الاختلاف: المتفهّم وغير المتفهّم!

منذ ساعة

المطلوب ليس القضاء على الاختلاف، فذلك مما لا يقع، ولا تقتضيه طبيعة الإنسان، ولا سنن الله وعوائده في خلقه، وإنما المطلوب أن يكون اختلافنا مضبوطًا بمنهج الوحي، غير متقدم فيه المرء بين يدي الله ورسوله ﷺ

الاختلاف – في أصله – شرّ لأنه بابٌ يجر الأمة إلى التنازع والشقاق، ومركبٌ تنتشر به العداوة والبغضاء، ومَدخلٌ يوهن بنيان الجماعة المسلمة ويهد من وحدتها. لكنه ليس شرًّا بإطلاق، إذ يتحول أحيانًا إلى لونٍ من ألوان الطاعة وضرب من ضروب الامتثال متى خرج من قلبٍ مخلص متجرد للحق، طالب مرضاة الله، متتبع لأمر رسوله ﷺ، حريص على ألا ينطق إلا بعلم صحيح، ولا يتحرك إلا بدليل راجح وحجة بينة، دون أن يعارض قول الله وقول رسوله ﷺ بقول أحد من الخلق كائنا من كان. فربّ رجلين اختلفا في طريق السير إلى الله تعالى، وكلٌّ منهما يرى الحق من زاويته، ويبذل جهده في نصرته، والعمل به، والسير على هداه، ولا يقصد بشيء من ذلك إلا وجه الله سبحانه؛ فيصيب أحدهما الحق، ويقارب الآخر، وكلاهما على خير.


ومن كانت هذه حالته، فهو داخل في مثل قول النبي ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». ومثل الحاكم: المجتهد في تتبع الحق اللاهث خلفه، فالشريعة – من عدلها – لا تساوي بين المختلفين، ولا تفرّق بين المتماثلين، وإنما المقصود في ميزان الشريعة ليس مجرد الإصابة وحدها، بل وأيضا تطلب الحق والسعي للتمسك به والثبات عليه، ونقاء قصد صاحبه وإخلاصه عمله.

بل وإنه ليُرجى لهذين الصنفين العظيمين من الخلق – الذين اختلفوا بالله ولله – أن ينالوا منازل المقربين، وأن يكونوا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، كما في قوله ﷺ: «ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه». فمحبتهم لله بقيت، وإن افترقت آراؤهم، وودّهم في الله استقر، وإن تمايزت طرقهم. فافتراقهم لم يكن شقاقًا، بل كان عبادة لله وامتثالا لأمره، لأن منشأه الاجتهاد والسعي في التمسك بالحق، وغايتَه رضوان الله وتحقيق مراده عز وجل.

ومن هنا ندرك أن المطلوب ليس القضاء على الاختلاف، فذلك مما لا يقع، ولا تقتضيه طبيعة الإنسان، ولا سنن الله وعوائده في خلقه، كما قال الله في كتابه الكريم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}.
وإنما المطلوب أن يكون اختلافنا مضبوطًا بمنهج الوحي، غير متقدم فيه المرء بين يدي الله ورسوله ﷺ، محكومًا بأدب الشرع، باعثه حسن القصد والتجرد للحق، خاليًا من مطامع النفس، حتى يصير اختلافًا موزونًا، راشدًا، يعظم الثابت، وينتصر للدليل، ويسير خلف الحجة، دون أن يهدم أصلًا، أو يقطع وشيجة، بل يزيد صاحبه بصيرة ويزيد الأمة رسوخًا واتساعا.

ولذا فالخطر الحقيقي ليس كله في اختلاف العقول، بل إن أعظمه كامن في فساد القلوب. وليس جله في تباين وجهات النظر، بل في خلط الهوى بالاجتهاد، وسواد النوايا، وإقحام مصالح الذات في ثوب الغيرة للدين. ذلك هو الاختلاف غير المتفهم؛ الذي يخرج من رحم العجب بالنفس، أو من رغبةٍ في العلو في الأرض، أو من طلب دنيا، أو تعصب أعمى يُراد به الانتصار للأنا (فردا أو حزبا أو جماعة أو موطنا أو قبيلة) قبل الانتصار للحق والدوران معه حيث دار بالعبد. وهذا الضرب من الاختلاف بلا شك مذموم، فهو لا يزيد الأمة إلا تمزقًا، ولا يزيد أصحابه إلا تنافرا وبعدًا وعداوة.

ولذلك فالله – سبحانه – لا يرضى أبدا عن عمل يُقصد به غير وجهه البتة، حتى لو كان صوابا في ذاته؛ لأن العمل لا يزكو إلا بإخلاصٍ يرفعه وصوابٍ يسير عليه، وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار شهير شاهد.
ولا يرضى سبحانه عن عملٍ يعلم العبد أنه مخالف لأمره ثم يقدم عليه عامدًا المخالفة مختارًا لسبيلها، فذاك هو الهوى المحض الذي يضلّ صاحبه ويرديه، وفي هذا النوع من الاختلاف يقول سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

أما من جمع بين صفاء القصد وصواب السعي فهو المقدم الرفيع الموفَّق، ومن تجرد لله ثم أخطأ بعد بذل وسعه فله من رحمة الله نصيب لا يضيع، فإن الله أكرم وأرحم من أن يبتلي قلبًا أراد وجهه واجتهد في تطلب الحق وسعه ثم يحرم صاحبه من الأجر.

ولذا فالاجتهاد في التفريق بين أصحاب الاختلاف المتفهم وغير المتفهم ضرورة للسائر، به يميز من حوله، ويحدد من هو على شاكلته وسائر في صفه، ومن هو منه مجانب بعيد، أيا كان الشعار الذي يرفعه، والثوب الذي يرتديه.
نسأل الله أن يجمع قلوب المسلمين على الحق، وأن يجنبهم مزالق الفُرقة وسوء المقاصد، وأن يجعل اختلافهم اختلاف نصحٍ ورحمة وتطلب للحق، لا اختلاف هوى نزاع وشقاق.
والله الهادي.

  • 0
  • 0
  • 13

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً