وَإِنْ وُقِّعَ الصُّلحُ وأُوْقِفَتِ الحربُ!
تطلَّبُ من الأمَّةِ بأجمعِها جملةً من الأعمال، لعلَّ مِن أهمِّها: توبَةٌ صادِقَةٌ إلى اللهِ - إعدادُ العُدَّةِ - العِنايةُ بحمايةِ الوَعْيِ -
بكلِّ تأكيدٍ، فإنَّ مقترحَ ترامب والاتِّفاقيَّةَ التي نشأتْ عنهما لإنهاءِ حربِ تدميرِ غزة وتصفيةِ مقاومتِها - والتي قامَ بها الصهاينةُ بتسليحٍ وتمويلٍ ودعمٍ غربيٍّ مكشوفٍ في كافَّةِ المحافلِ، وفي مقابلِ فرقةٍ وهوانٍ وضعفٍ إسلاميٍّ بينَ - هي من أسوأِ الاقتراحاتِ وأشرُّها على الأمَّةِ.
وما هي إلَّا خطوةٌ من خطواتِ الهيمنةِ والقيامِ بتصفيةِ المقاومةِ الفلسْطينيَّةِ، وبخاصَّةٍ أنَّ المقاومةَ، على تجلِّدِها وصبرِها، ليستْ في أفضلِ حالاتها؛ فقد خسرتْ غالبَ عتادِها، ومشهدُ المنطقةِ يتَّجهُ إلى تصفيةِ النفوذِ الإيرانيِّ الذي كانت قيادةُ حماسَ الحاليةُ تعوِّلُ عليه في نُصْرَتِها، على الرَّغْمِ من كثرةِ النَّكباتِ التي أَصابَتْهَا نتيجةَ خذلانهِ المتوالِي لها وإخْلافِهِ لوعودِهِ المتتابعةِ.
ومشهدٌ كهذا يتطلَّبُ من الأمَّةِ بأجمعِها جملةً من الأعمال، لعلَّ مِن أهمِّها:
• توبَةٌ صادِقَةٌ إلى اللهِ، تتخلَّلُها محاسبةٌ للنَّفسِ والمسيرةِ ومراجعةٌ لأسبابِ الكوارثِ التي أوقعَتْها في أمَّتِنا اليومَ؛ فما نزلَ بنا من بلاءٍ إلَّا بذنبٍ، وما رُفِعَ إلَّا بتوبَةٍ وعَمَلٍ صالحٍ. قالَ تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ». وفي الحديثِ الحَسَنِ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتم بالزرعِ، وتركتم الجهادَ، سلَّطَ اللهُ عليكم ذلًّا لا يَنزِعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكم».
• إعدادُ العُدَّةِ؛ فالمعركةُ مستمرةٌ، وقادمُها - أيا كانَ أسلوبُه - أشرَّ من ماضيها. فالتكالُبُ الصهيونيُّ الصليبيُّ مستمرٌّ، وزحفُهم على ميادينِ الأمَّةِ متواصلٌ؛ وحصارُ التدينِ وتوسيعُ دوائرِ الأمِّيَةِ الشرعيَّةِ وإغراقُ المجتمعاتِ في أوحالِ التغريبِ والتمزيقِ على أشدِّهِ، ونهبُ الثرواتِ وفرضُ الضعفِ والتبعيَّةِ والإفقارِ المنظَّمِ وانتهاك السيادة مستمرٌّ بوتيرةٍ أقوى وأسرع. والمخطَّطاتُ لا تُواجَهُ إلَّا باجتماعٍ وتخطيطٍ وبذلِ السَّعْيِ في تحجيمِ المخاطرِ واستثمارِ الفرصِ، كلُّ واحدٍ في المجالِ الذي يُحسِنُه؛ وبخاصَّةً أنَّنا أمامَ حربٍ شمولِيَّةٍ، لا يوجدُ مجالٌ سليمٌ من آفاتِها، ولا بلدٌ مسلمٌ متعافٍ من بلواها.
ولذلكَ، فلا بدَّ من تغييراتٍ كُبرى تُجريها الأمَّةُ في أوساطِها وأساليبِها وعلاقاتِها حتى تكونَ قادرةً على المُجابهةِ؛ وإلَّا فإنَّ خطَّةَ الأمسِ بحجمِها وأدواتِها، متى استُخدمتْ اليومَ، ستؤدِّي إلى النتائجِ نفسها في الغدِ.
• العملُ بكلِّ جدٍّ على إزالةِ العوائقِ التي بُلِيَتْ بها أمَّتُنا اليومَ، والتي كانت مِن دواعي الضعفِ والتخلُّفِ والفرقةِ؛ وتجاوزُ التَّعصُّبِ للأدواتِ والأساليبِ المألوفةِ، والبحثُ عن أُطُرٍ جامِعَةٍ جديدةٍ تُعيدُ للأمَّةِ حيوِيَّتَها ولحمتَها، وتعلُّقَها بكتابِ ربِّها وسنَّةِ نبيِّها ﷺ. فالخللُ في الأمَّةِ عميقٌ، وحلولُ التَّلْفيقِ وإن بدَتْ خيرًا فليستْ إلَّا تضميدًا للجُرُوحِ المُمْتلِئَةِ بشرٍّ؛ وليستْ مِن أسبابِ النهوضِ في شيءٍ، وإن بدَتْ في أوَّلِ وهلةٍ كذلك.
• العِنايةُ بحمايةِ الوَعْيِ وبذل الجهد في حسن قيادةِ المسيرةِ، وعدمُ تركِ الشَّبابِ تحتَ تأثيرِ أعدائِهم؛ فهم يصنعون أوَّليَّاتِهم وينظِّمون عُقولَهم، ويرسُمون لهم خُطوطَ المسيرِ، مرةً تحتَ ضغطِ السَّوْطِ والتهديدِ، ومرةً تحتَ أرديَةِ النَّصحِ والانتماءِ ومدِّ الجَزْرَةِ. وهذا يتطلَّبُ أصواتًا عميقَةً صبورةً متزنةً قادرةً على المنافسةِ في وسائلِها؛ يقومُ عليها الراسِخونَ الرَّبّانيُّونَ من أهلِ العلمِ والفكرِ وأهلِ الاختصاصِ، كلٌّ في مجاله؛ لا أنصاف العلماءِ وأشباه المثقَّفينَ، ولا جماعاتِ أهلِ الأهواءِ، ولا حشودَ المتعصِّبين من الإسلاميينَ لهذه الجماعةِ أو لتلكَ. والتي ساهمَ بعضُ قادتها الإداريِّينَ بتعصُّبِهم وضيقِ أُفُقِهم ومخالَفَتِهم لأحكامِ الدينِ -تحت أغطية الضرورة والاستثناء- في إيصالِ الأمَّةِ إلى المشهدِ الذي نراهُ اليومَ: ضعفًا وهوانًا وتعجّلاً وفرقةً.
• تحرُّرُ أهلِ العلمِ والفكرِ والاختصاصِ من أسرِ التنظيماتِ والجماعاتِ التي صارت تقودُهم بدلًا من أن يَقودوها، وصارت تُقيِّدُهم بممارساتِها ومراعاةِ مصالحِها؛ فضعُفَ نصحُهم وقَلَّت حركتُهم، وانحسرت موجاتُ تأثيرِهم داخل الأمة نتيجةَ أسرِ تلكَ التصنيفاتِ المُدمِّرَةِ. وهذا ما يحتمُّ عليهم العودةَ إلى الأمَّةِ، والتفكيرَ في مصالحِها وما يحقِّقُ نفعَها فقط، بعيدًا عن أسرِ أيِّ انتماءٍ آخرَ.
• ألاّ يَنتَظِرَ أحدٌ التَّوجيهَ من غيرِ ذِي اختصاصٍ في العملِ لهذا الدينِ، في الجوانبِ والمجالاتِ التي لا افتِئاتَ فيها على الأمَّةِ أو تجاوزًا لأهلِ العلمِ والفكرِ والإدارةِ فيها؛ بحيث يتحوَّلُ كلُّ رائدٍ في مكانٍ أو مجالٍ إلى قائدٍ في محيطِه، يعملُ بمن معه لخدمةِ الدينِ متجنِّبًا التكرارَ والصِّراعَ ما وسعَه، ومن وجدَ جانبًا
يكفيه فليتجِه إلى جانبٍ آخرَ؛ فجوانبُ احتياجِ الأمَّةِ فوق أن يقام بها كلها اليوم. وعلى شبابِ الأمَّةِ أن يدرِكوا أنَّ مصاباتها الكبرى: ضعفُ علمائِها ومفكِّريها، وتمزُّقُ أهلِ الإدارةِ فيها؛ وهو ما يعني أن تحميلهم فوق طاقَتِهم أو انتظارُهم في أمرٍ لا يمكن أن ما لا يَقوموا به إنَّما هو تضييعُ للمسؤوليَّةِ وتفويتُ للفُرْص لا أكثر. فاللهُ اللهُ: أن يُؤتى الإسلامُ من قِبَلكَ أيُّها القادِرُ على العملِ وأنتَ تَنتَظِرُ من يقولُ لك: «هَلّا بَدَأتَ؟» فإنَّكَ قد لا تَسمَعُه أبدا في هذا الواقعِ المُتشرذِمِ.
والموضوعُ كما ترى قارئي الكريم يحتاجُ إلى تدارُسٍ وتأمُّلٍ واجتماعِ كلِّ مَن أمكنَ اجتماعهُ من أهلِ العلمِ والفكرِ والاختصاصِ في أي مكان وتحت أي سقف؛ لزيادةِ الوَعْيِ، ورَسْمِ الخططِ، وتوسيعِ دوائِرِ العملِ.
فاللهم ألهمنا رشدنا، ووق أمتنا لما فيه الخير والصلاح والمجد، عاجلا غير آجل، إنك بر رحيم
واللهُ الهادي.
- التصنيف: