استقامة القلب بين مشاهدة المِنّة وشهود التقصير
«اللائق بمن خبر تقلّبات الحياة أن لا يشمت بأحد؛ فما منا إلا وشيطانه واقف على باب نزواته، يجرّب مفاتيحه، يوشك أن يجدها لولا ستر الله».
معنيان جليلان من معاني السلوك، من وعاهما، وجعلهما نصب عينيه، وألقى إليهما سمعه وقلبه؛ نال من الخير أوفره، وسلك في هذا الباب طريقًا مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا اضطراب، وهما:
ـ أن لا يفخر العبدُ بما لا يأمن أن يُسلَب منه.
ـ وأن لا يعيب ولا يسخر مما لا يأمن أن يُبتلَى به.
وهذه – والله – قاعدة من أجلّ قواعد السير إلى الله، ومفتاح التزكية لمن أرادها، من وُفِّق إليها؛ اختصر على نفسه طريق السير وطول المجاهدة، وقطع المنازل بقلبٍ خفيف، وقفز في سماء الإيمان والهدى قفزاتٍ عالية.
فحقيق بالمؤمن أن يعيش بين خوفٍ ورجاء وافتقار:
ـ خوفٍ من عقوبة السلب.
ـ ورجاءٍ في رحمة الله.
ـ وافتقارٍ دائمٍ إلى مولاه، يسأله أن يُديم عليه لطفه، ويكلؤه بستره، ويغمره بفضله، فلا يوكله إلى نفسه طرفة عين.
والسلب ليس فقد المال ولا ذهاب الجاه، ولكن أعظمه وأشدّه: أن يُسلَب العبد ما أُعطيه من النعم الدينية والمقامات الإيمانية؛ كنعمة الهداية وصلاح القلب، ونعيم الأنس بالله وحلاوة الافتقار والدعاء والمناجاة، وكثرة الذكر وشرف حفظ القرآن، وحب العلم وانشراح الصدر له، ولذة قيام الليل، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام وصلاح الذرية، وحب الصدقة، وسائر المنح التي يتفضّل الله بها على من شاء من عباده.
وغالب أسباب هذا السلب أمران:
أولهما: التقصير في شكر النعمة، والتفريط في آدابها.
وثانيهما: احتقارُ الخلق وازدراءُ من لم يُفتح له بما فُتح لك به.
فإذا أيقن العبد أن ما بين يديه من الهدى والخير محضُ فضلٍ من الله، ومِنّةٌ خالصة لم يسبق لها استحقاق، ولا تقدّم لها عمل، ولا مهَّد لها استئذان؛ لان قلبه للشكر، وسلِم صدره من الغرور، وتأدّب مع عباد الله، فلم يحتقر محرومًا، ولم يزدرِ مبتلًى، وأصبح يسير بين شهود نعمة الله عليه، واستحضار تقصيره في حق مولاه.
وكلما تعمّق هذا المعنى في قلب العبد: أن يرى الفضل كلَّه لله، ويشهد الذنب من نفسه، ويحتقرها بين يدي ربّه؛ كان على هُدىً ونورٍ من ربّه، ومشى سويًّا على صراطٍ مستقيم.
ومن أراد الله به خيرًا فتح له هذا الباب، ونبّهه إلى هذه الحقائق، وبصّره بهذه الأسرار؛ فبمثلها تُختصر المسافات، وتُطوى المراحل في معارج العبودية.
وكذلك على سَنَنِ هذا الأصل: لا تعِب ولا تحتقر ما لا تأمن أن يُلبسك الله إياه، ولا خلقًا سيئًا لا تدري لعلّك تُفتن به، ولا معصيةً وقع غيرك فيها، فما بينك وبينه إلا ستر الله ولطفه، ولو رُفع هذا الستر عنك لحظةً واحدة؛ لتخبّطت في أودية الهوى، وتردّيت في مزالق الانحراف.
ولهذا بقيت كلمةٌ قرأتها قديمًا لشيخٍ فاضل تعمل عملها في قلبي، لا تبلى مع الأيام، ولا يفتر أثرها، إذ قال:
«اللائق بمن خبر تقلّبات الحياة أن لا يشمت بأحد؛ فما منا إلا وشيطانه واقف على باب نزواته، يجرّب مفاتيحه، يوشك أن يجدها لولا ستر الله».
______________________________________
الكاتب: طلال الحسّان
- التصنيف: