الممحاة الروحية
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في مصنفه "التوبة": "اهتمام العبد بذنبه داعٍ إلى تركه، وندمه عليه مفتاحٌ لتوبته، ولا يزال العبد يهتمّ بالذنب يصيبه حتّى يكون أنفع له من بعض حسناته"
كل الاحترام لتلك الممحاة التي تمحو زلاتنا، ولأبواب الطوارئ التي تمنحنا فرصة للهروب عند الضرورة، وللاستقالة التي تتيح لنا التراجع بكرامة، ولخصائص الحذف التي تسمح لنا بإعادة الكتابة من جديد.
كل فكرة تمنح الإنسان حق التراجع والانسحاب تستحق التقدير، لأنها تعي جيدًا تناقضات الفرد، وتشتته، وطبيعة أرواحنا التي تبقى دومًا متأرجحة بين الندم والأمل.
والتوبة في الإسلام كذلك، نبعٌ صافٍ تنبعث منه أرواحنا كلما أثقلتها الذنوب، فتعود إلى نقائها الأول كما خلقها الله. وهي النداء الخفي الذي يتردد في أعماق كل قلب مؤمن، يذكره بأنه لا يزال على درب الرحمة، مهما ضلت خطاه وتعثرت في ظلمات الخطايا.
وكما قال ابن تيمية: "فإنّ العبدَ إنما يعودُ إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمتى خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يَعُد إلى الذنب. فهذه التوبة النصوح" [جامع المسائل (المجموعة السابعة/ ٢٨٠)].
التوبة ليست مجرد كلمة تُقال أو فعل يُرتكب على عجل، بل هي رحلة طويلة من الصدق مع النفس، واستشعار الندم، وعزم أكيد على ألا نعود إلى ما كان. واستيقاظ الروح بعد سباتها، وعودتها إلى فطرتها النقية. وقد ذكر ابن أبي الدنيا في مصنفه "التوبة" عن عون بن عبد الله -رحمه الله-: "اهتمام العبد بذنبه داعٍ إلى تركه، وندمه عليه مفتاحٌ لتوبته، ولا يزال العبد يهتمّ بالذنب يصيبه حتّى يكون أنفع له من بعض حسناته" [التوبة، ابن أبي الدنيا (١٣٨)].
أي نفس تلك التي لا تتوق إلى التوبة؟ وأي قلب لا يشتاق إلى سكينة الصفح؟ كل توبة هي كسر لقيد أتعب الروح وكبّل النفس.
وكما يقول الشنقيطي في كتابه "العذب النمير": "التوبة إلى الله واجبة بإجماع المسلمين، وتأخيرها ذنب يحتاج إلى توبة، والله أمر بها أمراً صارماً بقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (العذب النمير للشنقيطي: ١/٢٩٨).
- التصنيف: