مقبرة الأذكياء
كان دعاء النبي ﷺ المتكرر: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، إقرارًا بأن صيانة المسار ليست بيد العقل ولا بمخزون التجربة، بل بيد المقلّب سبحانه
في دهاليز التاريخ الفكري تتراءى لنا مأساة الإنسان حين يُفتن ببريق العقل المجرّد، ترى الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرًا، ثم يعمى عن أظهر المعاني وأجلاها، وأن ترى آخر من أبلد الخلق ذهنًا وأضعفهم استنباطًا، فإذا بيد العناية الإلهية تنتشله إلى مقامات الهداية، فتشرق بصيرته بما اختلف فيه من الحق بإذن الله.
وكأن النصّ التيمي الفذ يجلّي هذه الحقيقة بقوله: «وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا، ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به» [درء تعارض العقل والنقل ٣٤/٩]. هنا يضع ابن تيمية إصبعه على موضع الداء: إن الركون إلى “سلطة العقل” المجردة خذلان، والاطمئنان إلى “معمار الاستدلال” وحده وهمٌ يتبدد عند أول منعطف؛ فالعقل آلة نافعة لكن ريشته لا تخطّ طريق النجاة إن لم تُغمس في مداد الوحي.
ومن هنا كان دعاء النبي ﷺ المتكرر: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، إقرارًا بأن صيانة المسار ليست بيد العقل ولا بمخزون التجربة، بل بيد المقلّب سبحانه، ولعل هذه الحقيقة هي التي تفضح زيف الاستغناء المعرفي وتعرّي صنم الاعتماد الذاتي في زمن أُغري فيه الناس بعبادة أدواتهم.
وهكذا تنكشف لنا ملامح مقبرة الأذكياء حيث تُدفن المواهب اللامعة التي اغترّت ببريقها، وتُشيَّع العقول النيّرة التي اتخذت من حدّتها تمثالاً، فخسرت هداية الوحي في زحام براهينه، فالمسألة ـ في حقيقتها ـ ليست تفاضل ذكاء ولا سباق استدلال، بل انكسار على عتبة العبودية، وركون إلى رحمة تهدي القلوب حيث يعجز النظر وتضلّ الحجج.
- التصنيف: