سوانح تدبرية من سورة يوسف - |1| مقدمة ونبذة عامة عن سورة يوسف
من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات
أيمن الشعبان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج الدرر والمكنونات، قال تعالى: {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}} [ص:29].
يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.
العيشُ مع القرآن حياةٌ للقلب، ونورٌ للبصيرة، ورُشدٌ للطريق؛ فما أصفى الأوقات وأبركها حين يخلو الإنسانُ بكتاب الله، يتأمّل آياتِه الباهرات، ويتدبّر أعظمَ القصص وأحسنَها، فيستشعر معيةَ الله ورعايتَه ولطفَه وكرمَه.
فكلُّ قصةٍ في القرآن نافذةٌ تُطلُّ على أعماقِ الروح، تَغرسُ من خلالها جذورُ الإيمان، وتَبنى بها الأخلاقُ والسلوكُ الراسخ، وتَفتحُ للقلبِ بها آفاقَ الفهمِ والنورِ والطمأنينة.
سورةُ يوسفَ هي السورةُ الثانيةَ عشرةَ في ترتيبِ المصحف، تَأتي بعد سورةِ هودٍ وقبلَ سورةِ الرعد. عددُ آياتِها مائةٌ وإحدى عشرةَ آية، وهي سورةٌ مكيّةٌ نزلت – على الأصحّ – بعد سورةِ هود، وقيل بعد سورةِ يونس، وهي الثالثةُ والخمسونَ في ترتيبِ نزولِ السورِ على قولِ الجمهور.
ذُكِرَ اسمُ نبيِّ الله يوسفَ عليه السلام في القرآن الكريم في ستٍّ وعشرين آية، منها أربعٌ وعشرون آيةً في سورةِ يوسف، وآيةٌ في سورةِ الأنعام، وآيةٌ في سورةِ المؤمن (غافر).
يوسف عليه السلام هو النبي الوحيد الذي أبوه نبي وجده نبي وجد أبيه نبي، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ «أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ.
وفي البخاري: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ««الكَرِيمُ، ابْنُ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ»» .
وفي صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام عن يوسف عليه السلام: «قَدِ اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ».
تجمعُ قصة يوسف المقاصدُ بين الجوانبِ الروحيةِ والأخلاقيةِ والاجتماعيةِ والإداريةِ؛ لتُشكِّلَ منظومةً توجيهيةً متكاملةً لتربيةِ النفسِ وإصلاحِ المجتمع، تُرسِّخُ الإيمانَ، وتُنمِّي الأخلاقَ، وتُعزِّزُ الثقةَ باللهِ تعالى، وتحثُّ على الصبرِ عند الابتلاء، والثباتِ على نهجِ الحقِّ في جميعِ الأحوال.
سورةُ يوسفَ مدرسةٌ متكاملةٌ في العقيدة والإيمان والتربية والسلوك، تجمعُ بين الصبر والثبات والتقوى والإحسان، وتقدّم دروسًا في إصلاحِ النفسِ والأسرةِ والمجتمع، وفي طريقِ الرفعةِ والتمكين.
وهي مدرسةٌ في تزكيةِ النفس ومخالفةِ الهوى، والدعوةِ إلى الله، والتوكلِ عليه والعفافِ والاعتمادِ عليه في الشدائد، كما تُعلّمُ التخطيطَ الحكيمَ وحسنَ التدبير، وتُبرز معاني الوفاء والإيثار والعفو والصدق والتوبة، وتُجسّدُ اليسرَ بعد العسرِ والفرجَ بعد الشدة.
الغرضُ الأساسُ من سورةِ يوسف هو إبرازُ لُطفِ الله الخفيِّ في تدبيرِه لعباده المؤمنين؛ إذ تُظهر السورةُ كيف يجعلُ الله من وراءِ الابتلاءات والمحن أبوابًا للتمكين والعزّ، متى ما تحقّق العبدُ بالصبرِ والتقوى والإحسان. فهي سورةُ اللطفِ الإلهيِّ الذي يصحبُ المؤمنَ في جميعِ المراحل حتى يبلغَ مقامَ التمكين والكرامة.
وقصةُ يوسفَ عليه السلام من أحسنِ القصصِ وأبينِها بيانًا؛ لما اشتملت عليه من تنقّلاتٍ بديعةٍ بين الأحوال: من محنةٍ إلى منحةٍ، ومن ذُلٍّ إلى عزٍّ، ومن أمنٍ إلى خوفٍ، ومن مُلكٍ إلى رِقٍّ، ومن فُرقةٍ إلى اجتماعٍ، ومن سُرورٍ إلى حُزنٍ، ومن رَخاءٍ إلى جدبٍ، ومن ضِيقٍ إلى سَعةٍ؛ فهي لوحةٌ تُجسّد تقلّباتِ الحياةِ بأقدارِها ولُطفِ اللهِ الجاري فيها.
تُعَدُّ سورةُ يوسفَ من أعجبِ سورِ القرآن وأبلغِها في عرضِ السننِ الإلهيّة ومصارعِ الغافلين، ولطف الله لعباده المؤمنين، وقد اشتملت على مقاصدَ جليلةٍ ومعانٍ عظيمةٍ، من أبرزها:
1- الالتجاءُ إلى اللهِ عند الابتلاء، واستشعارُ أن الفَرَجَ لا يكونُ إلا من عنده سبحانه.
2- الدعوةُ إلى الله في جميع الأحوال، حتى قيل: هي سورةُ الدعوة إلى الله.
3- الثباتُ على المبدأ رغم تقلّب الأحوال وتبدّل المواقف.
4- الصبرُ على البلاءِ في وجهِ المحن والشدائد.
5- بيانُ حقيقةِ الإحسان في القول والعمل، والرقابةِ الدائمة لله تعالى.
6- ترسيخُ التوحيدِ وأهميّةُ الثباتِ عليه في كلّ الظروف.
7- إظهارُ لُطفِ اللهِ بمن يصطفيهِ من عبادِه، وكيف يُخرِجُ من المحنةِ منحةً ومن الشدّةِ فرَجًا.
8- العِبرةُ بالعواقبِ والخواتيم، فالعبرةُ ليست بالبدايات بل بما يختم الله به الأمور.
9- تسليةُ النبيِّ ﷺ وتثبيتُ فؤادِه بما جرى للأنبياءِ قبله.
10- ترجمةٌ عمليةٌ لمفهومِ التوكّلِ على الله في جميع المواقف.
11- العِفّةُ بمفهومِها الشموليّ التي تشمل طهارةَ القلبِ والجوارح.
12- بيانُ سننِ اللهِ في نهوضِ المجتمعاتِ ورُقيِّها، وكيف يكونُ الإصلاحُ الحقيقيُّ مبنيًّا على الإيمانِ والعملِ الصالح.
13- تُبرز سورة يوسف أصول الإدارة الناجحة من التخطيط وتحديد الأهداف وتنفيذها بحكمة، كما ظهر ذلك في إدارة يوسف عليه السلام لخزائن مصر.
14- قال ابن عاشور في تفسيره: فِيهَا مِنْ عِبَرِ تَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ وَقَوَانِينِهَا وَنِظَامِ حُكُومَاتِهَا وَعُقُوبَاتِهَا وَتِجَارَتِهَا. وَاسْتِرْقَاقُ الصَّبِيِّ اللَّقِيطِ. وَاسْتِرْقَاقُ السَّارِقِ، وَأَحْوَالُ الْمَسَاجِينِ. وَمُرَاقَبَةُ الْمَكَايِيلِ.
15- التحذير من الحسد والغيرة وتأثيرهما على العلاقات الأسرية والاجتماعية.
16- بيان فضل العفو والتسامح، كما ظهر في موقف يوسف عليه السلام مع إخوته بعد أن ظلموه.
17- إظهار حكمة التدبير الإلهي في ترتيب الأحداث، وكيف يُحوّل الله المحن إلى منح.
18- تأكيد قيمة الصدق والأمانة في كل المعاملات والمواقف.
19- إبراز أثر الأخلاق الفاضلة في قيادة المجتمعات ونجاح المشاريع.
20- تعليم الإنسان الاعتماد على الله في جميع الأمور، وعدم الاستسلام لليأس.
21- بيان قدرة الله على تغيير الأحوال من الشدة إلى الفرج، ومن الضيق إلى الرخاء.
ومن أبرز مميزات سورة يوسف وقصتها:
1- تفرّقت قصص الأنبياء في مواضع متعددة بالقرآن، وجمَع الله قصته كاملة في سورة واحدة.
2- لم تُذكر قصة أي نبي في القرآن بمثل التفصيل والإطناب الذي ذكرت به قصة يوسف عليه السلام.
3- تتميز السورة بأسلوب خاص من أساليب الإعجاز القرآني في السرد القصصي.
4- غزارة العبر والفوائد؛ إذ تحتوي القصة على آلاف العبر والحِكم والفوائد في مجالات متنوعة.
5- تمثل السورة نموذجًا متكاملاً لإصلاح النفس، والأسرة، والمجتمع على مختلف المستويات.
6- لا يوجد فيها أمر أو نهي أو تحريم أو تحليل، مع أنها مصدر غني للأحكام التي يستنبطها العلماء.
14 جمادى الأولى 1447هـ
5-11-2025م
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: