مع سورة نوح
«سورة نوح» بهذا الاسم سميت به هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" بترجمة «سورة إنا أرسلنا نوحا». ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف ولم يترجم لها الترمذي في "جامعه".
بسم الله الرحمن الرحيم
«سورة نوح» بهذا الاسم سميت به هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" بترجمة «سورة إنا أرسلنا نوحا». ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف ولم يترجم لها الترمذي في "جامعه".
وهي مكية بالاتفاق. وعدت الثالثة والسبعين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد نزول أربعين آية من سورة النحل وقبل سورة الطور.
وعد العادون بالمدينة ومكة آيها ثلاثين آية، وعدها أهل البصرة والشام تسعا وعشرين آية، وعدها أهل الكوفة ثمان وعشرين آية.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) }
{إِنَّا} افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام. وكثيرا ما يفتتح بلغاء العرب أول الكلام بحرف التوكيد لهذا الغرض وربما جعلوا "إن" داخلة على ضمير الشأن في نحو قوله تعالى: {{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ}} [النمل:30-31]
{{أَرْسَلْنَا نُوحًا}} أول رسول أرسل من الله، وأرسل إلى جميع أهل الأرض. فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا.
{{إِلَى قَوْمِهِ}} "قوم نوح" هم الناس الذين كانوا عامرين الأرض يومئذ، إذ لا يوجد غيرهم على الأرض، كما هو ظاهر حديث الشفاعة، وذلك صريح ما في التوراة.
{{أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ}} عدل عن أن يقال له: "أنذر الناس": إلى قوله: {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} إلهابا لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته، وهم عدد تكون بالتوالد في بني آدم في مدة ستمائة سنة من حلول جنس الإنسان على الأرض. ولعل عددهم يوم أرسل نوح إليهم كان لا يتجاوز بضعة آلاف.
{{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} يعني عذاب الطوفان.. يخوفهم غضب الله تعالى عليهم إذ عبدوا الأصنام ولم يتقوا الله ولم يطيعوا ما جاءهم به رسوله، فأمره الله أن ينذرهم عذابا يأتيهم من الله ليكون إنذاره مقدما على حلول العذاب.
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) }
{{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي}} افتتاح دعوته قومه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم، ونداؤهم بعنوان: أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلا ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر.
{{لَكُمْ نَذِيرٌ} } مخوف، وتقديم {لَكُمْ} على عامله وهو {نَذِيرٌ} للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته.
{ {مُبِينٌ} } مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه.
وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71]. وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلا تاما.
{{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}} وحدوه {وَاتَّقُوهُ} خافوه {وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه من التوحيد، فإني رسول الله إليكم.
جعل الطاعة هنا لنبي الله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وعلق عليها مغفرة الله لذنوبهم.
وقد بين تعالى أن طاعة النبي هي طاعة الله فهي في الأصل طاعة لله لأنه مبلغ عن الله، كما في قوله تعالى: {{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}} [النساء:79-80].
وقد قال المفسرون: لم يكن في شريعة نوح إلا الدعوة إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تطلب الطاعة فيها، لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال.
{{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}} «من» إما مزيدة للتوكيد، أو تبعيضية. وهو ما وعدهم العقوبة عليها. وأما ما لم يعدهم العقوبة عليها، فقد تقدم عفوه لهم عنها.
أو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.
أو يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها.
{{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}} محدد معين عند الله على تفاوت آجالهم... وهو أقصى ما قدره بشرط الإيمان. أي: فلا يعاجلكم بعذاب غرق أو نحوه.
قال ابن عاشور: "وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإنسان حب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارض ومكدرات. وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع.
قال المعري:
كُلٌّ يُرِيدُ الْعَيْشَ وَالْعَيْشُ حَتْفُهُ ... وَيَسْتَعْذِبُ اللَّذَّاتِ وَهْيَ سِمَامُ
والتأخير: ضد التعجيل، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع من أجل الشيء.
وقد أشعر وعده إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم، أي مجموع قومه لأنه جعل جزاء لكل من عبد الله منهم واتقاه وأطاع الرسول، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله: {{أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}} [نوح:1]. كما تقدم آنفا، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود {{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}} [هود:38] أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه. وهو أمر الطوفان، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم. والمعنى: ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إِشْخَاصِهِمْ وهي متفاوتة".
{{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ}} الذي كتبه على من كذب وتولى، وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى: { {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}} [الأعراف:34] لأنه مضروب لهم.
{{إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}} لو أنتم من أهل العلم والنظر لأنبتم.
فالذي رغب نوح قومه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرت آجالهم وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول، وإذ لم يفعلوه فقد كشف للناس أن الله علم أنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) » [البخاري]، وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله، وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) }
{{قَالَ}} نوح بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل، في تلك المدد الطوال.
وجرد فعل {{قَالَ}} {هنا، من العاطف تنبيها على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله: {{لَيْلاً وَنَهَاراً}}
{{رَبِّ إِنِّي}} وتصدير كلام نوح بالتأكيد لإرادة الاهتمام بالخبر.
{{دَعَوْتُ قَوْمِي}} إلى التوحيد والعمل الصالح {{لَيْلًا وَنَهَارًا}} دائماً بلا فتور ولا توان.. للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره، من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدوء وراحة البال وهي أوقات الليل.
وقد بين تعالى مدة مكثه فيهم على تلك الحالة في قوله تعالى: {{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} } [العنكبوت:14].
وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر. وذلك ما سيفضي إليه بقوله: {{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}} [نوح:26] الآيات.
وفائدة حكاية ما ناجى به نوج ربه إظهار توكله على الله، وانتصار الله له، والإتيان على مهمات من العبرة بقصته، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له.
{{فَلَمْ يَزِدْهُمْ}} كان فرارهم من التوحيد ثابتا لهم من قبل {{دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}} استثناء منقطع، والفرار مستعار لقوة الإعراض، أي فلم يزدهم دعائي إياهم قربا مما أدعوهم إليه من الهدى لكن زادهم فرارا، كما في قوله تعالى حكاية عن صالح -عليه السلام-: {{فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} } [هود:63] أي: فما تزيدونني غير تضليل وإبعاد عن الخير.
{{وَإِنِّي كُلَّمَا}} جاء بكلمة {{كُلَّمَا}} الدالة على شمول كل دعوة من دعواته مقترنة بدلائل الصد عنها.
{{دَعَوْتُهُمْ}} إلى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به.
{{لِتَغْفِرَ لَهُمْ}} بسببه، لام التعليل، أي دعوتهم بدعوة التوحيد فهو سبب المغفرة، فالدعوة إليه معللة بالغفران.
وفي ذلك تعريض بحمقهم وتعجب من خلقهم إذ يعرضون عن الدعوة لما فيه نفعهم فكان مقتضى الرشاد أن يسمعوها ويتدبروها.
{ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}} سدوا مسامعهم من استماع الدعوة، كما في قوله تعالى: {{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ}} [فصلت:26].
وأطلق اسم الأصابع على الأنامل على وجه المجاز المرسل بعلاقة البعضية، فإن الذي يجعل في الأذن الأنملة لا الأصبع كله، فعبر عن الأنامل بالأصابع للمبالغة في إرادة سد المسامع بحيث لو أمكن لأدخلوا الأصابع كلها، كما في قوله تعالى: {{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ}} [البقرة:19].
{وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} جعلوها غشاء، أي غطاء على أعينهم، تعضيدا لسد آذانهم بالأصابع لئلا يسمعوا كلامه ولا ينظروا إشاراته، وأكثر ما يطلق الغشاء على غطاء العينين، قال تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] والسين والتاء في {اسْتَغْشَوْا} للمبالغة.
{وَأَصَرُّوا} على الشر والكفر فلم يتوبوا.. والإصرار: تحقيق العزم على فعل، وهو مشتق من الصَّرِّ وَهُوَ الشَّدُّ عَلَى شَيْءٍ وَالْعَقْدُ عَلَيْهِ.
{وَاسْتَكْبَرُوا} تعاظموا عن الإذعان للحق، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة. لأنهم قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] فهو مبالغة في تكبروا، أي جعلوا أنفسهم أكبر من أن يأتمروا لواحد منهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود:27].
وقريب منه قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]
{اسْتِكْبَارًا} وتأكيد {اسْتَكْبَرُوا} بمفعوله المطلق للدلالة على تمكن الاستكبار. وتنوين {اسْتِكْبَاراً} للتعظيم والتفخيم، أي استكبارا شديدا لا يفله حد الدعوة.
{ثُمَّ} تفيد في عطفها الجمل "أن مضمون الجملة المعطوفة أهم من مضمون المعطوف عليها"، لأن اختلاف كيفية الدعوة ألصق بالدعوة من أوقات إلقائها لأن الحالة أشد ملابسة بصاحبها من ملابسة زمانه.
{إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} ارتقى في شكواه واعتذاره بأن دعوته كانت مختلفة الحالات في القول من جهر وإسرار، فالدعاء أحد نوعيه الجهار أي العلن.
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} قال مجاهد: أعلنت: صحت {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} مفعول مطلق مفيد للتوكيد، أي إسرارا خفيا.. ووجه توكيد الإسرار أن إسرار الدعوة كان في حال دعوته سادتهم وقادتهم لأنهم يمتعضون من إعلان دعوتهم بمسمع من أتباعهم.
أي: دعوتهم مرة بعد مرة، على وجوه متنوعة، ما بين مجاهرة وإظهار بلا خفاء، وما بين إعلان وصياح بهم، وما بين إسرار فيما بيني وبينهم في خفاء.
وهذه المراتب أقصى ما يمكن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. والجمع بين الحالتين أقوى في الدعوة وأغلظ من إفراد إحداهما.
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فصل دعوته بفاء التفريع فقال {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فهذا القول هو الذي قال لهم ليلا ونهارا وجهارا وإسرارا.
ومعنى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} آمنوا إيمانا يكون استغفارا لذنبكم فإنكم إن فعلتم غفر الله لكم.
{إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} وعلل ذلك لهم بأن الله موصوف بالغفران صفة ثابتة تعهد الله بها لعباده المستغفرين، فأفاد التعليل بحرف "إن" وأفاد ثبوت الصفة لله بذكر فعل {كان}. وأفاد كمال غفرانه بصيغة المبالغة بقوله {غَفَّاراً}.
وهذا وعد بخير الآخرة ورتب عليه وعدا بخير الدنيا بقوله:
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ} بالمطر، ومن أسماء المطر السماء، وفي البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ.
{عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} متتابعاً ذا غيث كثير.. وكانوا أهل فلاحة فوعدهم بنزول المطر الذي به السلامة من القحط وبالزيادة في الأموال.
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} فيكثرها عندكم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} النخيل والأعناب، لأن الجنات تحتاج إلى السقي.
{وَيَجْعَلْ} إعادة فعل "يجعل" بعد واو العطف للتوكيد اهتماما بشأن المعطوف لأن الأنهار قوام الجنات وتسقي المزارع والأنعام {لَكُمْ أَنْهَارًا} لسقيا جناتكم ومزارعكم.
** وفي هذا دلالة على أن الله يجازي عباده الصالحين بطيب العيش قال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]
{وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16].
** وفي هذه الآية والتي في «هود»: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:3].. دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار.
قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}.
وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا.
وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدا؛ فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه؛ فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا؛ إن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.
وأفضل الاستغفار ما كان عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} بدل خطابه مع قومه من طريقة النصح والأمر إلى طريقة التوبيخ.
أي: لا ترون له عظمة، إذ تشركون معه مالا يسمع ولا يبصر، فنفي الرجاء مراد به نفي لازمه، وهو الاعتقاد، مبالغة.
وجوّز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف، أي: مالكم لا تخافون عظمة الله وقدرته بالعقوبة. قال الشهاب: وهو أظهر.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} تراباً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم أجنة، وهكذا طوراً بعد طور. وهي المبينة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12-14]
أي: ومقتضى علم ذلك شدة الرهبة من بطشه وأخذه، لعظيم قدرته. فهو دليل على تمكن الخالق من كيفيات الخلق والتبديل في الأطوار، وهم يدركون ذلك بأدنى التفات للذهن، فكانوا محقوقين بأن يتوصلوا به إلى معرفة عظمة الله وتوقع عقابه لأن الدلالة على ذلك قائمة بأنفسهم، وهل التصرف فيهم بالعقاب والإثابة إلا دون التصرف فيهم بالكون والفساد.
فأصل الخلقة والإيجاد أقوى دليل على القدرة وهو الذي يجاب به على الكفرة كما في قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] ثم قال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:18-19]
هذا في أنفسكم، وكذلك يستدل على باهر عظمته، وقاهر قدرته من آياته الكونية فقال تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{أَلَمْ تَرَوْا} استفهام تقريري مكنى به عن الإنكار عن عدم العلم بدلائل ما يرونه على جهة الإخبار لا المعاينة وهو الذي يشهد له القرآن.
كما في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:9-13]
لأن الله تعالى خاطب هنا الكفار قطعا وخاطبهم بأمور مفصلة لم يشهدوها قطعا من خلق الأرض في يومين ومن تقدير أقواتها في أربعة أيام ومن استوائه إلى السماء وهي دخان... كل ذلك تفصيل لأمور لم يشهدوها ولم يعلموا عنها بشيء ومن ضمنها قضاؤه سبع سماوات فكان كله على سبيل الإخبار لجماعة الكفار.
وعقبه بقوله {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فكان مقتضى هذا الإخبار وموجب هذا التقدير من العزيز العليم أن يصدقوا أو أن يؤمنوا وهذا من خصائص كل إخبار يكون مقطوعا بصدقه من كل من هو واثق بقوله يقول الخبر وكان لقوة صدقه ملزم لسامعه ولا يبالي قائله بقبول السامع له أو إعراضه عنه.
ولذا قال تعالى بعد ذلك مباشرة {فَإِنْ أَعْرَضُوا} أي: بعد إعلامهم بذلك كله فلا عليك منهم {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.
وحيث إن الله خاطبهم هنا {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ}؟ فكان هذا أمر لفرط صدق الإخبار به كالمشاهد المحسوس الملزم لهم.
وقد يقال إن الرؤية هنا في الكيفية حاصلة بالعين محسوسة ولكن في شخصية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة الإسراء والمعراج حيث عرج به ورأى السبع الطباق وكان يستأذن لكل سماء، ومشاهدة الواحد من الجنس كمشاهدة الجميع، فكأننا شاهدناها كلنا لإيماننا بصدقه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولحقيقة معرفتهم إياه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصدق من قبل والعلم عند الله تعالى.
{كَيْفَ} هنا مجردة عن الاستفهام للدلالة على الكيفية، أي الحالة.
{خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} يجوز أن يكون وصف {سبع} معلوما للمخاطبين من قوم نوح، أو من أمة الدعوة الإسلامية بأن يكونوا علموا ذلك من قبل؛ فيكون مما شمله فعل {أَلَمْ تَرَوْا}.
ويجوز أن يكون تعليما للمخاطبين على طريقة الإدماج.
{طِبَاقًا} بعضها فوق بعض، وذلك يقتضي أنها منفصل بعضها عن بعض وأن بعضها أعلى من بعض.
{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ} أي في سماء الدنيا {نُورًا} أي لأهل الأرض {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} السراج: المصباح الزاهر نوره.. أي: مصباحا لأهل الأرض يزيل ظلمه الليل، وينير وجه الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم.
وهو تشبيه القصد منه تقريب المشبه من إدراك السامع، فإن السراج كان أقصى ما يستضاء به في الليل، وقل من العرب من يتخذوه وإنما كانوا يرونه في أديرة الرهبان أو قصور الملوك وأضرابهم.
ولم يخبر عن الشمس بالضياء كما في قوله {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} [يونس:5]، والمعنى واحد وهو الإضاءة، فلعل إيثار السراج هنا لمقاربة تعبير نوح في لغته، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة، لأن الفواصل التي قبلها جاءت على حروف صحيحة ولو قيل ضياء لصارت الفاصلة همزة، والهمزة قريبة من حروف العلة فيثقل الوقف عليها.
وفي جعل القمر نورا إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته فإن القمر مظلم وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعض وتمام، وهو أثر ظهوره هلالا ثم اتساع استنارته إلى أن يصير بدرا، ثم ارتجاع ذلك، وفي تلك الأحوال يضيء على الأرض إلى أن يكون المحاق. وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا لأنها ملتهبة وأنوارها ذاتية فهي صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر مثل أنوار السراج تملأ البيت وتلمع أواني الفضة ونحوها مما في البيت من الأشياء المقابلة.
وقد اجتمع في قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} استدلال وامتنان.
** والآية الكريمة لم تخصص قمرا واحدا، والتركيب اللغوي المستعمل فيها لا يفيد الحصر ولا القصر، فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} غايته – في هذا المقام – إثبات نورانية القمر، دون التعرض لغيره من الأقمار بنفي ولا إثبات، مثالها كما تقول: "جعلت هذا الكتاب نبراسي". فهذا لا ينفي أنك جعلت غيره من الكتب أو المعلمين أيضا نبراسا لك، وفي مكان معتبر من التقدير والاهتمام، وهذا واضح في اللغة العربية؛ ولهذا قرر أكثر علماء الأصول عدم حجية ما يسمى بمفهوم اللقب، وهو الاستدلال بالحكم على اسم جنس أو علم على نفي الحكم عما عداه.
يقول ابن قدامة رحمه الله: «مفهوم اللقب» أن يخص اسمًا بحكم، فيدل على أن ما عداه بخلافه: أنكره الأكثرون، وهو الصحيح؛ لأنه يفضي إلى سد باب القياس".
وذهب بعض العلماء إلى أن الألف واللام (الـ) في كلمة (القمر) في الآية الكريمة ليست للعهد، وإنما يراد بها الجنس، أي جنس الأقمار جعلها الله عز وجل نورا في السماوات، وهذا يمكن أن يشمل القمر التابع للكرة الأرضية، وغيره من الأقمار.
يقول العلامة جمال الدين القاسمي -رحمه الله:-
" ليس القمر خاصا بالأرض، بل للسيارات الأخرى أقمار {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} فالألف واللام في الْقَمَرَ للجنس، لا للعهد، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-:
"وأما الأقمار فهي كالمرآة، تعكس نور الشمس على الكواكب التابعة لها؛ فلذا لم تسم في القرآن بالسُّرج، فإنها لا نور لها من ذاتها، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ القَمَرَ} أي: جنس القمر ِ{فيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} أي: لهم جميعًا".
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أطلق على معنى: أنشأكم، فعل {أَنْبَتَكُمْ} للمشابهة بين إنشاء الإنسان وإنبات النبات من حيث إن كليهما تكوين، كما قال تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، أي أنشأها، ويزيد وجه الشبه هنا قربا من حيث إن إنشاء الإنسان مركب من عناصر الأرض، وقيل التقدير: أنبت أصلكم، أي آدم عليه السلام، قال تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59].
{نَبَاتًا} مفعول مطلق للتوكيد، ولم يجر على قياس فعله فيقال: "إنباتا"، لأن نباتا أخف فلما تسنى الإتيان به لأنه مستعمل فصيح لم يعدل عنه إلى الثقيل كمالا في الفصاحة، بخلاف قوله بعده {إِخْرَاجاً} فإنه لم يعدل عنه إلى: خروجا، لعدم ملاءمته لألفاظ الفواصل قبله المبنية على ألف مثل ألف التأسيس، فكما تعد مخالفتها في القافية عيبا كذلك تعد المحافظة عليها في الأسجاع والفواصل كمالا.
{ثُمَّ} دالة على التراخي الرتبي {يُعِيدُكُمْ فِيهَا} عند موتكم بالدفن {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} للحساب والجزاء.. مفعول المطلق لرد إنكارهم البعث.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} تستقرون عليها وتمتهدونها {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} طرقاً مختلفة.. جمع فج، والفج: الطريق الواسع، وأكثر ما يطلق على الطريق بين جبلين لأنه يكون أوسع من الطريق المعتاد.
فالبساط: ما يفرش للنوم عليه والجلوس من ثوب أو غيره.. أي كالبساط. ووجه الشبه تناسب سطح الأرض في تعادل أجزاءه بحيث لا يوجع أرجل الماشين ولا يقض جنوب المضطجعين، وليس المراد أن الله جعل حجم الأرض كالبساط، وقد نبه على ذلك بالعلة الباعثة في قوله: {لكم}، والعلة الغائبة في قوله: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً} وحصل من مجموع العلتين الإشارة إلى جميع النعم التي تحصل للناس من تسوية سطح الأرض مثل الحرث والزرع، وإلى نعمه خاصة وهي السير في الأرض وخصت بالذكر لأنها أهم لاشتراك كل الناس في الاستفادة منها.
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ} تأكيد الخبر بـ "إن" للاهتمام بما استعمل فيه من التحسر والاستنصار.
{عَصَوْنِي} خالفوا أمري وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد.
شكاهم إلى الله تعالى، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان.
وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.
قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء؛ فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا.
{وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} أي: رؤساءهم المتبوعين وأغنياءهم، أهل المال والجاه، المعرضين عن الحق، الذين غرتهم أموالهم وأولادهم، فهلكوا بسببهما، وخسروا سعادة الدارين. كما قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
وقيل: وأدمج في الصلة أنهم أهل أموال وأولاد إيماء إلى أن ذلك سبب نفاذ قولهم في قومهم وائتمار القوم بأمرهم: فأموالهم إذا أنفقوها لتأليف أتباعهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، وأولادهم أرهبوا بهم من يقاومهم.
والخسار مستعار لحصول الشر من وسائل شأنها أن تكون سبب خير، كخسارة التاجر من حيث أراد الربح، فإذا كان هؤلاء خاسرين فالذين يتبعونهم يكونون مثلهم في الخسارة وهم يحسبون أنهم أرشدوهم إلى النجاح.
{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} مبالغة، أي كبيرا جدا متناهياً كبره، فإن الكبّار أكبر من الكبير.
واختلف في مكرهم ما هو؟
فقيل: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح.
وقيل: هو تغريرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد؛ حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم.
وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد.
وقيل: مكرهم كفرهم.
وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}.
{وَقَالُوا} قال بعضهم لبعض {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} تكرير {لا} النافية لتأكيد النفي الذي في قوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} وعدم إعادة {لا} مع قوله: {وَيَعُوقَ وَنَسْراً} لأن الاستعمال جار على أن لا يزاد في التأكيد على ثلاث مرات.
قال قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك.
قيل: فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء؛ فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب.
وقيل: أن أصنام قوم نوح قد دثرت وغمرها الطوفان وأن أسماءها بقيت محفوظة عند الذين نجوا مع نوح من المؤمنين فكانوا يذكرونها ويعظون ناشئتهم بما حل بأسلافهم من جراء عبادة تلك الأصنام، فبقيت تلك الأسماء يتحدث بها العرب الأقدمون في أثارات علمهم وأخبارهم، فجاء عمر بن لحي الخزاعي الذي أعاد للعرب عبادة الأصنام فسمى لهم الأصنام بتلك الأسماء وغيرها
وقال ابن جرير: كان خبرهم -فيما بلغنا- من محمد بن قيس قال: كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم؛ فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
وروى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ.
قال قتادة: والله ما عدا - أي: كل منها - خشبة أو طينة أو حجراً.
وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ [تسمى مارية] فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إِنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكِ الصُّوَرَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان»: أول ما كاد به الشيطان عُبَّاد الأصنام، من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها، ليتذكروهم بها، كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية.
ثم قال: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم: فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا (لعن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المتخذين على القبور المساجد السرج)، و (نهى عن الصلاة إلى القبور)، و (سأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد)، و (نهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً)، وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، و (أمر بتسوية القبور، وطمس التماثيل)، فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله، إما جهلاً، وإما عناداً لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئاً.
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} وهذا من قول نوح. أي ضل بسببها خلقاً كثيراً؛ نظيره قول إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} فأجرى عليهم وصف ما يعقل؛ لاعتقاد الكفار فيهم ذلك.
وقيل: عطف على {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}، أي أضلوا بقولهم هذا وبغيره من تقاليد الشرك كثيرا من الأمة بحيث ما آمن مع نوح إلا قليل.
{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} خذلاناً واستدراجاً. وإنما دعا ذلك ليأسه من إيمانهم.
قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع ضميرهم، للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، وتعليل الدعاء عليهم به.
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} من أجلها.. قوم كفروا ألف سنة، وجمع الخطيئات مراد بها الإشراك، وتكذيب الرسول، وأذاه، وأذى المؤمنين معه، والسخرية منه حين توعدهم بالطوفان، وما ينطوي عليه ذلك كله من الجرائم والفواحش.
{أُغْرِقُوا} بالطوفان {فَأُدْخِلُوا نَارًا} أذيقوا به عذاب النار.. جمع الله لهم أقصى العقوبتين الإغراق والإحراق، مقابل أعظم الذنبين الضلال والإضلال.
{فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} تعريض بالمشركين من العرب باتخاذهم آلهة من دون الله، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال: فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله.
أي كما لم تنصر الأصنام عبدتها من قوم نوح، كذلك لا تنصركم أصنامكم.كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا} [ الأنبياء:43].
والآية جملة معترضة بين مقالات نوح عليه السلام، وليست من حكاية قول نوح، فهي إخبار من الله تعالى لرسوله محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنه قدّر النصر لنوح والعقاب لمن عصوه من قومه قبل أن يسأله نوح استئصالهم، والغرض من الاعتراض بها التعجيل بتسلية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ما يلاقيه من قومه مما يماثل ما لاقاه نوح من قومه.
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أحداً.. قال ابن جرير: يعني بـالديَّار من يدور في الأرض فيذهب ويجيء فيها، وهو فَيْعال من الدوران.
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} عن طريق الحق.. وهو تعليل لسؤاله أن لا يترك الله على الأرض أحدا من الكافرين.
{وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا} والفاجر: المتصف بالفجور، وهو العمل الشديد الفساد.
{كَفَّارًا} مبالغة في الموصوف بالكفر، أي إلا من يجمع بين سوء الفعل وسوء الاعتقاد، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42].
قال أبو السعود: أي: إلا من سيفجر ويكفر، فوصفهم بما يصيرون إليه، وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن، منكر، وإنما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم بعد ما جربهم، واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنة.
وقال بعضهم: ملَّ نوح عليه السلام من دعوة قومه وضجر، واستولى عليه الغضب، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم، وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة، وتتربى بهيئاتها المظلمة، لا تقبل إلا نفساً مثلها، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه ونسخه.
قال ابن العربي: "دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالدعاء: عتبة وشيبة وأصحابهما؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم".
قال الشنقيطي –رحمه الله-: "في هذه نص على أن نبي الله نوحا طلب من الله إهلاك من على الأرض جميعا مع أن عادة الرسل الصبر على أممهم، وفيه إخبار نبي الله نوح عمن سيولد من بعد وأنهم لم يلدوا إلا فاجرا كفارا فكيف دعا على قومه هذا الدعاء وكيف حكم على المواليد فيما بعد؟
والقرآن الكريم بين هذين الأمرين:
أما الأول: فإنه لم يدع عليهم هذا الدعاء إلا بعد أن تحدوه ويئس منهم أما تحديهم ففي قولهم: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32].
وقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:9-10].. {وَازْدُجِرَ} وانتهروه متوعدين إياه بأنواع الأذى, إن لم ينته عن دعوته.
وأما يأسه منهم فلقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36].
وأما إخباره عمن سيولد بأنه لن يولد لهم إلا فاجر كفار فهو من مفهوم الآية المذكورة آنفا لأنه إذا لم يؤمن من قومه إلا من قد آمن فسواء في الحاضر أو المستقبل.
وكذلك بدليل الاستقراء -وهو دليل معتبر شرعا وعقلا- وهو أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن معه إلا قليل كانوا هم ومن معهم غيرهم حمل سفينة فقط، فكان دليلا على قومه أنهم فتنوا بالمال ولم يؤمنوا له وهو دليل نبي الله موسى عليه السلام أيضا على قومه.
كما قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88]
فأخبر نبي الله موسى عن قومه أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وذلك من استقراء حالهم في مصر لما أراهم الآية الكبرى: {فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:21-24].
وبعد أن ابتلاهم الله بما قص علينا في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133].
وقوله تعالى بعدها: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:134-135].
فمن كانت هذه حالته وموسى يعاين ذلك منهم لا شك أنه يحكم عليهم أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
وكذلك كان دليل الاستقراء لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قومه استدل به على عكس الأقوام الآخرين حينما رجع من الطائف وفعلت معه ثقيف ما فعلت فأدموا قدميه وجاءه جبريل ومعه ملك الجبال واستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين فقال: (لا اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله) وذلك أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علم باستقراء حالهم أنهم لا يعلمون فهم يمتنعون عن الإيمان لقلة تعلمهم وأنهم في حاجة إلى التعليم.
فإذا علموا تعلموا، وأن طبيعتهم قابلة للتعليم لا أنهم كغيرهم في إصرارهم لأنه شاهد من كبارهم إذا عرض عليهم القرآن وخوطبوا بخطاب العقل ووعوا ما يخاطبون به وسلموا من العصبية والنوازع الأخرى فإنهم يستجيبون حالا كما حدث لعمر وغيره -رضي الله عنهم- إلا من أعلمه الله بحاله مثل الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} إلى قوله {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} إلى قوله {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:11-26]، فعلم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حاله وماله ولذا فقد دعا عليه يوم بدر.
ومثله أبو لهب لما تبين حاله بقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:3-4]
فلكون العرب أهل فطرة ولكون الإسلام دين الفطرة أيضا كانت الاستجابة إليه أقرب.
وانظر مدة مكثه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من البعثة إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ثلاثا وعشرين سنة كم عدد من أسلم فيها بينما نوح عليه السلام يمكث ألف سنة إلا خمسين عاما فلم يؤمن معه إلا القليل.
ولذا كان قول نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}، كان بدليل الاستقراء من قومه والعلم عند الله تعالى.[أضواء البيان]
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} وكانا مؤمنين {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} قال ابن جرير: أي: لمن دخل مسجدي ومصلاي، مصلياً مؤمناً بواجب فرضك عليه. وقيل: بيتي منزلي {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} عامة إلى يوم القيامة {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} الكافرين {إِلَّا تَبَارًا} هلاكاً وخساراً.
فهو تخصيص للظالمين من قومه بسؤال استئصالهم بعد أن شملهم وغيرهم بعموم قوله: {لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] حرصا على سلامة المجتمع الإنساني من شوائب المفاسد وتطهيره من العناصر الخبيثة.
وجعل الدعاء لنفسه ووالديه خاتمة مناجاته فابتدأ بنفسه ثم بأقرب الناس به وهما والداه، ثم عمم أهله وذويه المؤمنين فدخل أولاده وبنوه والمؤمنات من أزواجهم وعبر عنهم بمن دخل بيته كناية عن سكناهم معه، فالمراد بقوله: {دَخَلَ بَيْتِيَ} دخول مخصوص وهو الدخول المتكرر الملازم. ومنه سميت بطانة المرء دخيلته ودخلته ثم عمم المؤمنين والمؤمنات، ثم عاد بالدعاء على الكفرة بأن يحرمهم الله النجاح وهو على حد قوله المتقدم {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24].
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: