إليه الــمَسَاق
قد يتهوّر طالبٌ فيهرب من مدرسته، لكنه بعدما يتأمل في حاله، ويوقن أنه ليس له غِنى عنها في تعليمه، لا يلبثُ إلا أن يعود إليها ويعتذر. وقد يتهاون موظفٌ في عمله، فتسوء سمعته عند رؤسائه، لكنه ما إن يتذكّر أن مستقبله ومستقبل أسرته مرتبطان بتلك الوظيفة، حتى يعود فيُصحّح وضعه، ويجتهد ويُبدِع.
قد يتهوّر طالبٌ فيهرب من مدرسته، لكنه بعدما يتأمل في حاله، ويوقن أنه ليس له غِنى عنها في تعليمه، لا يلبثُ إلا أن يعود إليها ويعتذر. وقد يتهاون موظفٌ في عمله، فتسوء سمعته عند رؤسائه، لكنه ما إن يتذكّر أن مستقبله ومستقبل أسرته مرتبطان بتلك الوظيفة، حتى يعود فيُصحّح وضعه، ويجتهد ويُبدِع.
إن تأمّل الإنسان في المآل والمرجع الذي لابد له منه، يجعله يفكّر ويتردد كثيراً قبل أن يعمل عملاً يضره في مآله وعند رجوعه، ولو حدث وغفل ففعل ما يضره، فإنه يبادر إلى تصحيح أحواله ليتفادى صعوبة الموقف مستقبلاً .
ولأهمية هذه الطريقة في ضبط سلوك الناس ومواقفهم؛ عني القرآنُ بتذكير الإنسان أنه مهما طال به العمر، وامتلك من قوة، فإن مردّه ومرجعه إلى ربه سبحانه، ليستيقظ من غفلته، ويتوب من عصيانه، قال الله تعالى: {﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ } ، وقال: { ﴿مَتَـٰعࣱ فِی ٱلدُّنۡیَا ثُمَّ إِلَیۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ﴾} ، وبيّن سبحانه أنّ كلَّ إنسانٍ سيرجع إلى الله، وحيداً، بلا ما كان له من مصادر قوته في الدنيا من مال وولد وعشيرة وجاه وسلطان، فقال: {﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾} ، وليس هذا فحسب – وإن كان كافياً لليقظة- بل يُذَكِّر اللهُ عبدَه الظالم بأمرٍ قد يغيب عنه، وهو أن مَن انشغل عن ربه بمالٍ مهما كثُر، وثرواتٍ مهما تعدّدت، وسلطان وقوة مهما عظمت، فإنه سيتمنى يوم القيامة أن يُقدِّمَها كلَّها فِداءً له من العذاب الأليم، قال تعالى: {﴿وَلَوۡ أَنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مَا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعـا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡا۟ بِهِۦ مِن سُوۤءِ ٱلۡعَذَابِ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ﴾} {} ، ﴿ما في الأرْضِ﴾ قيل: "يَشْمَلُ كُلَّ عَزِيزٍ مِن أهْلِيهِمْ وأمْوالِهِمْ، بَلْ وأنْفُسِهِمْ، فَهو أهْوَنُ مِن سُوءِ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ". وقال تعالى: {﴿إِلَىٰ رَبِّكَ یَوۡمَىِٕذٍ ٱلۡمَسَاقُ﴾} {} ، أي يُساق العبدُ إلى ربه "فيَرْجِعُ بِالمَوْتِ إلى سَيِّدِهِ، فَإنْ كانَ مُطِيعًا لَقِيَهُ بِما يُرْضِيهِ، وإنْ كانَ عاصِيًا لَقِيَهُ بِما يَلْقى بِهِ العَبْدَ الآبِقَ عَلى قَدْرِ إباقِهِ"، وقال سبحانه: { ﴿إِلَىٰ رَبِّكَ یَوۡمَىِٕذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ﴾} {} ، أي المنتهى والْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ ، "ولا ملجأ ولا وقاية، ولا مفر من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه، والمستقر عنده، ولا مستقر غيره".
وفي مقابل هذا المرجع والمآل وما فيه من مشاهد مروّعة لمن عصى وطغى، هنالك المرجع والمآل المعمور بالطمأنينة والرضا لمن استعدّ له فقدّم مراضي ربه ومحبوباته على مراضي نفسه ومحبوباتها، قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.
فيا أيها المسلم الغافل عن مرجعك ومآلك .. ما دام أن الجميع سيرجع إلى الله حتماً، طال الوقت أم قصر؛ فارجع أنت إليه من الآن، فإنه سبحانه يفرح بعودتك، ويقبل توبتك، قال تعالى: {﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾} .
وأخيراً .. تأمل بقلبك وعقلك هذه الحكاية اللطيفة وقارنها برحمة الله بك، وأنه ليس لك إلا هو سبحانه، إليه مرجعك ومآلك، فينبغي أن تفِر إليه وتلجأ، يقول ابن القيم أنه "حصل لبعض العارفين شرودٌ وإباقٌ من سيّده، فرأى في بعض السكك باباً قد فُتح، وخرج منه صبيٌ يستغيثُ ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت البابَ في وجهه ودخلت، فذهب الصبيُّ غيرَ بعيد، ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوى غيرَ البيتِ الذي أُخرج منه، ولا من يُؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد البابَ مرتجّاً، فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تُقبِّله وتبكي، وتقول : يا ولدي، أين تذهب عني؟ ومن يُئويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت".
كتبه/ منصور بن محمد الـمقرن
- التصنيف: