إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
{بسم الله الرحمن الرحيم }
يقول تعالى في سورة آل عمران:
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
{{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} } شرطٌ وجوابه، وجواب الشرط نفيٌ صريحٌ.
و(لا) هذه نافية للجنس، والنافية للجنس نص في العموم؛ لأن النفي قد يكون للعموم نصا وقد يكون للعموم ظاهراً، والفرق بين النص والظاهر: أن النص لا يحتمل التخصيص، والظاهر يحتمل أن يكون عاماً أُريد به الخصوص.
قالوا: وجعل الجواب بقوله: {{فَلا غَالِبَ لَكُمْ} } دون أن يقول: لا تغلبوا، للتنصيص على التعميم في الجواب، لأن عموم ترتيب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئيا أي لا تغلبوا من بعض المغالبين، فأريد بإفادة التعميم دفع التوهم.
{{وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ}} والخذلان: القعود عن النصرة. الخذلان ضد النصر، وهذه من القواعد التي تفيدك في تفسير القرآن، أن الكلمة قد يظهر معناها بما قرن معها من الضد. مثل قوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً}} [النساء:71]
{فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر ذاتاً وصفة، وبطريق المبالغة، ومُشْرَب بمعنى التَّحدّي.
وكلمة {مِنْ بَعْدِهِ} هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاورة: أي فمن الذي ينصركم دونه أو غيره أي دون الله، فالضمير ضمير اسم الجلالة لا محالة، واستعمال (بعد) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى: { {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}} [الجاثية:23].
وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله، وترغيب في الطاعة، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد. وتحذير من المعصية، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان.
وجواب الشرط متضمن للنفي، تلطفاً بالمؤمنين، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام، وإن كان معناه نفياً.
وقيل: جاء النفي على صيغة الاستفهام ليوجه أنظار المخاطبين إلى البحث عن قوي تكون قدرته كافية للوقوف أمام إرادة الله تعالى في الخذلان، فإنهم سيبحثون عن قوي ولن يجدوه، فعندئذ يحكمون بأن الله وحده الكبير المتعال، ولا ناصر سواه.
قال ابن عاشور: "ولو حمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبارا بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون، ولا يجهل مؤمن أن الله إذا قدر نصر أحد فلا راد لنصره، وأنه إذا قدر خذله فلا ملجأ له من الهزيمة، فإن مثل هذا المعنى محقق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل يعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته، فيتعين أن يكون هذا الخبر مرادا غير ظاهر الإخبار.
وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريرا لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة، حتى لا يحزنوا على ما فات لأن رد الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس، وعزاء على المصيبة، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أن نصر الله قوما في بعض الأيام، وخذله إياهم في بعضها، لا يكون إلا لحكم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنب أسباب السخط الموجب للخذل كما أشار إليه قوله: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} } [محمد:7] وقوله: {{فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} } [آل عمران:153] وقوله الآتي: {{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}} [آل عمران:165]
وعليهم التطلب للأسباب التي قدر لهم النصر لأجلها في مثل يوم بدر، وأضدادها التي كان بها الخذل في يوم أحد، وفي التفكير في ذلك مجال أوسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضار على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك، ففي هذا الخبر العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزج بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجياد، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحض على تحصيل ذلك.
فجمع لهم كل ذلك في كلام جامع نافع في تلقي الماضي، وصالح للعمل به في المستقبل، أن يكون الإخبار مبنيا على تنزيل العالم منزلة الجاهل، حيث أظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأول في أمر الرسول لهم في الثبات، ومن التلهف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح، ما جعل حالهم كحال من يجهل أن النصر والخذل بيد الله تعالى. فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر".
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تذييل قصد به الأمر بالتوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى: من أسباب عادية وهي الاستعداد، وأسباب نفسانية وهي تزكية النفس وإتباع رضا الله تعالى.
وقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص والحصر، أي: ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ.
ولكن التوكل على الله عز وجل ليس كالتوكل على الآدمي، التوكل على الله فيه إنابة وخضوع وذل وتفويض واعتماد تام على الله، بخلاف ما إذا توكل الإنسان على شخص وكيل له، فإنه لا شك يعتمد عليه فيما وكله فيه، لكن لا يجد من قلبه أنه مفوض تفويضاً تاماً، فالتوكل على الله عبادة.
ونحن نعلم علم اليقين أن نبينا محمداً سيد المتوكلين، ومع ذلك كان يتوقى الحر، ويتوقى البرد، ويأكل لدفع الجوع، ويشرب لدفع الظمأ، وفي الغزوات كان يلبس الدرع يتوقى به السهام، وفي غزوة أحد لبس درعين، وفي غزوة الخندق لما أحاط الأعداء بالمدينة حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، ولم يقل نتوكل على الله، والوقائع على هذا كثيرة تدل على أن فعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولكن يجب أن نلاحظ شرطاً مهماً، وهو أن تكون الأسباب أسباباً شرعية أو كونية، لا أسباباً وهمية.
أسباب شرعية يعني ثبت بالشرع أنها سبب، أو أسباب كونية أي ثبت بالتجارب أنها سبب .أما السبب الوهمي كتعليق التمائم غير الشرعية والتطير وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الاعتماد عليه.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: