أَوْقِفُوا الشَّمْسَ

منذ 2025-07-23

فما أحوجنا لأن نتنبه لمثل هذا ، فنجعلها تشهد لنا لا علينا ، وذلك حين نستثمر أيامنا وليالينا بما يرضي الإله العظيم سبحانه وتعالى من الأقوال والأفعال والنوايا ..


الْعَنَاصِرُ الْأَسَاسِيَّةُ: 
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: قَانُونُ الْحَرَكَةِ وَسُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ.
 الْعُنْصُرُ الثَّانِي: الْعُمْرُ يَذْهَبُ وَلَا يَعُودُ.
 الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يَنْقَضِي أَجَلُهُ وَيَبْقَى حَيًّا. 
الْمَوْضُوعُ: 
أَخْرَجَ الْمُنْذِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لَنْ تَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: إِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي خَلْقِهِ سُنَّةَ الْحَرَكَةِ، كُلُّ شَيْءٍ لَهُ حَرَكَةٌ، وَلَا يَسْكُنُ فِي هَذَا الْعَالَمِ شَيْءٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ {:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}} [سورة التكوير ] .

لا شيء في هذا العالم يبقى ثابتا ، لا شيء في هذا العالم يبقى ساكنا ، الكل يذهب ، الكل إلى طريقه ينطلق قال الله تعالى:  {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ}  [سورة إبراهيم] .

من أصغر مخلوق خلقه الله تعالى إلى أعظم مخلوق الكل وبلا استثناء في حركة دائمة . النملة تتحرك ، والجمل يتحرك ، وجبال من السحاب فوق رؤوسنا نراها بأعيننا تتحرك  ..

وفي التنزيل الحكيم:
{وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [سورة يس] .

أخرج مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَوْمًا: « أتَدْرُونَ أيْنَ تَذْهَبُ هذِه الشَّمْسُ؟  قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ قالَ: إنَّ هذِه تَجْرِي حتَّى تَنْتَهي إلى مُسْتَقَرِّها تَحْتَ العَرْشِ، فَتَخِرُّ ساجِدَةً» ..

فلا تَزالُ كَذلكَ حتَّى يُقالَ لَها: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِن حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طالِعَةً مِن مَطْلِعِها، ثُمَّ تَجْرِي حتَّى تَنْتَهي إلى مُسْتَقَرِّها تَحْتَ العَرْشِ، فَتَخِرُّ ساجِدَةً، ولا تَزالُ كَذلكَ حتَّى يُقالَ لَها: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِن حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طالِعَةً مِن مَطْلِعِها، ثُمَّ تَجْرِي لا يَسْتَنْكِرُ النَّاسَ مِنْها شيئًا حتَّى تَنْتَهي إلى مُسْتَقَرِّها ذاكَ تَحْتَ العَرْشِ، فيُقالُ لَها: ارْتَفِعِي أصْبِحِي طالِعَةً مِن مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طالِعَةً مِن مَغْرِبِها ..

فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أتَدْرُونَ مَتَى ذاكُمْ؟ ذاكَ حِينَ {{لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا}} [الأنعام ] .

سنة الله تعالى في خلقه أن لا سكون :
الملائكة تعرج إلى السماء وتنزل إلى الأرض ، والإنس يذهب ويجيئ ، والجن يظهر ويختفي ، والطير تغدو وتروح ، والسحاب يجري ، والفُلك في البحر (مواخر ) أي : تشق البحر شقا ،
والأرض تهتز وتربو ، الماء يجري في النهر ، الحوت يسبح في البحر ، حتى الجبال الراسيات لا تحسبها ساكنة فهي الأخرى تتحرك قال الله تعالى : {{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}}

قال الله تعالى في شأن سيدنا سليمان عليه السلام {{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۚ وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}} [سورة الأنبياء] [] .

وقال عز من قائل في شأن سيدنا نوح عليه السلام {وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } [سورة القمر ] .

قانون الله تعالى الذي يسري على أصغر مخلوق وعلى أعظم مخلوق هو قانون الحركة ، لا شيء يثبت ، لا شيء يتجمد مكانه ، لا شيء يبقى مكانه ساكنا الكون كله في حركة دائمة ..

أيها الإخوة الكرام : ومن أبرز ما يتحرك ويمضي ويذهب وينقضي (عُمر الإنسان) أيامه ولياليه وأعوامه مع كل نفَسٍ يخرج ويدخل ، مع كل ليلة تنقضي ، ومع كل يوم ، يمضي الإنسان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة ..

 المقصود :
أن تعلم أن الوقت أغلى من أن تفسده ، وأن العمر أنفس من أن تضيعه بلا فائدة تعود عليك وعلى الناس بالخير في الدنيا أو في الآخرة..

قال رجل لعامر بن عبد قيس: يا عامر قف أكلمُك! فقال: أوقف الشمسَ.
والمعني أن ليس عندي وقت أضيعه معك ، ولا أملك زمنا أستهلكه في قيل وقال . فالزمن لا يتوقف ، كما الشمس لا تتوقف ، فإن استطعت أن توقف الشمس وقفت لك .

 هذا الذي نتكلم عنه وهو ذهاب (عمر الإنسان) هذه قضية محسومة مُسلّمةٌ من المُسلّماتِ ، لن يعيش مخلوق إلى يوم القيامة ، ولن يُخلد أحد في الدنيا ، فكل ما له بداية له نهاية ، وكل ما له أول له آخر ، الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال لابد من دخول القبر ..

كل باك سيبكى ، كل ناع سينعى ، كل مذكور سينسى ، كل مخلوق سيفنى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى ..

يا من ضيع الأوقات جهلا ، أفق واحذر بوارك ، فسوف تفارق اللذات قصرا ، ويخلي الموت كُرها منك دارك ، تدارك ما استطعت من الخطايا ، بتوبة مخلص واجعل مدارك ، على طلب السلامة من جحيم ، فخير ذوي الجرائم من تدارك .

ثروة الإنسان ورأس ماله ( عمره) :
اليوم الذي يمر لا يعود ، والنفس الذي يخرج قد لا يرجع ، والعين تطرف وقد لا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله تعالى..

 الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول : أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشدّ منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم ..

قعد قومٌ عند معروف الكرخي رحمه الله، فأطالوا القعود فقال لهم : أما تريدون أن تقوموا، إن ملَكَ الشمس يجرُّها لا يفتُر.

سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول كلمة رائعة  : 
يقول " إن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما أنت " 

الليل والنهار يهدمان حياة الإنسان ، يكبر الإنسان ، يشيب شعره ، يضعف بصره، يحتاج إلى نظارة ، تضعف قوته ، يحتاج لأن يتكئ على عصا

 " إن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما أنت " 

هذه الخلايا التي بأجسامنا تضعف ، هذه الأعضاء الحيوية في أجسادنا تضعف ، هذه القوة التي في أيدينا تضعف ، هذا البصر الحاد مع مرور الزمن يصبح ضعيفا ، هذا السمع المرهف مع مرور الأيام يبقى ثقيلا ، هذه الذاكرة الحادة مع سنوات العمر قد لا تتذكر إلا القليل ..

{{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ}} [سورة الروم] .

هذا الضعف فيه حكمة مُرادة تضعف القوة شيئاً فشيئاً ، وكأن هذا الضعف إشارة لطيفة ، وتنبيه لطيف من المولى جل وعلا انه قد اقترب اللقاء ، فهل أنت مستعد له ؟ 

رسالة من الله تعالى كأنه سبحانه وتعالى يقول:عبدي شاب شعرك ، وانحنى ظهرك ، وضعف بصرك، فاستح مني فأنا أستحي منك ..

" إن الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل فيهما أنت " 

استثمر أيام حياتك ،أشغل نفسك بالعمل الصالح ، املأ وقتك بالعلم النافع ،وقدم لنفسك خيرا يبيض وجهك يوم القيامة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ..

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك أعمارنا وأن يجعلنا من عباده الصالحين إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.

الخطبة الثانية:
بقي لنا في ختام الحديث عن ضرورة اغتنام الوقت ، واستثمار العُمر فيما ينفعنا في الدنيا والآخرة ، بقي لنا أن نقول:

أن أحد أسباب الفرار من وساوس الشيطان أن تشغل وقتك 
ومن أقوى اسباب الهروب من الوقوع في الذنوب أن تتحرك فتقرأ وتعمل وتتعلم وتفكر ..

قال الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ:" صحبتُ قوما فانتفعتُ منهم بكلمتينِ. يقولونَ: الوقتُ سيفٌ، فإنْ قطعتَهُ وإلا قطعَكَ، ونفسُكَ إنْ لم تشغلْهَا بالحقِّ شغلتْكَ بالباطلِ".

إذا عاش الإنسان فارغا لا هو في عمل دنيا ولا هو في عمل أخرى تسلط عليه الشيطان بوساوسه ..

أما إذا ملأ وقته بما ينفع من الأعمال ومن الأقول صُرفت عنه وساوس الشيطان ، ونجا من الوقوع في الذنوب والآثام ..

النفس كالطفل ، إن تهمله شب على حب الرضاع ، وإن تفطمه ينفطم ..

عاجلا أو آجلا العُمر سينقضي ، سيموت الإنسان ولو ملك مثل ما ملك قارون ، سيموت الإنسان وعاش ما عاش سيدنا نوح ، لكن من الناس من يموت جسده ويبقى حيا ، يبقى حيا بآثاره الصالحة ، وأعماله النافعة ، يبقى حيا بسيرته الحسنة ..

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني ، فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عُمر ثاني ..

قال الحكيم العليم سبحانه وتعالى { {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}} سورة يس .

هذه الآرض التي نحيا عليه ، ونملؤها حركة وسعيا ، ونعمل عليها خيرا ، ونأتي عليها شرا ، هذه الأرض تُستنطق يوم القيامة فتنطق ، وتُستشهد يوم القيامة فتشهد ، وذلك قول الله عز وجل {{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}} [سورة الزلزلة]  

عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} } فقال : " أتدرون ما أخبارها  ؟
 قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : « فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل يوم كذا كذا وكذا» .

فما أحوجنا لأن نتنبه لمثل هذا ، فنجعلها تشهد لنا لا علينا ، وذلك حين نستثمر أيامنا وليالينا بما يرضي الإله العظيم سبحانه وتعالى من الأقوال والأفعال والنوايا ..

نسأل الله تعالى أن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير  إنه ولي ذلك و مولاه وهو على كل شيء قدير 
----------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر .

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.

  • 3
  • 0
  • 153

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً