهَجَ الشَّرْعِيَّ فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ هُوَ التَّعَامُلُ مَعَهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، وَإِحَالَةُ الْأَمْرِ لِأَهْلِهِ، وَعَدَمُ الْوُلُوجِ فِي شُؤُونِ النَّاسِ وَأَمْرِ الْعَامَّةِ.
وَتَأَمَّلُوا فِي تِلْكَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تُنْشَرُ الْيَوْمَ بِشَكْلٍ رَهِيبٍ، إِمَّا لِاسْتِهْدَافِ هَذِهِ الْبِلَادِ، أَوْ لِاسْتِهْدَافِ الْبَيْتِ الْمُسْلِمِ، أَوِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، أَوِ الِاقْتِصَادِ الْمُسْلِمِ، أَوِ الْقَضَاءِ الْمُسْلِمِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ لِزَعْزَعَةِ النَّاسِ وَخَلْطِ أَفْهَامِهِمْ.
صَرَخَ الشَّيْطَانُ فِي النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الدِّعَايَةِ وَالْإِشَاعَةِ أَشَدُّ مَا يَكُونُ عَلَى النَّاسِ لَا فِي الْحَرْبِ وَلَا فِي السِّلْمِ، فَالدِّعَايَاتُ وَالْإِشَاعَاتُ الْكَاذِبَةُ تَفُتُّ عَضُدَ النَّاسِ، وَالَّذِي فَعَلَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَصَابَهُمُ الْوَهَنُ وَالضَّعْفُ، حَتَّى مِنْهُمْ مَنْ أَدْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ.
فَقَدْ سَمِعَ الْفَارُوقُ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- طَلَّقَ نِسَاءَهُ، فَجَاءَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَصْبِرْ حَتَّى اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَفْهَمَهُ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟! فَقَالَ: لَا، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}[سورة النساء: 83].
إِذَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الْكُبْرَى فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَأَرْجِعُوا الْأُمُورَ إِلَى أَهْلِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَالْخَوْضَ فِيهَا، فَإِنَّ الْخَوْضَ طَرِيقُ الشَّيْطَانِ، وَالتُّؤَدَّةُ وَالْأَنَاةُ هِيَ سَبِيلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
أَسْأَلُ اللَّهَ -تعالى- أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَنْ يُعِينَ الْمُتَضَرِّرِينَ مِنَ الزَّلَازِلِ وَالْفَيَضَانَاتِ عَلَى تَجَاوُزِ كُرْبَتِهِمْ، وَأَنْ يَرْزُقَهُمُ الصَّبْرَ وَالِاحْتِسَابَ، وَأَنْ يُفَرِّجَ هَمَّهُمْ، وَيُنَفِّسَ كُرْبَتَهُمْ، وَأَنْ يُغِيثَهُمْ بِفَضْلِهِ وَوَاسِعِ رَحْمَتِهِ.
____________________________________________________
الكاتب: د خالد بن عبدالرحمن الراجحي
- التصنيف: