من درر العلامة ابن القيم عن الدنيا
الدنيا من المواضيع التي بحثها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد: فالدنيا من المواضيع التي بحثها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
[مدارج السالكين في منازل السائرين]
السائر إلى الله والدار الآخرة يرى حقارة الدنيا وقلة وفائها:
أول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة: أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها, وقلة وفائها, وكثرة جفائها, وخسة شركائها, وسرعة انقضائها, ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها, قد بدعت بهم, وعذَّبتهم بأنواع العذاب, وأذاقتهم أمرَّ الشراب, أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً, سقتهم كؤوس سُمِّها بعد كؤوس خمرها, فسَكِروا بحبها, وماتوا بهجرها.
[مفتاح دار السعادة]
الدنيا سجن المؤمن:
لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه, والدنيا سجنُه حقاً, فلهذا تجدُ المؤمن بدنُه في الدنيا وروحه في المحلِّ الأعلى.
[حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح]
حبُّ الدنيا مفتاح كل شر:
مفتاح كل شرٍّ: حُب الدنيا, وطول الأمل.
[مفتاح دار السعادة]
حب الدنيا وإيثارها على الآخرة:
النفس مُولعة بحبِّ العاجلة وإيثارها على الآخرة, وهذا من لوازم كونه خُلِقَ من عَجَل وخُلِقَ عجولاً.
[الفوائد]
حال من أصبح وأمسى وهمُّه الدنيا:
العبد...إن أصبح وأمسى والدنيا همُّهُ حمَّلهُ اللهُ همومها وغُمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم
من رغب في موائد الدنيا فاتته موائد الآخرة:
إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا, قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة, وإذا رضيت بموائد الدنيا, فاتتها تلك الموائد.
متفرقات:
& الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غمّ ساعة, فكيف بغمِّ العُمر ؟
& كل خارج من الدنيا : إما تخلص من الحبس, وإما ذاهب إلى الحبس.
& من لاح له كمال الآخرة هان عليه فراق الدنيا.
& لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا.
& من عشق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده, فصيَّرته من خَدَمها وعبيدها وأذلَّته, ومن أعرض عنها نظرت إلى كبر قدره, فخدمته وذلَّت له.
& لا تدخل محبة الله في قلب فيه حبُّ الدنيا إلا كما يدخل الجملُ في سمِّ الإبرة.
& دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها.
& الطالب الصادق في طلبه كلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته
[عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين]
أمثلة تبين حقيقة الدنيا:
مثلت الدنيا بمنام, والعيش فيها بالحلم, والموت باليقظة.
ومثلت بمزرعة, والعمل فيها البذر, والحصاد يوم المعاد.
ومُثلت: بحية ناعمة الملمس, حسنة اللون, وضربتها الموت.
ومُثلت: بطعام مسموم, لذيذ الطعم, طيب الرائحة, من تناول منه قدر حاجته كان فيه شفاؤه, ومن زاد على حاجته كان فيه حتفه.
ومثلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على عينين فتنت بهما الناس وهي تدعو الناس إلى منزلها فإذا أجابوها كشفت لهم عن منظرها وذبحتهم بسكاكينها, وألقتهم في الحفر, وقد سلطت على عشاقها تفعل بهم ذلك قديماً وحديثاً, والعجب أن عشاقها يرون إخوانهم صرعى قد حلت بهم الآفات, وهم يتنازعون في مصارعهم, {﴿ وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ﴾ } [إبراهيم:45]
ويكفى في تمثيلها ما مثلها الله في كتابه فهو المثل المطبق عليها.
حب الدنيا رأس الخطايا
قالوا: وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا, ومفسداً للدين من وجوه:
أحدها: أن حبها يقتضي تعظيمها, وهي حقيرة عند الله, ومن أظهر الذنوب تعظيم ما حقّر الله.
ثانيها: أن الله تعالى لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها, ومن أحبّ ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه.
ثالثها: أنه إذا أحبها صيرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانتكس قلبه, وانعكس سيره إلى وراء
رابعها: أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود إليه نفعه في الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه.
والناس ها هنا مراتب: فمنهم: من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه.
ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه, فلا يقوم بها ظاهراً ولا باطناً. ومنهم: من يشغله حبها عن كثير من الواجبات.
ومنهم: من يشغله عن القيام بالواجب في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي
ومنهم: من يشغله عن عبودية قلبه في الواجب وتفريغه لله عند أدائه, فيؤديه ظاهراً لا باطناً.
وأقل درجات حبها أن يشغل عن أعظم سعادة العبدة, وهو تفريغ قلبه لحب الله, ولسانه لذكره, وجمع قلبه على لسانه, ولسانه وقلبه على ربه.
خامسها: أن محبتها تجعلها أكبر همّ العبد.
سادسها: أن محبها أشد الناس عذاباً, وهو معذب في دوره الثلاث, يعذب في الدنيا بتحصيلها والسعي فيها ومنازعة أهلها, وفي دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً, ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه, فهو أشدّ الناس عذاباً في قبره, يعمل الهمّ والعمّ والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه.
سابعها: أن عاشقها ومحبها الذي يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً, إذ آثر الخيال على الحقيقة, والمنام على اليقظة, وباع حياة الأبد في أرغد عيش بحياة إنما هي:
أحلام نوم أو كظل زائلٍ إن اللببَ بمثلها لا يُخدع
قال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو علي الطائي حدثنا عبدالرحمن المحاربي عن ليث قال: رأى عيسى ابن مريم الدنيا, في صورة عجوز عليها من كل زينة, فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم, قال: فكلّهم مات عنك أو كلهم طلقك ؟ قال: بل كلّهم قتلته. فقال عيسى: " بوساً لأزواجك الباقين, كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين, كيف تهلكينهم واحداً واحداً, ولا يكونوا منك على حذر.
[كتاب: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح]
الزهد في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة:
ومفتاح الرغبة في الآخرة: الزهد في الدنيا
[بدائع الفوائد]
الدنيا لا ترضى إلا بقتل عشاقها:
لو كشفت لك الدنيا ما تحت نقابها لرأيت المعشوقة عجوزاً, وما ترضى إلا بقتل عشاقها, وكم تدللت عليهم بالنشوز.
الدنيا سجن المؤمن:
(( الدنيا سجن المؤمن )) فيه تفسيران صحيحان:أحدهما: أن المؤمن قيَّده إيمانه عن المحظورات, والكافر مطلقُ التصرف.الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب, فالمؤمن لو كان أنعم الناس, فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسجن, والكافرُ عكسُه, فإنه لو كان أشدَّ الناس بوساً فذلك بالنسبة إلى النار جنته.
[زاد المعاد في هدي خير العباد]
سرور الدنيا أحلام نوم:
سرور الدنيا أحلامُ نوم أو كظل زائل, إن أضحكت قليلاً, أبكت كثيراً, وإن سرت يوماً ساءت دهراً, وإن متعت قليلاً منعت كثيراً, وما ملأت داراً خيرةً إلا ملأتها عبرة, ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.
مرارة الدنيا حلاوة الآخرة:
مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة, قلبها الله سبحانه كذلك, وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة, ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك, فإن خفي عليك هذا, فانظر إلى قول الصادق المصدوق: (( حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفَّتِ النارُ بالشهوات ))
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: