مع سورة الملك

منذ 4 ساعات

« إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»

بسم الله الرحمن الرحيم

سماها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «سورة تبارك الذي بيده الملك» في حديث رواه ابن ماجة والترمذي وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» [حسن] فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا. وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان.

وفي الترمذي عَنْ جَابِرٍ ««أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ»» [صحيح]

والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة «سورة الملك» وكذلك ترجمها الترمذي: «باب ما جاء في فضل سورة الملك». وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه.

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله «المانعة»، أي أخذا من وصف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا، وليس بالصريح في التسمية.

وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي: باتفاق الجميع، وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة. وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون، وفي عد غيرهم ثلاثون.

 

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

{تَبَارَكَ} يدل على المبالغة في وفرة الخير، وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى.

أي: تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وهذا يستلزم عظمته وتقديسه. وهو مشتق من البركة، وهي زيادة الخير ووفرته.

وهذا الكلام يجوز أن يكون مرادا به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله، ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه، وتعليما للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]

{الَّذِي} جعل المسند إليه اسم موصول للإيذان بأن معنى الصلة مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول، فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلا لله.

{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته، لا يتصرف فيه غيره، فبيده كل ما وجد من الأجسام، لا بيد غيره، يصرفها كما يشاء. ويدل له قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83]

وذكر {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} إلى قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان1-2]

والتعريف في {الْمُلْكُ} على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلا وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه.

وتقديم المسند وهو {بِيَدِهِ} على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي الملك بيده لا بيد غيره.

وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بملك غيره، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الأصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك ملك غير تام لأنه لا يعم المملوكات كلها، ولأنه معرض للزوال، وملك الله هو الملك الحقيقي، قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114] فالناس يتوهمون أمثال ذلك ملكا وليس كما يتوهمون.

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات، يوجدها على ما يشاء.

قال ابن جرير: أي: تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبينه عجز.

وقال القاشانيّ: المُلك عالَم الأجسام، كما أن الملكوت عالم النفوس؛ ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك، بحسب مشيئته بالتبارك، الذي هو غاية العظمة، ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة، وباعتبار تسخيره عالم الملكوت، بمقتضى إرادته بالتسبيح، الذي هو التنزيه، كقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] كلاً بما يناسبه، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام، والتنزه يناسب المجردات عن المادة.

وقال ابن عاشور: معطوفة على جملة {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة، إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات، فيكون قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مفيدا معنى آخر غير ما أفاده قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} تفادي من أن يكون معناه تأكيدا لمعنى {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وتكون هذه الجملة تتميما للصلة.

وقال: وتقديم المجرور في قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} للاهتمام بما فيه من التعميم، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنها لا تقدر على خلق السماوات والأرض ولا على الإحياء والإماتة.

 

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قدر الموت والحياة، فأمات من شاء وما شاء، وأحيى من أراد وما أراد، إلى أجل معلوم.. أو أوجد الحياة، وأزالها حسبما قدّره.

وقدم الموت على الحياة؛ لأن الموت في علم الملك ذاتيّ، والحياة عرضية. وقيل: إن أريد به العدم السابق فتقدمه ظاهر، لسبقه على الوجود، أو العدم اللاحق فتقديمه لأن فيه عظة وتذكرة، وردعاً عن ارتكاب المعاصي.

وجعل للعالم موتتين وإحياءتين وبينه بقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] فسمى الحال الأول -وهو العدم-موتًا. وسمى هذه النشأة حياة.

وأوثر بالذكر من المخلوقات «الموت والحياة» لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان الذي هو أعجب الموجود على الأرض والذي الإنسان نوع منه، وهو المقصود بالمخاطبة بالشرائع والمواعظ، فالإماتة تصرف في الموجود بإعداده للفناء، والإحياء تصرف في المعدوم بإيجاده ثم إعطائه الحياة ليستكمل وجود نوعه.

أيضا وأوثر ذكر الموت والحياة لما يدلان عليه من العبرة بتداول العرضين المتضادين على معروض واحد، وللدلالة على كمال صنع الصانع.

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} خير عملا من غيره، فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى أدناها، فأما الأعمال السيئة فإنها مفهومة بدلالة الفحوى لأن البلوى في أحسن الأعمال تقتضي البلوى في السيئات بالأولى لأن إحصاءها والإحاطة بها أولى في الجزاء لما يترتب عليها من الاجتراء على الشارع، ومن الفساد في النفس، وفي نظام العالم، وذلك أولى بالعقاب عليه.

قال محمد بن عَجْلان: ولم يقل أكثر عملا.

واللام لام التعليل، أي في خلق الموت والحياة حكمة أن يبلوكم أيكم أحسن عملا، وأيكم أقبح عملا.. والبلوى: الاختبار.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ} العظيم المنيع الجناب، الغالب الذي يقهر من أساء العمل.

أو هو الغالب الذي لا يعجز عن شيء، وذكره مناسب للجزاء المستفاد من قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي ليجزيكم جزاء العزيز، فعلم أن المراد الجزاء على المخالفات والنكول عن الطاعة. وهذا حظ المشركين الذين شملهم ضمير الخطاب في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ}

{الْغَفُورُ} فهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب، بعدما عصاه وخالف أمره، وإن كان تعالى عزيزا، هو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز.

أو هو الذي يكرم أولياءه ويصفح عن فلتاتهم فهو مناسب للجزاء على الطاعات وكناية عنه، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] فهو إشارة إلى حظ أهل الصلاح من المخاطبين.

 

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} صفة ثانية للذي بيده الملك، أعقب التذكير بتصرف الله بخلق الإنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإنسان وهي السماوات، ومفيدة وصفا من عظيم صفات الأفعال الإلهية ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجمل الثلاث جارية على طريقة واحدة.

{طِبَاقًا} طبقة بعد طبقة، بعضها فوق بعض.

ولفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الْإِنْسَاْن، فإنه من السموّ، وهو العلو، فسقف البيت سماء، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [الحج:15] أي: فليمدد بحبل إلى سقف بيته، وهذا الفضاء اللانهائي سماء، ومنه قوله تعالى: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم:24] والسحاب سماء، ومنه قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء} [البقرة:22]

{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} عام في جميع مخلوقاته من معنى الاستواء والحكمة والدقة في الصنع، وتدخل السماوات في ذلك بدليل قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]. وإتقان كل شيء بحسبه كما في قوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة:7].

{الرَّحْمَنِ} أضاف خلق السماء إلى الرحمن، لأنها من أصول النعم الظاهرة, ومبادئ سائر النعم الدنيوية.

فالتعبير بوصف {الرَّحْمَنِ} دون اسم الجلالة إيماء إلى أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم، لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت لكان ذلك التفاوت سببا لاختلال النظام فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97] وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5].

وأيضا في ذلك الوصف تعريض بالمشركين إذ أنكروا اسمه تعالى: {الرَّحْمَنِ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60].

{مِنْ تَفَاوُتٍ} لا نقص ولا عيب ولا خلل، أو تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكم، بل راعاها في كل خلقه. فسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضاً، وحسن انتظامها وتناسبها.

وأصل الكلام: "ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمن من تفاوت"، فعبر بخلق الرحمن لتكون الجملة تذييلا لمضمون جملة {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً}، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها.

والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب، وذلك ممكن لكل من يبصر، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]

{فَارْجِعِ} رجع البصر: تكريره، وأصل الرجع: العود إلى الموضع الذي يجاء منه. 

{الْبَصَرَ} إن شككت فكرِّر النظر، والأمر بالنظر ليكون نفي التفاوت معلوما عن يقين دون تقليد للمخبر.. والبصر مستعمل في حقيقته. والمراد به البصر المصحوب بالتفكر والاعتبار بدلالة الموجودات على موجدها.

وصيغة الأمر مستعملة في الإرشاد للمشركين مع دلالته على الوجوب للمسلمين فإن النظر في أدلة الصفات واجب لمن عرض له داع إلى الاستدلال.

{هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} جمع فَطْر، وهو الشق والصدع، أي لا يسعك إلا أن تعترف بانتفاء الفطور في نظام السماوات فتراها ملتئمة محبوكة لا ترى في خلالها انشقاقا، ولذلك كان انفطار السماء وانشقاقها علامة على انقراض هذا العالم ونظامه الشمسي يوم القيامة، قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ:19] {إِذَا السماء انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] {إِذَا السماء انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بِالْغَمامِ} [الفرقان:25]، ونحو ذلك من الآيات.

{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ} كرره {كَرَّتَيْنِ} تثنية كرة وهي المرة وعبر عنها هنا بالكرة مشتقة من الكر وهو العود لأنها عود إلى شيء بعد الانفصال عنه ككرة المقاتل يحمل على العدو بعد أن يفر فرارا مصطنعا.

أي رجعتين أخريين، ابتغاء اكتشاف الخلل والفساد والعبث. والمراد بالتثنية التكرير لأن تكرار النظر، وتجوال الفكر، مما يفيد تحقق الحقائق.

قال أهل التفسير: "وإيثار لفظ كرتين في هذه الآية دون مرادفة نحو مرتين وتارتين لأن كلمة (كرة) لم يغلب إطلاقا على عدد الاثنين، فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز، ألا ترى أن مقام إرادة عدد طلقات الزوج كان مقتضيا تثنية مرة في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] لأنه أظهر في إرادة العدد إذ لفظ مرة أكثر تداولا.

فتثنية {كَرَّتَيْنِ} ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد إذ لا يتعلق غرض بخصوص هذا العدد، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير فإن من استعمالات صيغة التثنية في الكلام أن يراد بها التكرير وذلك كما في قولهم لبيك وسعديك، يريدون تلبيات كثيرة وإسعادا كثيرا، وقولهم: دواليك"

فالمنصوص هنا إرجاع البصر كرتين ولكن حقيقة النظر أربع مرات:

الأولى في قوله: {ما تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}.

والثانية في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}.

والثالثة والرابعة في قوله: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}.

وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد.

{يَنْقَلِبْ} يرجع، والانقلاب: الرجوع يقال: انقلب إلى أهله، أي رجع إلى منزله قال تعالى: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] وإيثار فعل {ينقلب} هنا دون: يرجع، لئلا يلتبس فعل {ارْجِعِ} المذكور قبله. وهذا من خصائص الإعجاز.

{إِلَيْكَ الْبَصَرُ} وضع للظاهر موضع المضمر للتنبيه على أن الذي يرجع خاسأ حسيراً غير مدرك الفطور، وهو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يدرك شيء، دل على أنه لا شيء .

{خَاسِئًا} خائبا مطروداً عن إصابة المطلوب {وَهُوَ حَسِيرٌ} كليل عاجز قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر، ولا يرى نقصًا.

وإذا كان طلب الخروق والشقوق، لا يفيد إلا الخسوء والحسور، تحقق الامتناع، «وما أتعب من طلب وجود الممتنع».

ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال:

 

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

{وَلَقَدْ} قد: تفيد التحقيق والتأكيد {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وهي النجوم. وجعلها {مَصَابِيحَ} لإضاءتها، تشبيه على حسن المنظر فهو تشبيه بليغ. وعدل عن تعريف "مصابيح" باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم.

{الدُّنْيَا} تأنيث الأدنى، أي: السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح التي هي النجوم والكواكب كما قال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] ويدل لهذا لمفهوم ما جاء به عن قتادة قال: "إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها الله زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".

وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى لأنها أجرام محفوظة كما في حديث الإسراء "لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن" كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السماء} [الأعراف40].

وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه، ولأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا فثبت أن النجوم خاصة بالسماء الدنيا.

{وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} قال ابن كثير: عاد الضمير في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا} على جنس المصابيح، لا على عينها؛ لأنه لا يرمي بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها. والله أعلم.

والشهب من النار، وأصل الشهب النار كما في قوله {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]، والرجوم والشهب هي التي ترمي بها الشياطين عند استراق السمع كما في قوله تعالى {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن:9]

والآية بمعنى آية الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6-10]

{وَأَعْتَدْنَا} هيأنا، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيها ليأتي الإدغام طلبا للخفة.

{لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} من: سعر النار، إذا أوقدها وهو لهب النار، وكان السعير عذابا لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأن نار جهنم أشد من نار طبعهم، فإذا أصابتهم صارت لهم عذابا.

وتسمية عذابهم {السعير} دون النار، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] وقال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] يعني الشيطان.

قال الفخر الرازي: إن النار يكون بعضها أقوى من بعض فالأقوى يؤثر على الأضعف ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [تبارك: 5] والسعير أشد النار.

ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضا أقوى منها فتكسرها.

كما قيل: "لا يقل الحديد إلا الحديد" فلا يمنع كون أصله من نار ألا يتعذب بالنار كما أن أصل الإنسان من طين من حما مسنون ومن صلصال كالفخار وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار فقد يقضي عليه بضربة من قطعة من فخار والعلم عند الله تعالى.

 

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)

{وَ} أعتدنا {لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} هذا تتميم لئلا يتوهم أن العذاب أعد للشياطين خاصة.

قال الناصر: هذا من الاستطراد؛ لما ذكر وعيد الشياطين استطرد ذلك وعيد الكافرين عموماً.

{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} المآل والمنقلب والمرجع.

{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} أطلق على صوت التهاب نار جهنم الشهيق تفظيعا له.

وقيل: صياحا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها، من الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسيّ، أو لأنفسهم، فإنهم يَصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة الصوت، كقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]

{وَهِيَ تَفُورُ} تغلي بهم وترتفع ألسنة لهيبها.. قال الثوري: تغلي بهم كما يغلي الحَبّ القليل في الماء الكثير.

{تَكَادُ تَمَيَّزُ} تتفرق وتتقطع أجزاؤها.. دلالة على شدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع.

{مِنَ الْغَيْظِ} الغيظ: أشد الغضب.. أي: غيظا على الذين أغضبوا الله ورسوله، شبهت في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره، مبالغ في إيصال الضرر إليه.

وفي هذه الآية إثبات أن للنار حسا وإدراكا وإرادة، فالقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتطلب المزيد كما قال هنا: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}. وقال: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] وقال: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].

{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} في كل وقت إلقاء جماعة يسألهم خزنتها.

{سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} خزنة النار: الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ، وأصل الخازن: الذي يخزن شيئا، أي يحفظه في مكان حصين.

فبين تعالى أن للنار خزنة، وقد بين تعالى أن هؤلاء الخزنة هم الملائكة الموكلون بالنار، كما في قوله تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

كما بين عدتهم في قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] وقال: {وَما جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31].

ودلت هذه الآية على أن أهل النار يدخلونها جماعة بعد جماعة كما في قوله تعالى: {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38].

{أَلَمْ} الاستفهام للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة {يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} منذر في الدنيا ينذركم هذا العذاب.

وهذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحدا إلا بعد أن ينذره في الدنيا، كقوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]

وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]

{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} اعترفوا بمجيء النذير إليهم. وقد بين تعالى ذلك في قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].

كان جوابهم جواب المتحسر المتندم، فابتدأوا الجواب دفعة بحرف {بلى} المفيد نقيض النفي في الاستفهام فهو مفيد معنى: جاءنا نذير. ولذلك كان قولهم: {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} مؤكدا لما دلت عليه {بلى}، وهو من تكرير الكلام عند التحسر، مع زيادة التحقيق بـ {قَدْ} وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطأ.

{فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} ضلال شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير.

أي: فكذبنا الرسل، وأفرطنا في التكذيب، حتى نفينا الإنزال والإرسال رأساً، وبالغنا في نسبتهم إلى الضلال.

وأوتي بضمير جمع المخاطبين {أنتم} مع إن لكل قوم رسولا واحدا في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس، على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعه الذين يؤمنون بما جاء به.

 

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

{وَقَالُوا} أعيد فعل القول للإشارة إلى أن هذا كلام آخر غير الذي وقع جوابا على سؤال خزنة جهنم، وإنما هذا قول قالوه في مجامعهم في النار تحسرا وتندما، أي وقال بعضهم لبعض في النار فهو من قبيل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ِلأَولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38]

{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} سماع تعقل وتفهم من النذر ما جاءت به، وسماع طالب الحق، وعقل من نبذ الهوى.

فهم يسمعون ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة، لأن الله قال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7]. وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:57]

و {أَوْ} للتقسيم وهو تقسيم باعتبار نوعي الأحوال التي تقتضي حسن الاستماع تارة إذا ألقي إليها إرشاد، وحسن التفهم والنظر تارة إذا دعيت إلى النظر من داع غير أنفسها، أو من دواعي أنفسها، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].

وهناك عدة نصوص صريحة في ذلك منها أن أصل خلقتهم كاملة كما في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وفي آخر سورة الملك هذه قوله: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} [الملك:23].

ولكنهم سمعوا وعصوا كما في قوله: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] وهذا وإن كان في بني إسرائيل إلا أنه قال لهذه الأمة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:12].

وقال تعالى عنهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال:31].

وقوله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26].

وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} [الجاثية:7-9].

وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7].

{مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} في عداد أهل النار.

ووجه تقديم السمع على العقل بمنزلة الكلي والسمع بمنزلة الجزئي ورعيا للترتيب الطبيعي لأن سمع دعوة النذير هو أول ما يتلقاه المنذرون، ثم يعملون عقولهم في التدبير فيها.

وقال الزمخشريّ: قيل: إنما جمع بين السمع والعقل، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.

روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [صحيح]

وروى أيضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ النَّارَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا).

قال ابن عاشور: "ولا شك أن أقل الناس عقلا المشركون لأنهم طرحوا ما هو سبب نجاتهم لغير معارض يعارضه في دينهم، إذ ليس في دين أهل الشرك وعيد على ما يخالف الشرك من معتقدات، ولا على ما يخالف أعمال أهله من الأعمال، فكان حكم العقل قاضيا بأن يتلقوا ما يدعوهم إليه الرسل من الإنذار للامتثال إذ لا معارض له في دينهم لولا الإلف والتكبر، بخلاف حال أهل الأديان اتباع الرسل الذين كانوا على دين فهم يخشون إن أهملوه أن لا يغني عنهم الدين الجديد شيئا فكانوا إلى المعذرة أقرب لولا أن الأدلة بعضها أقوى من بعض".

{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} فأقروا بجحدهم الحق وتكذيبهم الرسل.

{فَسُحْقًا} فبعداً.. دعاء بالإبعاد، أي أسحقهم الله إسحاقا، ويجوز أن يراد من هذا الدعاء التعجب من حالهم كما يقال: "قاتله الله"، و"ويل له"، في مقام التعجب.

ويحتمل أيضا أن يقال لهم يوم الحساب عقب اعترافهم، تنديما يزيدهم ألما في نفوسهم فوق ألم الحريق في جلودهم.

{لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} لأن اعترافهم وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة، كما جاء في حق فرعون في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]

وجاء أصرح ما يكون في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158].

فلما جاء بعض آيات الله وظهر الحق لم يكن للإيمان محل بعد المعاينة {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُهَا} كحالة فرعون المذكورة لأن حقيقة الإيمان التصديق بالمغيبات فإذا عاينها لم تكن حينذاك غيبا فيفوت وقت الإيمان، والعلم عند الله، وعليه حديث التوبة: قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) [أحمد بسند حسن]

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبًا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت في الصحيحين: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)، فذكر منهم: (وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ).

{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} والآية اعتراض يفيد استئنافا بيانيا جاء على سنن أساليب القرآن من تعقيب الرهبة بالرغبة، فلما ذكر ما أعد للكافرين المعرضين عن خشية الله أعقبه بما أعد للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين.

وقدم المغفرة تطمينا لقلوبهم لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه، ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم، فكان الكلام جاريا على قانون تقديم التخلية، أو تقديم دفع الضر على جلب النفع، والوصف بالكبير بمعنى العظيم نظير ما تقدم آنفا في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9]. وتنكير {مَغْفِرَةٌ} للتعظيم بقرينة مقارنته بـ {أَجْرٌ كَبِيرٌ} وبقرينة التقديم.

والخشية: شدة الخوف، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49].

وبين تعالى محل تلك الخشية في قوله: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ} [فاطر:28] لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه.

وقد بين تعالى حقيقة خشيته فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ} [البقرة:74]

وقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].

فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخفوا وتستروا، وهم دائما منيبون إلى الله كما في قوله: {هَذَا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32-33]، وهذه أعلى درجات السلوك مع الله تعالى كما بين أنها منزلة العلماء.

وقد عاب تعالى أولئك الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ويخشون الناس ولا يخشون الله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13].

وإفراد الله بالخشية منزلة الأنبياء كما في قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].

والواقع أن صفة خشية الله بالغيب، والإيمان بالغيب أساس عمل المسلم كله ومعاملاته لأنه بإيمانه بالغيب سيعمل كل خير طمعا في ثواب الله كما في مستهل المصحف: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3].

وبمخافة الله بالغيب سيتجنب كل سوء فيسلم ويتحصل له ما قال الله تعالى عنهم {مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيما} [الأحزاب:35] {مَغْفِرَةٌ} من ذنوبه {وَأَجْرٌ عَظِيما} على أعماله.. رزقنا الله خشيته في السر والعلن.

وليعلم أن المراد بالغيب مما هو من جانب العبد لا من جانب سيده كما في الحديث في الإحسان (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) [البخاري]، وهذا الإحساس هو أقوى عامل على اكتساب خشية الله سبحانه.

 

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما خطر في القلوب والضمائر، فكيف بما نطق به؟!

وفيه دلالة على أن السر والجهر عند الله وفي علم الله على حد سواء لأنه عليم بذات الصدور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

كقوله تعالى: {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] {وسارب} ظاهر بذهابه في سربه أي طريقه {بالنهار}،  وقوله {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].

{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ألا يعلم السر والجهر من خلق الأشياء، والخلق يستلزم العلم.

{وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده، العالم بخبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة.

قال الغزاليّ: إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما لطفَ منها، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق دون العنف.

{الْخَبِيرُ} العليم بأعمالهم الذي لا تعزب عنه الحوادث الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها.

فهو سبحانه الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في الملك والملكوت ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفس، إلا وعنده خبرها.

كما قال: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3].

قال القرطبي نقلا عن أبي إسحاق الإسفرائيني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم، منها: العليم ومعناه تفهيم جميع المعلومات، ومنها الخبير ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون، ومنها الحكيم ويختص بأنه يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه ألا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى، ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النهار واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} ليِّنة سهلة المسالك، والذلول فعول بمعنى مفعول وهو مبالغة في الذل. والذلول من الدواب المنقادة المطاوعة، مشتق من الذل وهو الهوان والانقياد.. فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقها تشبيها بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة.

وقيل في معنى تذليل الأرض عدة أقوال لا تنافي بينها ومجموعها دائر على تمكين الانتفاع منها عن تسهيل الاستقرار عليها وتثبيتها بالجبال كقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:32-33].

ومن إمكان الزرع فيها كقوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} [عبس:27-28] إلى قوله أيضا: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}، وقد جمع أكثرها في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ ماءً فُرَاتاً} [المرسلات:25-27].

فمن تسخير الله تعالى للأرض أن جعلها كفاتا للإنسان في حياته بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها فإذا مات كانت له أيضا كفاتا بدفنه فيها. ولو شاء الله لجعلها حديدا ونحاسا فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها ولا يحفر ولا يبني وإذا مات لا يجد مدفنا فيها.

{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} في نواحيها وجوانبها، والمنكب هو ملتقى الكتف مع العضد، جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها.

قال ابن جرير: لأن نواحيها نظير مناكب الْإِنْسَاْن التي هي من أطرافه.

والفاء: للسببية أي بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها من زراعة وصناعة وتجارة إلخ.

والأمر في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} للإباحة ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيها وحثا للأمة على السعي والعمل والجد والمشي في مناكب الأرض من كل جانب لتسخيرها وتذليلها مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها.

{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} التمسوا من نعمه تعالى.

قال الشهاب: فالأكل والرزق أريد به طلب النعم مطلقاً، وتحصيلها أكلاً وغيره، فهو اقتصار على الأهم الأعم، على طريق المجاز أو الحقيقة.

قال: وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا وما فيها، لم تجد شيئاً منها على المرء غير ما أكله، وما سواه متمم له، أو دافع للضرر عنه.

قال ابن كثير: في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيَّأ فيها من المنافع، ومواضع الزرع والثمار. والمعنى: سافِروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات.

وقال ابن عاشور: وكل هذا تذكير بشواهد الربوبية والإنعام ليتدبروا فيتركوا العناد، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81].

 {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} قيامكم من قبوركم للحساب والجزاء.

فلما ضرب لهم بخلق أنفسهم دليلا على علمه الدال على وحدانيته شفعه بدليل خلق الأرض التي هم عليها، مع المنة بأنه خلقها هينة لهم صالحة للسير فيها مخرجة لأرزاقهم، وذيل ذلك بأن النشور منها وأن النشور إليه لا إلى غيره.

ومن رأى هذا التسخير اعترف لله بالفضل والقيام لله بالحمد، وتقديم الشكر كما قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36].

وقوله: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:12-14].

أي مع شكر النعمة الاتعاظ والعبرة والاستدلال على كمال القدرة ومنها المعاد والمنقلب إلى الله تعالى فقوله {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} بعد المشي في مناكب الأرض وتطلب الرزق وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب وتسخير الله لها كقوله تعالى {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} بعد ذكر {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}، أي: الأصناف وتسخير الفلك والأنعام والبحر والبر فيه ضمنا إثبات القدرة على البعث فيكون المشي في مناكب الأرض واستخدام مناكبها واستغلال ثرواتها والانتفاع من خيراتها لا لطلب الرزق وحده وإلا لكان يمكن سوقه إليهم ولكن للأخذ بالأسباب أولا وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات كما في آية "الجمعة" {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]. أي: عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه.

وعليه فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى والاستغناء والاستثمار والإنتاج فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل وأضاعت من حقها في هذا الوجود.

وقد قال الإمام النووي في مقدمة «المجموع»: إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة لتستغني عن غيرها وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج.

وهذا هو واقع العالم اليوم إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية. وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله فعليهم أن يحتلوا مكانهم ويحافظوا على مكانتهم ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا وبالله التوفيق.

 

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} قال ابن جرير: هو الله تعالى، وعزاه القرطبي لابن عباس ويشهد لما قاله ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب فإنه لا يقدر عليه إلا الله كما أنه ظاهر النص.

قال القرطبي: {من في السماء} بمعنى فوق السماء كقوله {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة:2]، أي فوقها لا بالمماسة والتحيز.

وقيل {في} بمعنى على كقوله {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي عليها إلى أن قال: والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلو لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلو ا هـ.

وخص ذلك بالسماء لأن إثباته لله تعالى ينفيه عن أصنامهم. والمعنى: توبيخهم على سوء معاملتهم ربهم كأنهم آمنون من أن يأمر الله ملائكته بأن يخسفوا الأرض بالمشركين.

 {أَنْ يَخْسِفَ} الخسف انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض باطنا وباطنه ظاهرا، كما خسف بقارون.

{بِكُمُ الْأَرْضَ} خطاب للكافرين، أي: أأمنتم العليّ الأعلى أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم إلى أسفل سافلين.

{فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} تضطرب وتهتز هزّاً شديداً بكم، وترتفع فوقكم، وتنقلب عليكم.

وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتادا كما قال: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ} [النازعات:32-33]

وهذا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره، وهو مع هذا يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجل، كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45]

والآية انتقال من الاستدلال إلى التخويف لأنه لما تقرر أنه خالق الأرض ومذللها للناس وتقرر أنهم ما رعوا خالقها حق رعايته فقد استحقوا غضبه وتسليط عقابه بأن يصير مشيهم في مناكب الأرض إلى تجلجل في طبقات الأرض. فالجملة معترضة والاستفهام إنكار وتوبيخ وتحذير.

{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} ريحا فيها حصباء تدمغكم، كما قال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا} [الإسراء:68]

{فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.

أي: عاقبة نذيري لكم، إذا كذبتم به، ورددتموه على رسولي.

وقد بينّ تعالى نذيره لهم في غير ما آية، وهو زهوق باطِلهم إذا أصروا، ونصر رسوله، وغلبة جنده، كما قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم السالفة والقرون الخالية مع كونهم أشد منهم عَدَداَ وعُدَداَ.

التفت عن خطابهم إلى الإخبار عنهم بحالة الغيبة، تعريضا بالغضب عليهم بما أتوه من كل تكذيب للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكانوا جديرين بإبعادهم عن الحضور للخطاب، فلذلك لم يقل: "ولقد كذب الذين من قبلكم" ولم يقطع توجيه التذكير إليهم والوعيد لعلهم يتدبرون في أن الله لم يدخرهم نصحا.

{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أصله نكيري بالإضافة إلى ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا، كما في قوله آنفا: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17]

وهو استفهام تقريري وتنكيري كناية عن تحقيق وقوعه وأنه وقع في حال فظاعة.

أي: فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟، وذلك بإنزال العذاب الأليم بهم ودحرِ باطلهم.

قال القاضي: هو تسلية للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وتهديد لقومه المشركين.

 

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها. مشتق من الصف، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء، كما حكى الله عن الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] وقال تعالى في البدن: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] ويقال: صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف، وفي حديث ابن عباس في الجنائز مر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقبر منبوذ إلى قوله "فصفنا خلفه وكبر" .

والمراد هنا أن الطير صافة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلا ريش أجنحتها عند الطيران، فالطائر إذا طار بسط جناحيه، أي مدها فصف ريش الجناح فإذا تمدد الجناح ظهر ريشه مصطفا فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به.

{وَيَقْبِضْنَ} القبض: ضد البسط، والمراد يضممنها إلى أجسامها.. عبّر عنه بالفعل إشارة إلى أنه أمر طارئ على الصف، يفعل في بعض الأحيان للتقوي بالتحريك، فإنه الأصل الثابت في حالة الطيران، ولذا اختير له الاسم.

فالقاعدة أن الاسم للدوام والثبوت، والفعل للتجدد والحدوث، فالحركة الدائمة في الطيران هي صف الجناح، والجديد عليه هو القبض.

 {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجو، أي حفظها من السقوط على الأرض بما أودع في خلقتها من الخصائص.

{إِلَّا الرَّحْمَنُ} المقيض لكلّ ما قُدّر له، حسب استعداده بسعة رحمته، ومنه ما دبر للطيور من بنية يتأتى منها الجري في الجوّ.

وإيثار اسم {الرَّحْمَن} هنا دون الاسم العلم بخلاف ما في سورة النحل {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} لأن من جملة عنادهم إنكارهم اسم {الرَّحْمَن} فلما لم يرجعوا عما هم عليه ذكر وصف {الرَّحْمَن} في هذه السورة أربع مرات.

والآية دليل على قدرته تعالى وآية لخلقه، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السماء ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:79] فهي آية على القدرة.

وقد جاء في آيات أخرى أنه تعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض بقدرته جل وعلا كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيما غَفُوراً} [فاطر:41] فهو سبحانه ممسكهما بقدرته تعالى عن أن تزولا ولو قدر فرضا زوالهما لا يقدر على إمساكهما إلا هو، وكما في قوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السماء أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65].

قال ابن عاشور: والآية استرسالا في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطير في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به.

واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} تصور صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصبا، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلا إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفيلة وهو مكتمل العقل دقيق التمييز أدرك من دقائق خلقة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفيلة، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها ما يملأ وصفه الصحف.

{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} بما يصلح كل شيء من مخلوقاته.. تعليل لمضمون {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} أي أمسكهن الرحمن لعموم علمه وحكمته، ولا يمسكهن غيره لقصور علمه أو انتفائه.

والبصير: العليم، مشتق من البصيرة، فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو: السميع البصير، وإنما هو هنا من باب قولهم: فلان بصير بالأمور. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم.

قال القاشانيّ: أي: فيعطيه ما يليق به، ويسوِّيه بحسب مشيئته، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته، ثم يهديه إليه بتوفيقه.

ولعل مما يستدعي الانتباه توجيه النظر إلى الطير في الهواء {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} بعد التخويف بخسف الأرض بأنها معلقة في الهواء كتعلق الطير المشاهد إليكم ما يمسكها إلا الله وإيقاع الخسف بها كإسقاط الطير من الهواء لأن الجميع ما يمسكه إلا الله تعالى وهو القادر على الخسف بها وعلى إسقاط الطير.

 

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} معشر المشركين {يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} إن أراد بكم سوءاً، فيدفع عنكم بأسه.

{إِنِ الْكَافِرُونَ} التعريف للاستغراق، وليس المراد به كافرون معهودون.

{إِلَّا فِي غُرُورٍ} الغرور: ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها، وهو بخلاف ذلك أو هو غير واقع.

أي: في غرور من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضرّ، أو أنها تقرّبهم إلى الله زلفى. ونظير هذا قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء:43]

{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ} بصيغة المضارع لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة.

{إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} المطر والطعام ونحوهما، والجواب لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله.

وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ:24] أي لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:3]

وذلك لأن الذي يقدر على الخلق هو الذي يملك القدرة على الرزق، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السماء وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31].

وكقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40]

وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق، وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه وتدبير شؤون الخلق، كما في قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ثم قال: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:12]، أي يبسط ويقدر بعلم لا عن نقص ولا حاجة، ولكن يعلم بمصالح عباده: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى:19] أي يعاملهم بلطفه، وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقا واسعا، وهو العزيز في ملكه فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] أي: بمقتضى اللطف والعلم: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].

ومن هذا كله يردّ على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق كما في قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل:73].

وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى: {إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17].

وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58].

وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والأرض جملة. وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلا مما يعجز الخلق عن فعله وذلك في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32].

فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء ثم ينشأ عنه انشقاق الأرض عن النبات بأنواعه حبا وعنبا وزيتونا ونخلا وحدائق وفاكهة وكلها للإنسان وقضبا وأبا للأنعام، والأنعام أرزاق أيضا لحما ولبنا وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله.

فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله، فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق ومن بيده مقاليد السماوات والأرض لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى موقنا حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين.

وكما قال تعالى: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السماء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:22-23].

وقد جاء عن عائشة -رضي الله عنها- قولها: "والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده".

{بَلْ} للاضراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان.

{لَجُّوا} استمروا وتمادوا {فِي عُتُوٍّ} عناد وطغيان {وَنُفُورٍ} النفور: هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه.. أي: شراد عن الحق، واستكبار مع وضوح براهينه، فأصروا على اعتقاد أنهم يُحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، وأنهم الجند الناصر الرازق، مكابرة وعناداً.

 

أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تمثيل للضالين والمهتدين، أو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.

والمكب: هو المتعثر الذي يخرّ على وجهه لوعورة طريقه، واختلاف سطحه ارتفاعاً وانخفاضاً. والذي يمشي سويّاً هو القائم السالم من العثار لاستواء طريقه، واستقامة سطحه.

والمؤمن هو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة. هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة.. فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم، مُفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، كما قال تعالى:

{وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97]

وقوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:34]

وقوله: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]

وقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]

روى أحمد عَنْ نُفَيْعٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: (إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ) [صحيح].

قال القاضي: والمراد تمثيل المشرك والموحِّد بالسالكين، والدينين بالمسلكين. ولعل الاكتفاء بما في الكَبّ من الدلالة على حال المسلك، للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقاً، أي: فلذلك ذكر المسلك في الثاني دون الأول.

{قُلْ} انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يقول لهم ما سيذكر تفننا في البيان، وتنشيطا للأذهان حتى كأن الكلام صدر من قائلين، وترفيعا لقدر نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإعطائه حظا من التذكير معه، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان:58].

{هُوَ} المستحق للعبادة وحده، وسلوك صراطه {الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أوجدكم وابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} العقول والإدراكات.

{قَلِيلًا} قد تستعمل في معنى النفي والعدم، كقوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] وقوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:46]، وتقول العرب: هذه أرض قلما تنبت.

{مَا تَشْكُرُونَ} باستعمالها فيما خلقت له.. قال ابن كثير: ما أقل ما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم، في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره.

{قُلْ} تكرار يشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال {هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} الذرء: الإكثار من الموجود، فهذا أخص من قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أي هو الذي كثركم على الأرض.

{فِي الْأَرْضِ} بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وأحوالكم وأشكالكم وصوركم.. خلقكم فيها لتعبدوه وتقوموا بالقسط الذي أمر به.

{وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء.

فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أنذروا به لا يكون إلا بعد البعث والبعث بعد الموت، وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لابد منه، وإنذارهم بالبعث والحشر.

وتقديم المعمول في {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} للاهتمام ولرعاية الفواصل، وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلا فضلا عن أن يدعوه لغير الله.

 

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

{وَيَقُولُونَ} الكفار المعاندين {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الحشر أو الفتح على رسوله وظهور دينه، وأتوا بلفظ {الْوَعْدُ} استنجازا له لأن شأن الوعد الوفاء {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في الإنذار به، والترهيب منه.

والاستفهام بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك، كما قال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الإسراء:51].أي: فسيَهُزُّون رؤوسهم ساخرين متعجبين.

ولما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ}  إلى {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الملك: 24] انحصر عنادهم في مضمون قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به، وقال بعضهم لبعض: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:7-8]} وكانوا يقولون: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء،النمل،سبأ،يس،الملك] واستمروا على قوله، فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير.

{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله -عز وجل- لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه.

{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وإنما علي البلاغ، بيّن الحجَّة على ما أنذركم به من زهوق باطلكم إذا جاء أجله. وأما تعيين وقته فليس إليّ.

{فَلَمَّا رَأَوْهُ} ما وعدوا به من العذاب، وزهوق باطلهم. وفعل {رَأَوْهُ} مستعمل في المستقبل، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره، فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر.

ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89]، إذ جمع في الآيتين بين فعل {نَبْعَثُ} مضارعا وفعل {وَجِئْنَا} ماضيا.

{زُلْفَةً} قريباً، إخبار بالمصدر للمبالغة، أي رأوه شديد القرب منهم.

أي: لما قامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه.

{سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن.

{وَقِيلَ} لهم تبكيتاً، والقائل إما ملائكة المحشر أو خزنة جهنم، فعدل عن تعيين القائل، إذ المقصود المقول دون القائل، فحذف القائل من الإيجاز.

 {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} تطلبون وتستعجلون به من الدعاء، أو تدّعون أن لا بعث، من الدعوى.

 

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه.

{أَرَأَيْتُمْ} استفهام استنكاري، أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعا، ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد.

{إِنْ أَهْلَكَنِيَ} أماتني {اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ} معية مجازية، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين، كما في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، أي الذين آمنوا معه، وقوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]

{أَوْ رَحِمَنَا} أحيانا، ويفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم. فحياة المؤمن رحمة لأنها تكثر له فيها بركة الإيمان والأعمال الصالحة.

 {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} استفهام استنكاري، أي لا يجيرهم منه مجير {مِنْ عَذَابٍ} التنكير للتهويل {أَلِيمٍ} أي: فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين، ففيه إيماء إلى علة الحكم.

ولقد كان كفار مكة يَتربصون بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَيبَ المنون؛ تخلصاً من دعوته وانتشارها، فأمر أن يقول لهم ذلك.

أي: أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأجيل آجالنا وانتصارنا، فمن يجيركم من عذاب أليم قضى الله وقوعه بكم لكفركم؟.

قال ابن عاشور: وقد حكى القرآن عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] وحكى عن بعضهم: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98]، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال:30] فأمره الله بأن يعرفهم حقيقة تدحض أمانيهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جره إليه عمله، وقد جرّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حَيِيَ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو بادره المنون، قال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:41-42]

وقال ابن كثير: أي: خلصوا أنفسكم، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة، والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذَّبنا الله أو رحمنا، فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم.

والمعني بالعذاب: إما الدنيوي وهو خزيهم بالانتصار عليهم، ودحور ضلالهم، أو الأخروي، وهو أشد وأبقى.

{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} أي الله هو الذي وصفه {الرَّحْمَنُ} فهو يرحمنا، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تحرموا آثار رحمته.

{وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} اعتمدنا في جميع أمورنا لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم وأصنامكم.

وتقديم معمول {تَوَكَّلْنَا} عليه لإفادة الاختصاص، أي توكلنا عليه دون غيره تعريضا بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوا في التوكل مع الله، أو نسوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الأصنام.

وإنما لم يقدم معمول {آمَنَّا} عليه فلم يقل: به آمنا، لمجرد الاهتمام إلى الإخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فإن هذا جواب آخر على تمنيهم له الهلاك وسلك به طريق التبكيت، أي هو الرحمن يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإشراك وإثبات التوحيد، إذ الكلام في الإهلاك والإنجاء المعبر عنه بـ {رَحِمَنَا}، فجيء بجملة {آمَنَّا} على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص، بخلاف قوله: {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} لأن التوكل يقتضي منجيا وناصرا، والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم، فقيل: نحن لا نتكل ما أنتم متوكلون عليه، بل على الرحمن وحده توكلنا.

{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} في ذهاب عن الحق وانحراف عن طريقه منا ومنكم، إذا جاء نصر الله والفتح في الدنيا، ونشأته الثانية في الأخرى.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} غائرا ذاهبا في الأرض إلى أسفل، فلا يُنَال بالفئوس الحداد، ولا السواعد الشداد، والغائر: عكس النابع.

إيماء إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم، كما دل عليه خبر تعجب القافلة من جُرهم التي مرت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجر بابنه إسماعيل ففجر الله لها زمزم ولمحت القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا: ما عهدنا بهذه الأرض ماء، ثم حفر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئرا تسمى «بئر ميمون» في عهد الجاهلية قبيل البعثة، وكانت بها بئر أخرى تسمى «الْجَفْرُ» لبني تيم بن مرة، وبئر تسمى «الْجَمُّ» ذكرها ابن عطية وأهملها القاموس وتاجه، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.. فماء هذه الآبار هو الماء الذي أنذروا به بأنه يصبح غورا.

{فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} نابع ظاهر سائح جار على وجه الأرض سهل التناول.. استفهام إنكاري، أي لا يأتيكم أحد بماء معين غير الله.

قال الرازي: المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي: أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض، فمن يأتيكم بماء معين؟ فلا بد وأن يقولوا: هو الله؛ فيقال لهم حينئذٍ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية، وهو كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68]، أي: بل هو الذي أنزله وسلكه ينابيع؛ رحمة بالعباد، فله الحمد.

ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في الكشاف، قال: وعن بعض الشطار هو محمد بن زكريا الطبيب أنها -أي هذه الآية- تليت عنده. فقال: تجيء به -أي الماء- الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته. والله أعلم.

 جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 55

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً