لهذا غَرِقَت غزّة!
كان الأسبوع الماضي على غزة أسبوعًا قاسيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ وفصلًا جديدًا من مأساة لم تنقطع، وعنوانًا آخر للمعاناة التي يعيشها الشعب الغزّي كلما أهل الشتاء وانفتحت أبواب السماء بالمطر.
كان الأسبوع الماضي على غزة أسبوعًا قاسيًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ وفصلًا جديدًا من مأساة لم تنقطع، وعنوانًا آخر للمعاناة التي يعيشها الشعب الغزّي كلما أهل الشتاء وانفتحت أبواب السماء بالمطر.
فقد هطلت الأمطار بغزارة، وهبّت هناك رياح عاتية، فتكوّنت البرك والمستنقعات، واندفعت المياه إلى داخل الخيام، فاختلطت الملابس والفرش والأمتعة بالماء والتراب وغبار الخراب المحيط. فخرج الأطفال والنساء والعجزة إلى العراء يواجهون الصقيع، بعدما تمزّقت الخيام أو اقتُلعت من مواضعها.
وعلى شاطئ البحر - حيث هرب الناس ابتداءً من جحيم قصف الصواريخ والمدافع - تطايرت الخيام كأنها أوراق هشّة، فانكشفت النساء، وارتجف الأطفال، وفقدت المقتنيات القليلة التي بقيت بعد حرب الإبادة. فازدادت المأساة مأسأةً جديدة فوق مآسي النزوح والتجويع والحصار، وفوق 730 يومًا من قصف متواصل لم يترك للحياة فسحة تنفّس.
وقد يظنّ بعض الناس أن غزة غرقت بمياه السماء وحدها، والحقيقة أن الكارثة الكبرى لم تكن في مياه الأمطار وحدها؛ إذ أن غزة كانت قد غَرقت أوّلًا بمياه الظلم، حين دمّر الاحتلال -ومن شاركه القصف والتدمير- أكثر من: 700 ألف متر طولي من شبكات تصريف الأمطار والمجاري.
وغَرِقت حين سُوّيت محطات ضخ مياه تصريف مياه الأمطار بالأرض، وجُرفت أحواض تجميع السيول التي كانت تبتلع الماء قبل أن يصل إلى بيوت الناس وخيامهم.
وغَرِقت حين انقطع الوقود والكهرباء، فعُطّلت المضخات التي نجت من القصف، فلم يعد ممكنًا دفع الماء خارج الشوارع والمخيمات وبواقي الأحياء.
وغَرِقت حين سدت ركامُ الأبنية المدمّرة مسارات الأودية والشعاب، فحوّلت اتجاه المياه إلى أطلال البيوت وخيام النازحين.
وغَرِقت أكثر حين دُمّرت محطات معالجة الصرف الصحي، فارتفعت مياه المجاري إلى السطح، وتجمعت في مستنقعات واسعة، ثم اختلطت بمياه الأمطار، لتفيض سيولٌ ملوثة تُغرق الطرقات والخيام، وتحمل معها أخطارًا صحية وبيئية هائلة.
وإلى جانب ذلك كله، فإن جزءًا كبيرًا من أرض غزة يتكوّن من تربة غير ماصّة للمياه بصورة جيدة، فإذا سقط المطر تجمّع على السطح، وتحوّل سريعًا إلى برك ومستنقعات ما لم يتم تصريفها فورًا. ومع انهيار منظومة الصرف لم يعد الماء يجد منفذًا؛ فغرق الناس، وغرقت معهم مآويهم ومقدرات حياتهم.
وزادت الكارثة اتساعًا حين اختلطت مياه الأمطار والمجاري ببعض الآبار السطحية - ما تبقّى منها – فتسبب ذلك في إصابة بعض مياه الشرب المتاحة بالتلوث. ومع كثرة المستنقعات تكاثرت الحشرات والبعوض والقوارض، وارتفعت احتمالات تسرب المياه الملوثة إلى طبقة المياه الجوفية -المورد الأساس لمياه الشرب في القطاع - وهو ما قد ينذر بكارثة صحية ليست آنية فقط، بل قد تمد معها أثرًا مريرًا على المدى المتوسط والبعيد.
فإذا كان هذا حال غزة مع أول مطرة -والشتاء على الأبواب ولما يدخل بعد- فكيف سيكون حالها إذا أطبق الشتاء ببرده ورياحه وأمطاره؟
كيف سيكون حال الضعفاء -من الجرحى والأطفال والنساء والعجزة وممن لا يملك مأوى- في ظل حصار مطبق؟، وأي قدرة بقيت لشعب دُمّرت ٩٠٪ من مبانيه وبنيته التحتية، وصودرت إمكاناته الاقتصادية، وخيم عليه الفقر، وانعدم من يده النقد، وارتفعت فيه الأسعار، وتلاشت فرص العمل، وفُقد فيه المأوى؟
إن غزة اليوم تواجه شتاءً بلا سقف، وبردًا بلا دفء، وسيلًا بلا بنية تحتيّة، وأمراضًا بلا دواء، وجراحًا مفتوحة على رياح لا ترحم.
والمأساة ليست في المطر، فمياهه لم تزد على أن عرت حجم الجريمة التي ارتُكبت، وعلى أن كشفت للعالم أن غزة لم تُحاصر بالحديد والنار فقط، بل حُوصرت أيضًا بمنع إعادة الإعمار، وتعطيل البدء بأدنى شروط الحياة الأساسية.
ولهذا، فإن الواجب اليوم، على كل حكومة ومؤسسة وفرد في هذه الأمة يملك قدرة، قلّت أو عظمت، أن يبادر بما يستطيع للتخفيف عن أهلنا غزة: دعم مالي عاجل، بطانيات، خيام، مضخّات، غذاء، أدوية، أدوات صرف بديلة، دعم عاجل للبنية الإنسانية المتهالكة…
فالمحنة أكبر من أن تُترك لأهلنا هناك وحدهم، والتقصير فيها جريمة أخلاقية دينية قبل أن يكون تقصيرًا إنسانيًا.
فغزة اليوم تستغيث…لا من الغرق وحده، بل ومن خذلان الناس.
ولا من عواصف الشتاء وحدها، بل ومن ظلم الخلق.
ولا من الشتاء وحده، بل من الجريمة التي جعلت من المطر - والذي هو نعمة الله في الأرض - يتحول في خيامها إلى مصيبة.
فاللهم أنزلن-بوسيع رحمتك- تفريجك العاجل على قطاع غزة، ولشعب غزة، إنك جواد كريم، قوي متين، عزيز حكيم.
والله الهادي
- التصنيف: