كلمات من وراء القبور

منذ 7 ساعات

ما كنتُ أظنُّ أنَّ الموت قريبٌ إلى هذا الحدّ، ولا كنتُ أتصوّر أنَّ الرحيلَ يأتي بهذه السرعة، كأنَّه خُطفةُ برقٍ في ليلٍ غافل.

                     

ماذا لو أن أحد الأموات خُليَّ بينه وبين كلام الأحياء، فلعه أن يقول لكم:

ما كنتُ أظنُّ أنَّ الموت قريبٌ إلى هذا الحدّ، ولا كنتُ أتصوّر أنَّ الرحيلَ يأتي بهذه السرعة، كأنَّه خُطفةُ برقٍ في ليلٍ غافل. كنتُ أعدُّ الأيام، وأتلهّى بالأحلام، وأقول: "غدًا أتوب... غدًا أصلح نفسي... غدًا أفتح المصحف وأُكثِر من السجود." فمضت غدواتي، وتصرّمت أيامي، وها أنا اليوم تحتَ التراب، لا أسمع سوى وقع خُطاهم وقد انصرفوا، بعد أن واروني حفرتي، وتركوني ليس معي إلا عملي.

أين الدنيا؟ أين سرابها الذي كنتُ أعدّه ماءً زلالًا؟ لقد تبيّن لي اليوم أنَّها كانت خدعةً كبرى، تلهو بها النفوس الساذجة كما تلهو الفراشاتُ بضوءٍ يحرقها. كنتُ أراها كلَّ شيء، وأحسب أنَّ الأجل بعيد، وأنَّ فسحة العمر طويلة. والآن... لا فسحة، ولا مهلة، ولا زمن لتدارك ما فات، تذكّرت قول الله تعالى: {﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾}

فوددت لو صرختُ بها حتى يسمعها أهل الأرض: "يا من أُعطِيتم فرصة الحياة، لا تخدعنّكم الأمنيات كما خدعتني! فليس بعد الموت مهلة، ولا بعد الندم تدارك!"

كنتُ في الدنيا أضحك كثيرًا، والآن أبكي كثيرًا. كنتُ أُكثر المزاح وأؤجل التوبة، كأنَّني ضامنٌ لعمري. وها أنا اليوم أقول لنفسي في حسرةٍ تمزقني: "يا ويلَك، بأيّ وجهٍ تلقى الله وقد ضيّعتَ الصلوات التي كانت ترفعك إليه كلَّ يوم خمس مرّات؟ يا ويلَك، بأيّ وجهٍ تلقى الله وقد أطلقت بصرك في الحرام، وأذنيك لسماع الأنغام، بأيّ وجهٍ تلقاه وقد أغمضتَ عينيك عن المساكين وأدرتَ ظهرك للأيتام؟"

كنتُ أسمع كثيرا : "اغتنم خمسًا قبل خمس "، فأومئ برأسي وأعود كما كنت، حتى دنت مني الخامسة التي لم يُذكر بعدها شيء... الموت.

أتذكر الليالي التي كنتُ أسهر فيها على ما لا ينفع؟ أتابع  فِلْمًا قبيحًا أو مسلسلًا سخيفًا وأحاديث لا تُسمن ولا تُغني، وكنتُ أقول: "ما زال في الوقت متّسع." ثم إذا بالوقت يطوى كما تُطوى الصحائف، وإذا بي بين يدي ملك الموت، لا أستطيع أن أنطق إلا بخوفٍ ورجاءٍ لا يغنيان. قال رسول الله ﷺ: «"اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك."» [رواه الحاكم وصححه الألباني] ، يا ليتني وعيتُ هذا الحديث يوم كنتُ أتنفّس، ويا ليتَ الغفلة لم تسرقني من نفسي.

لقد تبيّن لي اليوم أنَّ الذنوب ليست كما كنتُ أظنُّها "صغيرةً". كنتُ أستهين بالنظرة، وأقول: "مجرد نظرة"، وأستهين بالغيبة، وأقول: "كلمة عابرة"، وأستهين بالتأخير عن الصلاة، وأقول: "ركعتان بعد قليل."
واليوم، كلُّ تلك الكلمات والنظرات تقف أمامي كجبالٍ لا أستطيع تحريكها، ألم يقل النبي ﷺ:
«"إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه."» «» كنتُ أسمعها وأبتسم، ولم أدرِ أنني أنا المقصود!

أتدرون ما أشدُّ ما يوجعني اليوم؟ ليس الكبائر وحدها، بل حقوق الناس التي كنتُ أظنها هيّنة. تلك الغيبة التي مرّت في مجلسٍ فضولٍ، والكلمة التي خدشت قلب صديق، والنظرة التي كسرت نفسًا ضعيفة، والمال الذي تأخّر في أدائه وأنا أقدر على سداده، كنتُ أقول: "سيعذرونني، نحن أصدقاء!"، وها أنا أرى اليوم أنَّ الحقوق عند الله حسنات تؤخذ منك أو سيئات تطرح عليك. قال رسول الله ﷺ: «"لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء."» «»
رواه مسلم فكيف بي أنا؟ وقد ظلمتُ بلساني وبقلمي وبنظري وبمالي، ولم أستغفر يومًا كما ينبغي؟

كنتُ أقرأ القرآن أحيانًا وأتأمل قوله تعالى: {﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾} {}
فأمرُّ عليها مرور الغافلين، لا أتخيل أنني سأكون أحدَ من توضع أعماله في الميزان.
واليوم، وأنا أرى عملي، أدركتُ أنَّ كلَّ كلمةٍ كتبتها، وكلَّ ضحكةٍ أطلقتها، وكلَّ نيةٍ خبأتها في قلبي كانت كلها محفوظة.

{﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾} يا له من مشهدٍ يخلع القلوب! الجلد يَشهد، واللسان ينطق، واليدان تنطقان، والقدم تشهد، والملائكة كتبت وشهدت.

لقد كنتُ أخاف الموت، وأهرب من ذكره كأنَّ الحديث عنه يُقرّبه! وكم وعظني قلبي فلم أسمع، وكم زارني المرض فلم أتعظ، وكم مرَّت جنازة أمامي فقلتُ في نفسي: "رحمه الله"، ولم أقل: "يا ليتني أتعظ!"
حتى جاء دوري... فإذا بي أنا الميت الذي يُقال عنده: "رحمه الله"، وأنا لا أملك أن أقول تسبيحه واحدة.

كنتُ أُكثر من القول: "الله غفور رحيم"، وأتناسى أنه شديد العقاب، وكنتُ أؤخر الصدقة وأقول: "حين يأتيني المال الكثير أتصدق." وها أنا اليوم فقير فلا أجد درهمًا، وأتمنى لو أعود لدقيقةٍ أُخرج فيها ما بخلتُ به، أو أمسح رأس يتيمٍ واحد.
قال الله تعالى:
{﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾} كنتُ أظنّ أنَّ المال أو الشهادات أو الجاه أو النسب هو الذي يخلّد الذكر، واليوم علمتُ أنَّ الصدقة ونشر العلم من الأشياء التي تخلّد الأجر.

أين أنا من أولئك الذين سهروا في طاعة الله؟ أين أنا من أهل الفجر الذين يمشون في الظُلَمِ حين يخرجون إلى المسجد؟ أين أنا من حافظي القرآن الذين كان الليل لهم مَغنمًا لا ملهًى؟ لعلي كنتُ أقول عنهم: "هؤلاء متشددون!"، فإذا بي اليوم أرى أنَّهم هم العاقلون، وأنّي كنتُ المجنون الذي باع الأبد باللحظة.

يا ليتكم تعلمون ما معنى أن تُغلق صحيفةُ العمل! أن تنقطع الأسباب، فلا صلاة، ولا زكاة، ولا تسبيحةٌ تُضاف. يا ليتكم تعلمون ما معنى الحسرة حين ترى مقعدك في الجنة وتُقال: "هذا كان لك لو أطعتَ الله." كنتُ أسمع قول النبي ﷺ: «"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» ." فكنتُ أظنّها حديثًا يُقال في الجنائز، لا فيّ أنا.

أما اليوم، فأدركتُ أنَّها حياةٌ جديدة تبدأ بعد الموت، لمن زرع في الدنيا خيرًا يبقى أثره. فأين صدقتي؟ أين علمي؟ أين أولادي الذين علّمتُهم الدعاء؟ لعلِّي تركتُ وراءي بيتًا بلا قرآن، وولدًا بلا صلاة، ومالًا بلا زكاة... وها أنا أحصد ما زرعت.

يا لله، كم تمنيتُ حينها أن أعود إلى الدنيا ولو للحظة، لأركع ركعةً واحدةً خالصة، لا رياءَ فيها ولا غفلة.
ولكن... هيهات
{﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ۝ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾}
كنتُ أقرأ هذه الآيات ولا أتصور أني قد أكون من غير المتقين، حتى وجدتُ نفسي بين صفوفٍ أخرى، وجوههم كئيبة، ينادون فلا يُجابون، يتمنّون ولا يُجاب لهم.

كم مرّةً عزّيتُ غيري، وقلتُ لأهله: "اصبروا، هذا قدر الله." واليوم أنا الميت الذي يحتاج من يعزيه، ولا يجد!
كم مرةً حملتُ جنازةً وقلتُ في نفسي: "انتهى عمره." ولم أدرِك حق الإدراك أنَّ الأمر لا ينتهي بالدفن، بل يبدأ من هناك، من سؤال الملكين، من ضمة القبر، من الحساب الذي ينتظر كل أحد.

لقد كانت لي ذنوبٌ بيني وبين الله فسوفت في التوبة منها ، وظننتُ أنَّ الله لا يغفرها، ونسيتُ أنه قال:

{﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ } فيا ليتني ما أسرفت على نفسي، ويا ليتني جثوتُ بين يديه بصدقٍ.

كنتُ أصحو بصحةٍ وعافيةٍ وأقول: "يوم آخر كغيره." كنتُ أمشي على قدمين لا تؤلماني، وأرى بعينين لم تضعفا، وأسمع بأذنٍ لم تصمّ، ثم لم أحمد الله كما ينبغي! {﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ } يا رب، كم من النعم ضيّعتُها غفلةً، وكم من يومٍ مضى ولم أذكرك فيه إلا قليلًا!

أريد أن أصرخ لأهل الدنيا جميعًا:

يا من تسمعونني، لا تغترّوا بالصحة ولا بالشباب! لا تقولوا: "سنبدأ غدًا" فما من غدٍ مضمونٍ لأحد، إنّ الموت لا يطرق الباب، بل يدخل بلا إذن، ويختار بلا موعد، اغتنموا سجدةً قبل أن تُسلبوا القدرة على السجود، ودمعةً قبل أن تجفّ المآقي في التراب، وكلمة "استغفر الله" قبل أن تُغلق الأفواه إلى الأبد.

أتعرفون ما الذي يهوّن عليَّ بعض حزني؟ دعاءُ من تذكّرني بخير، ذاك الذي مرّ على استغفر لي أو سأل الله أن يرحمني، ذلك الدعاء أغلى هدية من الحي القادر إلى الميت العاجز، فيا من تحبون موتاكم، لا تبخلوا عليهم بالدعاء، فإنهم أحوج إليه من طعام الأحياء وشرابهم بل وهوائهم.

أُخاطبكم من حيث لا تُدركونني، من بين جدرانٍ لا تُفتح، ومن تحت تُرابٍ لا يُسمع فيه صوت، لو رأيتم حالنا هنا، ما نام أحدُكم إلا على توبة، ولا أكل لقمةً إلا على ذكر، نحن قومٌ كُشف لنا الغطاء، فرأينا الحقَّ عيانًا، ولكن بعد فوات الأوان، أما أنتم، فما زال بينكم الليلُ والنهار، وما زالت تُفتح أمامكم صفحاتٌ جديدةٌ في كتاب أعمالكم، وما زال في فمكم نفسٌ يقول: "أستغفر الله"، فلا تُطفئوا نور التوبة بتسويفٍ بارد، ولا تُضيّعوا العمر فيما لا ينفع، فالدنيا - والله - أقصر من أن يُؤجَّل فيها الخير، وأهون من أن تُستحقَّ لأجلها النار.

ولا تجعلوا أنتم موتكم كأني لم أُحذّركم، فمن قرأ حديثي هذا، فليبدأ توبته الآن... فربَّ نفسٍ لم يُمهلها الغد، وربَّ كلمة "سأتوب غدًا" كانت آخر ما قالت في الدنيا .. لنتذكر قول الله تعالى: { ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗوَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ }

 

  • 0
  • 0
  • 99

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً