صفة جمع المصحف في عهد عثمان والفرق بين جمعه وجمع أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
صفة جمع المصحف في عهد عثمان والفرق بين جمعه وجمع أبي بكر الصديق رضي الله عنهما......................
كان القرآن الكريم يُكتب في عهد النبي عليه الصلاة والسلام مُفرَّقًا فيما تيسر كتابته من الجلود وعظام الأكتاف والعُسُب، وهي جريد النخل إذا أزيل عنه خوصه، فمات النبي عليه الصلاة والسلام وجميع ما نزل من القرآن محفوظ في صدور حفاظ القرآن الكريم، ومكتوب كله في تلك القَطَع، فأمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجمع تلك المكتوبات في صُحُف تجمع سور القرآن وآياته، ثم أمر عثمان رضي الله عنه بنقل تلك الصحف إلى مصحف واحد، برسم واحد، ثم كتب عدة مصاحف بذلك الرسم العثماني، وبعث بها إلى أشهر أمصار المسلمين، فكتب المسلمون مصاحفهم بما يوافق ذلك الرسم العثماني.
وهل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حين جمع الناس في عهده على مصحف واحد أمر برسم كلمات القرآن على ما تيسر من الأحرف السبعة أو اختار حرفًا واحدًا وترك الباقي؟
قولان للعلماء، والظاهر من الأدلة الصحيحة وتنوع القراءات الثابتة أن عثمان أمر برسم كلمات القرآن على ما أمكن من الأحرف السبعة المنزلة، فإن لم يمكن رسم الكلمة إلا برسم واحد اختار أحد الحروف المنزلة، وإن كان أحدها بلغة قريش قدَّمه على غيره، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ» ([1])، وهو يدل على أن أي حرف يقتصر عليه المسلمون في قراءة القرآن أو في رسم المصحف فهو كاف شاف.
- فمثال ما أمكن رسمه على أكثر من حرف:
رسم قوله تعالى: {{ملك يوم الدين}} هكذا بغير ألف، وتقرأ بالحرفين: {{ملك}} أو {{مالك}} ، وهما قراءتان متواترتان.
ورسم قوله تعالى: {{إن جاءكم فاسق بنبإ فىــىــىــىـوا}} هكذا بلا نقط، فتصح أن تقرأ بالحرفين: {{فتبينوا}} أو {{فتثبتوا}} ، وهما قراءتان متواترتان.
ورسم قوله تعالى: {{وجعلوا الملائكة الذين هم عىــــد الرحمن إناثا }} هكذا، فتصح أن تقرأ {{عباد}} أو {{عند}} ، وهما قراءتان متواترتان.
- ومثال ما لم يمكن رسمه إلا برسم واحد فاختار عثمان أحد الحروف المنزلة:
قوله تعالى: {{القيوم}} ، تم رسم هذه الكلمة هكذا، وثبت أنها كانت في حرفٍ {{القيَّام}} ، وصح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ {(القيَّام)} في خلافته([2])، فاختار عثمان أحد الحرفين وهو الأول، ولو اختار الثاني لجاز ذلك، ولكنه ألزم المسلمين أن يقرءوا بالرسم الذي اختاره لهم من الأحرف السبعة حتى يسد باب الخلاف بينهم.
قوله تعالى: {{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}} تم رسمها هكذا، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرؤها {{فامضوا إلى ذكر الله}} ([3])، وهي قراءة سمعها عمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن جرير بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال: لقد توفى الله عمر رضي الله عنه، وما يقرأ هذه الآية التي ذكر الله فيها الجمعة: {{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}} إلا (فامضوا إلى ذكر الله)([4])، فهما قراءتان مسموعتان من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته لكن لم يمكن عثمان أن يرسم إلا إحدى القراءتين إما {{فاسعوا}} ، أو {{فامضوا}} ، فاختار الأولى.
قوله تعالى: {{والليل إذا يغشى* والنهار إذا تجلى* وما خلق الذكر والأنثى}} تم كتابتها هكذا، وقد ثبت في الصحيحين([5]) أن عبد الله بن مسعود وأبا الدرداء رضي الله عنهما كانا يقرآنها: {{والذكرِ والأنثى}} ، وهي قراءة سمعاها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يمكن عثمان إلا أن يختار إحدى القراءتين، لأنه لا يمكن رسم الحرفين في نفس الوقت، فاختار القراءة الأولى.
- ومثال ما كان أحد الأحرف بلغة قريش فقدَّمه عثمان على غيره: قوله تعالى: {{التابوت}} ، فإن لغة أهل المدينة (التابوه) بالهاء، ولغة قريش (التابوت) بالتاء، وفي الحديث الصحيح أن هذا أول حرف اختلف فيه الذين كان يكتبون المصحف بأمر عثمان على رسم واحد، فرفعوا هذا الخلاف إليه، فقال: اكتبوه على لغة قريش: {{التابوت}} ([6]).
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره (1/ 45): "اختلاف الأحرف السبعة إنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك: هلم وتعال، باتفاق المعاني، لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام، وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف".
وقال ابن جرير أيضًا في تفسيره (1/ 53): "الأمة أُمِرت بحفظ القرآن وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أُمِرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة أن تُكفِّر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر، كانت مصيبة حكم الله، مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله، فكذلك الأمة أُمِرت بحفظ القرآن وقراءته، وخُيِّرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت لعلة من العلل، أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه، بما أذن له في قراءته به، فإن إمام المسلمين، وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه، جمع المسلمين، نظرًا منه لهم، وإشفاقًا منه عليهم، ورأفة منه بهم، حذار الردة من بعضهم بعد الإسلام، والدخول في الكفر بعد الإيمان، إذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم، أن المراء فيها كفر، فحملهم رحمة الله عليه إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره، بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين، من تلاوة القرآن على حرف واحد، وجمعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة، التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها، ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها، وعفو آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها، فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد، الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية. فإن قال بعض من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك، لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة؛ لأن القراءة بها لو كانت فرضًا عليهم، لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة، عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبره العذر، ويزيل الشك من قراءة الأمة، وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة، من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة، فإذا كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا، إذ كان الذي فعلوا من ذلك، كان هو النظر للإسلام وأهله، فكان القيام بفعل الواجب عليهم بهم أولى من فعل ما لو فعلوه، كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب، منهم إلى السلامة من ذلك" انتهى باختصار، وظاهر كلام ابن جرير السابق أنه يرى أن القراءات العشر المتواترة كلها حرف واحد، والظاهر أنها تشتمل على عدة أحرف مما تيسر كتابته برسم واحد يحتملها كما تبين شرحه، وهو ما صرح به مكي بن أبي طالب في كتابه الإبانة عن معاني القراءات (ص: 32) حيث قال رحمه الله: "القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه، واطرح ما سواه مما يخالف خطه، فقرئ بذلك لموافقة الخط لا يخرج شيء منها عن خط المصاحف التي نسخها عثمان رضي الله عنه، وبعث بها إلى الأمصار، وجمع المسلمين عليها، ومنع من القراءة بما خالف خطها".
الفرق بين جمع أبي بكر الصديق وجمع عثمان رضي الله عنهما
جمع أبي بكر الصديق يختلف عن جمع عثمان في الباعث والكيفية، فالباعث لدى أبي بكر رضي الله عنه لجمع القرآن خشيـة ذهابه بذهاب حملته، حين كثُر استشهاد القـُرَّاء في حروب الرِّدة، والباعث لدى عثمان رضي الله عنه كثرة الاختلاف في وجوه القراءة، فقد كان بعض التابعين الذين لم يشاهدوا التنزيل يخطِّئ بعضهم بعضًا، وربما اقتتل بعضهم مع بعض بسبب الخلاف في قراءة القرآن!
وجمع أبي بكر الصديق للقرآن هو الأصل، وقد كان جمعًا لما كان مُفرَّقًا في الرِّقاع والأكتاف والعُسُب في صحف واحدة مرتبة الآيات، مقتصِرًا على ما لم تُنسخ تلاوته.
وجمع عثمان للقرآن كان نقلًا للصُحُف التي جمعها أبو بكر في مصحف واحد مرتب السور، مع توحيد رسم الكلمات القرآنية، فعثمان لم يسقط آية واحدة، ولم يُغيِّر حرفًا واحدًا مما كان في الصحف التي جمعها أبو بكر، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه (4530) عن عبد الله بن الزبير قال: قلت: لعثمان بن عفان {{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا}} قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟! قال: «يا ابن أخي، لا أغير شيئًا منه من مكانه»، وجمع عثمان المسلمين على مصحف واحد من أعظم مناقب عثمان رضي الله عنه، وكان جمع عثمان مجرد نقل للقرآن الكريم الذي جمعه أبو بكر في الصحف، فكتب القرآن الكريم برسمٍ واحدٍ في مصحف مع ترتيب السور، ثم أمر المسلمين أن يعتمدوا ذلك المصحف الذي اعتمده، ويكتبوا مصاحفهم على نفس رسمه، روى البخاري في صحيحه (4987) عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدِم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: (أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك)، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم)، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وبهذا البيان المختصر يُعلم أن صفة جمع مصحف عثمان رضي الله عنه هو رسم كلمات القرآن على ما أمكن من الأحرف السبعة المنزلة، فإن لم يمكن رسم الكلمة إلا برسم واحد اختار أحد الحروف المنزلة، وإن كان أحدها بلغة قريش قدَّمه على غيره، ثم نسخ عدة مصاحف بالرسم الذي اعتمده، وهو المسمى الرسم العثماني نسبة إلى عثمان رضي الله عنه، وأمر من كان عنده مصحف بغير الرسم المعتمد أن يحرقه، وأرسل عدة مصاحف مكتوبة بالرسم العثماني إلى الأمصار، وبهذا العمل العظيم اجتمعت الأمة على رسم عثمان، وسلِم المسلمون من التفرق والاختلاف في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
([1]) رواه أحمد في مسنده (21132) من طريق أنس بن مالك عن أبي بن كعب رضي الله عنهما بإسناد على شرط البخاري ومسلم، وصححه الألباني والأرناؤوط.
([2]) تفسير ابن جرير الطبري (5/175) والمصاحف لابن أبي داود (ص: 162)، وتفسير ابن المنذر (1/112).
([3]) تفسير ابن جرير الطبري (22/638).
([4]) تفسير ابن جرير الطبري (22/639) وسنده على شرط مسلم.
([5]) رواه البخاري (3742) ومسلم (824).
([6]) تفسير ابن جرير (1/54) والمصاحف لابن أبي داود (ص: 88)، والمقنع في رسم مصاحف المصار لأبي عمرو الداني (ص: 14)، ولفظ رواية الطبري: عن زيد بن ثابت أن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها في مرج أرمينية، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان، فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس! فقال عثمان: وما ذاك؟! قال: غزوت مرج أرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أُبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتُكفرهم أهل العراق! وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فتُكفرهم أهل الشام! قال زيد: فأمرني عثمان بن عفان أكتب له مصحفًا، وقال: إني مدخل معك رجلًا لبيبًا فصيحًا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعا إلي، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص، فلما بلغا {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}، قال زيد: فقلت: التابوه، وقال أبان بن سعيد: التابوت، فرفعنا ذلك إلى عثمان، فكتب: (التابوت). وأصل القصة في صحيح البخاري (4987)، وفيها: فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم.
- التصنيف: