تبرؤ المتبوعين من أتباعهم
فليحذر المؤمن أن يغتر بقول من يصدونه عن دين الله تعالى، أو يزينون له شيئا من الكفر أو البدعة أو المعصية، أو يشككونه في شيء من دينه؛ فإنه إن استمع لهم ضل وغوى، فأوبق نفسه وأهلكها، وحين يلقى الله تعالى بجنايته يتبرأ منه شياطين الإنس والجن الذين أهلكوه وأغوو..
أيها الناس: الشراكة تكون في الخير كما تكون في الشر، والاتباع يكون في النفع كما يكون في الضر. ومن دل غيره على خير كان له مثل أجره، ومن دل غيره على شر كان عليه مثل وزره، والناس في الخير وفي الشر أتباع ومتبوعون، فإما حمدوا اتّباعهم لهم، وأثنوا عليهم به، وإما ذموا اتّباعهم لهم وتبرءوا منهم.
وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن الكفار يتجادلون فيما بينهم، وأن الشركاء يتهمون شركاءهم بالكذب عليهم، وأن المتبوعين يتبرءون من الأتباع؛ ليعلم قراء القرآن أن ما يرونه من شراكتهم في الكفر والعصيان ستكون وبالا عليهم في الآخرة، وأن صداقتهم وتواصيهم بالشر والإثم والعدوان ستنقلب إلى عداوة شديدة يوم القيامة {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
فمن عبدوا الملائكة عليهم السلام يتبرأ الملائكة من عبادتهم يوم القيامة؛ لأن الملائكة لا يرضون بالشرك والمعصية {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40-41].
والرسل عليهم السلام يتبرؤون ممن عبدوهم من دون الله تعالى؛ كعبادة النصارى للمسيح عليه السلام؛ لأن الرسل إنما جاءت بالتوحيد والطاعة، ونهت عن الشرك والمعصية {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116-117].
والملائكة والرسل والأولياء الصالحون يتبرءون ممن عبدوهم حين يسألون عنهم {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 17-19]. والمعنى: «أأنتم أمرتموهم بعبادتكم؟ أم هم أخطأوا الطريق؟ فأجابوهم بقولهم: ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك ونتخذ غيرك وليا ومعبودا، أي: فكيف ندعو إلى عبادتنا إذا كنا نحن لا نعبد غيرك؟»
ويتبرأ المعبودون من عابديهم، والمتبوعون من تابعيهم، والمغوون ممن أغووهم وصدوهم عن دين الله تعالى؛ كما قال الله تعالى {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]. وقال تعالى {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28]، «فأَنْكَرُوا عِبَادَتَهُمْ، وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ» {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 29]، «أَيْ: مَا كُنَّا نَشْعُرُ بِهَا وَلَا نَعْلَمُ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي بِكُمْ، وَاللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنَّا مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا، وَلَا أَمَرْنَاكُمْ بِهَا، وَلَا رَضِينَا مِنْكُمْ بِذَلِكَ».
وفي إنذار الخليل عليه السلام لقومه أخبرهم أن معبوداتهم من دون الله تعالى تتبرأ منهم يوم القيامة، كما أن من دعوهم إلى عبادتها من شياطين الجن والإنس يتبرءون منهم {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]. وكل معبود من الخلق يكون عدوا لعابده يوم القيامة، جاحدا له، متبرئًا منه، لا يستجيب له كما لم يستجب له في الدنيا؛ كما قال تعالى {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52]، وقال تعالى {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 13-14]، وقال تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6]. وتصل العداوة بينهم إلى حد تلاعنهم، ودعاء بعضهم على بعض {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 64-68].
وكان الأتباع في الدنيا يعظمون المتبوعين، ويسيرون في طريقهم، ويلزمونهم في ضلالهم، ثم في النار يتمنون وطأهم وإهانتهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29]، فيالها من صحبة شقية، وولاية مشئومة، ونهاية أليمة مهينة، يتمنى الواحد منهم أنه ما عرف صاحبه الذي أغواه ولا رآه.
والمشركون حين عبدوا غير الله تعالى إنما أرادوا العز بما عبدوا، فانقلبوا ضدهم؛ كما قال الله تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81-82] أي: «يصيرون أعوانا عليهم، يكذبونهم، ويلعنونهم، ويتبرءون منهم».
أيها المسلمون: لكل إنسان قرين يدعوه للشر، فإن أطاعه أغواه وأرداه، ثم يوم القيامة يتبرأ منه؛ كما قال تعالى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 36-38].
ويخاصم الكافر قرينه يوم القيامة لأنه أغواه، وصده عن الإيمان، وهذه المخاصمة مذكورة في قول الله تعالى {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 23-29].
والذين يغوون الناس، ويصدونهم عن دين الله تعالى، يُظهرون لهم النصح في الدنيا، ويزعمون أنهم يحملون عنهم ذنوبهم يوم القيامة، يقولونه لهم ذلك على سبيل التكذيب بيوم القيامة والإنكار له، فيوردوهم دار السعير؛ كما قال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 12-13].
فليحذر المؤمن أن يغتر بقول من يصدونه عن دين الله تعالى، أو يزينون له شيئا من الكفر أو البدعة أو المعصية، أو يشككونه في شيء من دينه؛ فإنه إن استمع لهم ضل وغوى، فأوبق نفسه وأهلكها، وحين يلقى الله تعالى بجنايته يتبرأ منه شياطين الإنس والجن الذين أهلكوه وأغووه، وزينوا له سوء عمله، فلا ينفعونه شيئا، ولا يخففون عنه عذابه، بل يزيدونه ألما وحسرة إذا انقلبوا عليه، وتبرءوا منه، {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 64].
وصلوا وسلموا على نبيكم...
- التصنيف: