مع سورة المدثر

منذ 3 ساعات

تسمى في كتب التفسير «سورة المدثر» وأريد بالمدثر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موصوفا بالحالة التي نُودِيَ بها، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها.

{بسم الله الرحمن الرحيم }

 

تسمى في كتب التفسير «سورة المدثر» وأريد بالمدثر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موصوفا بالحالة التي نُودِيَ بها، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها.

وَإِمَّا تَسْمِيَةٌ بِاللَّفْظِ الذي وقع فيها، ونظيره في تسمية «سورة المزمل»، ومثله في «سورة الْمُجَادَلَةِ» من احتمال فتح الدال أو كسرها.

قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة {{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}} [العلق:1] وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي "أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال {{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}} إلى {{مَا لَمْ يَعْلَمْ}} {} [العلق:1-5] ثم قالت: وفتر الوحي". فلم تذكر نزول وحي بعد آيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}.

وقيل أن فترة الوحي دامت أربعين يوما على الأصح.

وروى البخاري: عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}} قُلْتُ يَقُولُونَ {{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}} .

فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ فَقَالَ جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: « (جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا [قال النووي: صب الماء لتسكين الفزع] قَالَ فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، قَالَ فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}» .

ورواه مسلم فقال: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَهِيَ الْأَوْثَانُ قَالَ ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ» .

وفي مسلم من طريق آخر عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «(ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي) ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: (فَجُئِثْتُ [جئث الرجل فهو مجئوث إذا فزع] مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ) قَالَ: وقَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَالرُّجْزُ الْأَوْثَانُ قَالَ ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدُ وَتَتَابَعَ» .

قال ابن كثير: هذا لفظ البخاري وهذا السياق هو المحفوظ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا، لقوله: (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)، وهو جبريل حين أتاه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد هذا. ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة، كما قال الإمام أحمد:

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:2]- قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: "الرُّجْزُ: الْأَوْثَانُ - ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدُ، وَتَتَابَعَ " [صحيح على شرط الشيخين]

وروى الطبراني في المعجم الكبير: عن ابن أبي مُلَيْكة يقول: سمعت ابن عباس يقول: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا. قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر. وقال بعضهم ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن. وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر. وقال بعضهم ليس بشاعر. وقال بعضهم: بل سحر يُؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر. فبلغ ذلك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحزنَ وقَنعَ رأسه، وتَدَثَّر، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: "وفيه إبراهيم بن يزيد الخوري وهو ضعيف".]

وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة.

فيظهر أن سورة المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة، وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته.

ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع.

 

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نودي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِوَصْفِهِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ تَلَبَّسَ بِهَا حِينَ نُزُولِ السُّورَةِ، وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال: "دثروني دثروني، أو قال زملوني، فدثرته فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}.

وفي هذا النداء تكرمة وتلطف بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .

والمدثر: المتلفِّف بثيابه لنوم أو استدفاء، من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار. والشعار الثوب الذي يلي الجسد. وفي الحديث: (الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ) [البخاري ومسلم].

وأصله: المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق.

وقيل هو مجاز على معنى: المدثر بدثار النبوة والرسالة، من قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم. ويقال: تلبس فلان بأمر كذا. فجعل النبوة كالدثار واللباس مجازاً.

قال الشهاب: إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة. وكذا يسمى حلّة. والتشبيه بالدثار في ظهورها، أو في الإحاطة. والأول أتم.

{قُمْ} وقيام المأمور به ليس مستعملا في حقيقته لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائما ولا مضطجعا ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه، وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإقبال والتهمم بالإنذار مجازا أو كناية.

{فَأَنْذِرْ} تعقيب إِفَادَةِ التَّحَفُّزِ والشروع في الأمر بإيقاع الإنذار.

أي: شمر عن ساق العزم، وأنذر الناس. وبهذا حصل الإرسال، كما حصل بالأول النبوة.

قال الشهاب: لم يقل {وَبَشِّرِ} لأنه كان في ابتداء النبوة، والإنذار هو الغالب، لأن البشارة لمن آمن، ولم يكن إذ ذاك. أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير.

والإنذار: إعلام بتخويف فهو أخص من مطلق الإعلام، وهو متعد لمفعولين المنذَر باسم المفعول والمنذِر به ولم يذكر هنا واحد منهما.

أما المنذر فقد بينت آيات أخر أنه قد يكون للكافرين كما في قوله تعالى {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [مريم:97] تخويفا لهم.

وقد يكون للمؤمنين لأنهم المنتفعون به كما في قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11].

وقد يكون للجميع أي لعامة الناس كما في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس:2].

وأما المنذِر به فهو ما يكون يوم القيامة.

وقد قدر الأمرين هنا ابن جرير بقوله فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره.

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} فعظِّم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك، دون غيره من الآلهة والأنداد.. والمعنى: أن لا يفتر عن الإعلان بتعظيم الله وتوحيده في كل زمان وكل حال وهذا من الإيجاز.

وانتصب {ربك} على المفعولية لفعل {كبر} قدم على عامله إفادة الاختصاص، أي لا تكبر غيره، وهو قصر إفراد، أي دون الأصنام.

وقال القاشاني: أي: إن كنت تكبر شيئاً وتعظِّم قدره، فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينك غيره، ويصغر في قلبك كل ما سواه، بمشاهدة كبريائه.

قال في «التحرير والتنوير»: كبره في اعتقادك: وكبره بقولك تسبيحا وتعليما. ويشمل هذا المعنى أن يقول «الله أكبر» لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير، أي: أجل وأنزه من كل جليل، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحا للصلاة.

وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] فإنه إيماء إلى شرع الطهارة، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة، ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم أن قال: وذلك قبل أن تفرض الصلاة. فالظاهر أن الله فرض عليه الصلاة عقب هذه السورة وهي غير الصلوات الخمس فقد ثبت أنه صلى في المسجد الحرام.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} بالماء من الأنجاس. قال ابن زيد، كان المشركون لا يتطهرون، فأمره أن يتطهر ويطهِّر ثيابه.. وتقديم {ثيابك} على فعل «طهر» للاهتمام به في الأمر بالتطهير.

وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات،، وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]. والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معا، وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلا في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.

{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرِجز كالرجس والسين والزاي يتبادلان، لأنهما من حروف الصفير. والرجس: اسم للقبيح المستقذر، كنِّي به عن عبادة الأوثان خاصة، لقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج:30]، أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق، والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسَّفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز.

وأمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك، وهو بريء منه، إما أمر لغيره تعريضاً، أو المراد الدوام على هجره.

قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]

وقوله: {وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142].

{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} المن: تذكير المنعِم المنعَم عليه بإنعامه. والاستكثار: عد الشيء كثيرا، أي لا تستعظم ما تعطيه.

** وقيل: لا تعط عطية تلتمس بها أكثر أو أفضل منها، كما قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص:39]، أي: فأعط أو أمسك. وأصله أن من أعطى فقد منَّ، فسميت العطية بالمنّ على سبيل الاستعارة.

وجوّز القَفَّالُ أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العِوض كيف كان زائداً على العطاء. فسمي طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله.

وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففاً وكمالاً وعلوّ همة.

** وقيل: معنى الآية لا تعط عطاءً مستكثراً له، فإن مكارم الأخلاق استقلال العطاء، وإن كان كثيراً.

والمن في العطية كان من خلق أهل الشرك، فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز، نهيا يقتضي الأمر بالصدقة والإكثار منها بطريق الكناية، فكأنه قال: وتصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن، أي لا تعد ما عطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.

وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به، وقد كانت الصدقة من خلقه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ كان أجود الناس، وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق، فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ".

** وقال خصيف، عن مجاهد في قوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال تمنن في كلام العرب: تضعف.

** وقال الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره. وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير.

{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} على أذى المشركين.. أي: اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل.

فهو تثبيت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ما تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاق الدعوة.

وتقديم {لربك} على "اصبر" للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة

فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مبدأ رسالته، وهي من جوامع كلامه، أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته.

 

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} نفخ في الصور. وهو كهيئة القرن.

والناقور من النَّقر، بمعنى التصويت. وأصله القرع الذي هو سبب الصوت. ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به، أي: لما كان الصوت يحدث بالقرع تجوز به عنه، وأريد به النفخ لأنه من الصوت.

روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسَّمَّعُ مَتَى يُؤْمَرُ، فَيَنْفُخُ؟) فَقَالَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: (قُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا). [حسن لغيره]

{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} شديد.

{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} غير هيّن، لما يحيق بهم من صنوف الردى.

وفي قوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ} تأكيد يمنع أن يكون عسيراً عليهم من وجه دون وجه، ويشعر بيسره على المؤمنين. ففيه جمع بين وعيد الكافرين وبشارة المؤمنين.

وقال الزمخشري إن غير يسير كان يكفي عنها يوم عسير إلا أنه ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره كعسر الدنيا، وأن فيه زيادة وعيد للكافرين، ونوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم.

كما قال تعالى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8]. فبين تعالى أن اليوم عسير غير يسير على الكافرين، بينما يكون على المؤمنين يسيرا مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله إلا أن الله ييسره على المؤمنين كما بين تعالى هذه الصورة بجانبها في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} - إلى قوله -: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:87-90].

وقد روي عن زُرَارة بن أوفى -قاضي البصرة-: أنه صلى بهم الصبح، فقرأ هذه السورة، فلما وصل إلى قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} شَهِقَ شهقة، ثم خر ميتا، رحمه الله تعالى.

 

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} لا مال له ولا ولد ثم رزقه الله.

كان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته، وهي: كثرة الولد وسعة المال، ومجده ومجد أبيه من قبله، وكان مرجع قريش في أمورهم لأنه كان أسن من أبي جهل وأبي سفيان، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به.

وجاء هذا الوصف بعد فعل {خَلَقْتُ} ليصرف هذا الوصف عما كان مرادا به فينصرف إلى ما يصلح لأن يقارن فعل {خَلَقْتُ} أي أوجدته وحيدا عن المال والبنين والبسطة، فيغير عن غرض المدح والثناء الذي كانوا يخصونه به، إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حال كل مخلوق فتكون من قبيل قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78].

{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بالنماء.

وكان الوليد من أوسع قريش ثراء. وعن ابن عباس: كان مال الوليد بين مكة والطائف من الإبل والغنم والعبيد والجواري والجنان وكانت غلة ماله ألف دينار في السنة.

{وَبَنِينَ شُهُودًا} رجالاً يشهدون معه المحافل والمجامع، أو حضوراً معه يأنس بهم، لا يحوجه سفرهم وركوبهم الأخطار، لاستغنائهم عن التكسب والمدح.

وقال مجاهد: "لا يغيبون"، أي: حضورا عنده لا يسافرون في التجارات، بل مَواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم، يتمتع بهم ويتَمَلَّى بهم.

وكانوا فيما ذُكر ثلاثة عشر. وقيل: كانوا عشرة. وهذا أبلغ في النعمة وهو إقامتهم عنده.

{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} بسطت له في العيش والجاه والرياسة.

وأصل المهد: تسوية الأرض وإزالة ما يقض جنب المضطجع عليها، والتمهيد هنا مستعار لتيسير أموره ونفاذ كلمته في قومه بحيث لا يعسر عليه مطلب ولا يستعصي عليه أمر.

{ثُمَّ} للتراخي الرتبي {يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي وأعظم من ذلك أنه يطمع في الزيادة من المال والولد والجاه. أو من النعيم الأخرويّ. وهذا أظهر لما يأتي بعده

والطمع: طلب الشيء العظيم، وجعل متعلق طمعه زيادة مما جعل الله له لأنهم لم يكونوا يسندون الرزق إلى الأصنام، أو لأنه طمع في زيادة النعمة غير متذكر أنها من عند الله، فيكون إسناد الزيادة إلى ضمير الجلالة إدماجا بتذكيره بأن ما طمع فيه هو من عند الذي كفر هو بنعمته فأشرك به غيره في العبادة. ولهذه النكتة عدل عن أن يقال: "يطمع في الزيادة"، أو "يطمع أن يُزاد".

{كَلَّا} أي: لا يكون ما يأمل ويرجو، لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون، لا هو.

والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن الوليد سيقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره من المعاندين فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحسبون حياة بعد هذه، كما حكى الله من قول موسى عليه السلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].

وفي هذا الإبطال والردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].

ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله: "من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها".

{إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} أي: معانداً للحجج المنزلة والمرسلة.

{سَأُرْهِقُهُ} الإرهاق: الإتعاب وتحميل ما لا يطاق، قال تعالى: {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73].

{صَعُودًا} أي: سأغشيه عَقبة شاقة المصعد. وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق، قاله الزمخشري.

قال الشهاب: ومعنى كونه مثلاً، أنه شبه ما يسوقه الله له من المصائب، بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاهقة، وأطلق لفظه عليه. فهو استعارة تمثيلية.

وجملة {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} معترضة بين {إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} وبين {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}، قصد بهذا الاعتراض: تعجيل الوعيد له مساءة له، وتعجيل المسرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وأيضا قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً}، أي سينقلب حاله من حال راحة وتنعم إلى حالة سوأى في الدنيا ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة، وكل ذلك إرهاق له.

قيل: إنه طال به النزع فكانت تتصاعد نفسه ثم لا يموت، وقد جعل له من عذاب النار ما أسفر عنه عذاب الدنيا.

ثم علل إرهاقه ذلك بقوله التالي، وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف:

 

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

{إِنَّهُ فَكَّرَ} أعمل فكره وكرر نظر رأيه ليبتكر عذرا يموهه ويروجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

{وَقَدَّرَ} في نفسه ما يقوله وهيأه.

ومثال ذلك أن يقول في نفسه، نقول: محمد مجنون، ثم يقول: المجنون يخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك، ثم يقول في نفسه: هو شاعر، فيقول في نفسه: لقد عرفت الشعر وسمعت كلام الشعراء، ثم يقول في نفسه: كاهن، فيقول في نفسه: ما كلامه بزمزمة [صوت خفي لا يفهم] كاهن ولا بسجعه، ثم يقول في نفسه: نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال للناس: نقول إنه ساحر.

{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} دعاء عليه بأن يقتله قاتل.. أي: لعن كيف قدر ذلك الافتراء الباطل، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه.

فهو دعاء عليه بتعجيل موته لأن حياته حياة سيئة. وهذا الدعاء مستعمل في التعجيب مِنْ مَالِهِ وَالرِّثَاءِ لَهُ كقوله: {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} [التوبة30] وقولهم: عَدِمْتُكَ، وَثَكِلَتْهُ أُمُّه، وقد يستعمل مثله في التعجيب من حسن الحال يقال: قاتله الله ما أشجعه.

والمقام هنا متعين للكناية عن سوء حاله لأن ما قدره ليس مما يغتبط ذوو الألباب على إصابته إذ هو قد ناقض قوله ابتداء إذ قال: ما هو بعقد السحرة ولا نفثهم، وبعد أن فكر قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} فناقض نفسه.

{ثُمَّ} للدلالة على الثانية أبلغ في التعجب من الأولى للعطف لأن العطف بـ {ثم} يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها في الغرض المسوق له الكلام.. فكأنه قيل: قتل بنوع ما من القتل، لا بل قتل بأشده وأشده؛ لذا ساغ العطف فيه، مع أنه تأكيد يزيد الكلام قوة، وهذا كقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4-5].

{قُتِلَ كَيْفَ} استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإنكار {قَدَّرَ} تكرير للمبالغة في التعجب منه، وقد اعتيد فيمن عجب غاية التعجب أنه يكثر من التعجب ويكرره.

وقيل: تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله.

{ثُمَّ نَظَرَ} في ذلك المقدّر، أي: تروّى فيه. قال الرازيّ: وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه. فالنظر الأول للاستخراج، واللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط.

{ثُمَّ عَبَسَ} قطّب وجهه كبراً وتهيؤاً لقذف تلك الكبيرة.

{وَبَسَرَ} كلح وجهه. شأن اللئيم في مراوغته ومخاتلته، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه.

ومنه قول توبة بن الحُمَير الشاعر:

وَقَد رَابَني منها صُدُودٌ رَأيتُه ... وَإعرَاضُها عَن حاجَتي وبُسُورُها

{ثُمَّ أَدْبَرَ} عن الحق، كقوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} حكاية عن فرعون [النازعات:22].

{وَاسْتَكْبَرَ} عن الإيمان به.. أي: صُرف عن الحق، ورجع القهقرى، مستكبرا عن الانقياد للقرآن.

وقوله: {ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} عطف على {وقَدَّرَ} وهي ارتقاء متوال فيما اقتضى التعجيب من حاله والإنكار عليه. فالتراخي تراخي رتبة لا تراخي زمن لأن نظره وعبوسه وبسره وإدباره واستكباره مقارنة لتفكيره وتقديره.

 {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويُتعلم.. أي: يأثره عن غيره، ومروي عن الأقدمين ويحكيه عنهم.

يقول هذا ليدفع به اعتراضا يرد عليه أن أقوال السحرة وأعمالهم ليست مماثلة للقرآن، ولا لأحوال الرسول فزعم أنه أقوال سحرية غير مألوفة.

{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} فالسحر يكون أقوالا وأفعالا فهذا من السحر القولي. وهذه الجملة بمنزلة النتيجة لما تقدم، لأن مقصوده من ذلك كله أن القرآن ليس وحيا من الله.

واتفق المفسرون أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش، لعنه الله. وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأياً واحداً ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضاً، ويردّ قولكم بعضه بعضاً. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس! فقل، وأقم لنا رأياً نقل به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن!. قال: لا، واللهِ ما هو بكاهن. لقد رأينا الكهّان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنَقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله: رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر! قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السُّحَّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله ! إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعِذق [الغصن من النخلة]، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه، لأن تقولوا: هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فتفرقّوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم. لا يمرّ بهم أحد إلا حذَّروه إياه، وذكروا لهم أمره. فأنزل الله تعالى في الوليد ابن المغيرة، وفي ذلك، من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} الآيات.

وروى العوفي، عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة. فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا: والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه. فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألستُ أكثرهم مالا وولدا. فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه. فقال الوليد: أقد تحدث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة [كنيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-]، وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله على رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}.

[وابن أبي كبشة هو جد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قبل أمه قيلة ابنة أبي قيلة واسم أبي قيلة «وجز بن غالب » من خزاعة وهو أول من عبد الشعرى العبور وكان: يقول إن الشعرى تقطع السماء عرضا ولا أرى في السماء شمسا ولا قمرا ولا نجما يقطع السماء عرضا غيرها

وكانت العرب تظن أن أحدا لا يعلم شيئا إلا بعرق ينزعه شبهه، فلما خالف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دين قريش قالت قريش نزعه أبو كبشة لأن أبا كبشة خالف الناس في عبادة الشعرى فكانوا ينسبونه إليه لذلك، وكان «وجز» سيدا في خزاعة لم ينسبوه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعييرا له ولكن أرادوا أن يشبهوه به في الخلاف لما كان الناس عليه]

وقال ابن جرير: عن عكرمة: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام، فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: يعطونكه، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. وقال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: إن هذا سحر يأثره عن غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}.

وعن قتادة: قال الوليد: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة [نضارة]، وإنه ليعلوا وما يُعلى، وما أشك أنه سحر. فأنزل الله الآيات، رواه ابن جرير.

وقد روى مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة. وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه أسلم منهم ثلاثة: خالد وعمار وهشام.

قال ابن حجر في «الإصابة»: والصواب: خالد وهشام والوليد. فأما عمارة، فإنه مات كافراً، لأن قريشاً بعثوه للنجاشيّ، فجرت له معه قصة، فأصيب بعقله. وقد ثبت أنه ممن دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليهم من قريش لمَّا وضع عقبة بن أبي معيط سلى الجزور على ظهره، وهو يصلي.

 

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

{سَأُصْلِيهِ} والإصلاء: جعل الشيء صاليا، أي مباشرا حر النار.

ويطلق على الاحتراق بالنار كما قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] وقال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} [الليل:14-15]، وقال: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإحراق كقوله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء:30]. ومنه قوله هنا: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.

{سَقَرَ} جهنم.. أو علم لطبقة من جهنم، عن ابن عباس: أنه الطابق السادس من جهنم. قال ابن عطية: سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي. واقتصر عليه ابن عطية. وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسرون سقر بما يرادف جهنم.

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} استفهام لتهويل أمرها. ثم فسر ذلك بقوله:

{لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} قال الزمخشريّ: أي: لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد. أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة.

{لَوَّاحَةٌ} محرقة للجلود، من لوحته الشمس، إذا سوّدت ظاهره وأطرافه.

{لِلْبَشَرِ} جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. أو اسم جنس بمعنى الناس.

وجوّز أن يكون المعنى: لائحة للناس، من لاح بمعنى ظهر، والبَشَر بمعنى الناس.

{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} من مقدمي الخزنة المتولين أمرها، والتسلط على أهلها، فهم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم.

وفيه إشارة إلى أن زبانية العذاب الأخرويّ، تفوق زبانية الجبابرة في الدنيا أضعافاً مضاعفة، تنبيهاً على هول العذاب، وكبر مكانه.

 

وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ} خزنتها {إِلَّا مَلَائِكَةً} وهم أقوى الخلق بأساً، وأشدهم غضباً لله، ليباينوا جنس المعذبين، فلا يستروحون لهم.

أي: زبانية غلاظا شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون. وذلك ردا على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟

روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد إن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم [الجماعة الكثيرة، ويقال: الدهماء] أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم? فقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً}، أي ما جعلناهم رجالا فيأخذ كل رجل رجلا، فمن ذا يغلب الملائكة.

وقيل: إن أبا الأشدين -واسمه: كَلَدَة بن أسيد بن خلف-قال: "يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر"، إعجابا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه.

قال السهيلي: وهو الذي دعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى مصارعته وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرارا، فلم يؤمن. قال: وقد نَسَب ابنُ إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. [الروض الأنُف للسهيلي]

{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منَّا للناس، فمن شأنها أن يفتتن بها الكافرون، فيجعلوها موضع البحث والهزء. إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلا فساد التأويل، وتلك العدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد.

قال الجبائي: المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوّي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء.

وقال الكعبيّ: المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوّض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعيّن إلى علم الخالق سبحانه.. قال: وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به.

{لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الاستيقان: قوة اليقين، فالسين والتاء فيه للمبالغة. والمعنى: ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصداقا لما في كتبهم.

والاستيقان من شانه أن يعقبه الإيمان إذا صادف عقلا بريئا من عوارض الكفر، كما وقع لعبد الله بن سلام، وقد لا يعقبه الإيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذين قال الله فيهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم.

{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} تصديقاً إلى تصديقهم بالله ورسوله.

{وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي لينتفي عنهم الريب فلا تعتريهم شبهة من بعد علمه لأنه إيقان عن دليل. وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين، فالمؤمنون علموا وعملوا، والذين أوتوا الكتاب علموا وعاندوا فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم.

والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العدة تمهيدا بالتعريض قبل التصريح، لأنه إذا قيل {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولا وأسد قولا.

{وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} والمرض في القلوب: هو النفاق أو الأرجح سوء النية في القرآن والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلا في المدينة بعد الهجرة والآية مكية.

{وَالْكَافِرُونَ} حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر.

قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟

قلت: معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة، والكافرون بمكة: "ماذا أراد الله بهذا مثلاً". وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون، كسائر الإخبارات بالغيوب. وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكّين، وبعضهم قاطعين بالكذب. انتهى.

{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} استفهام استنكاري، وقد كني بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك، لأنهم ينفون فائدته، وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحيا من عند الله.

وقال الرازيّ: إن قيل: لم سموه مثلاً؟ فالجواب: أنه لما كان هذا عدداً عجيباً، ظن القوم أنه ربما لم يكن مراداً لله منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلاً لشيء آخر، وتنبيهاً على مقصود آخر، لا جرم سموه مثلاً.

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} إضلاله لصرفه اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته آيات الله الناطقة بالحق.

{وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هدايته لصرف اختياره عند مشاهدته لتلك الآيات إلى جانب الهدى.

أي: من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام، ويتزلزل عند آخرين، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو: ما هذا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره، فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل.

أي: ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة ومن الفلاسفة اليونانيين. ومن تابعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية.

قال الزمخشريّ: أي: وما يعلم ما عليه كل جند من العدد الخاص، من كون بعضها على عقد كامل، وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده، من الحكمة إلا هو. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، كما لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات والأرضين وأمثالها. أو وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعزّ عليه الزيادة على عدد الخزنة المذكور، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها. انتهى.

وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما. عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه سأل جبريل عن البيت المعمور الذي في السماء السابعة فقال: (هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ).

وروى أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ. لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ عَلَى، أَوْ إِلَى، الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ) قَالَ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: "وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ " [حسن لغيره]

وقال محمد بن نصر المروزي في «كتاب الصلاة»: أخبرنا عباد بن منصور قال: سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال: سمعت رجلا من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (إن لله تعالى ملائكة تُرعَد فرائصهم من خيفته، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل، قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك). قال ابن كثير: وهذا إسناد لا بأس به.

وإضافة رب إلى ضمير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إضافة تشريف، وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام، فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك.

{وَمَا هِيَ} عدتهم المذكورة {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} عظة يرهبون منها عذاب النار، وهول أصحابها.

أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عونا على زيادة استحضار الموصوف، فغرض القرآن الذكرى، وقد اتخذه الضالون ومرضى القلوب لهوا وسخرية ومراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولم لم يكونوا عشرين أو مئات أو آلافا.

** قال في أضواء البيان: وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة.

- المسألة الأولى: جعل المثل المذكور أي جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان، فقد تساءل المستبعدون، واستسلم وأذعن المؤمنون، كما ذكر تعالى في صريح قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة:26].

ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، فهذه الآية من سورة البقرة مبينة تماما لآية "المدثر".

- المسألة الثانية: قوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم.

- المسألة الثالثة: أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله ازداد بهذا التصديق إيمانا وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق.

- المسألة الرابعة: بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى وهو أعلم بما رواه.

وفي هذه المسألة مثار نقاش «حكمة التشريع» وهذا أمر واسع ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات وتقدم المخترعات وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام فإنا نود أن نقول:

إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه، علمنا الحكمة أو لم نعلم لأن علمنا قاصر وفهمنا محدود، والعليم الحكيم الرؤوف الرحيم سبحانه لا يكلف عباده إلا بما فيه الحكمة.

ومجمل القول إن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة:

القسم الأول: حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة جاء: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، عن الفحشاء والمنكر وهذه حكمة جليلة، والزكاة جاء عنها أنها: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. وفي الصوم جاء فيه {لعلكم تتقون} [البقرة:183]. وفي الحج جاء فيه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]. فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية.

وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست، حفظ الدين، والعقل، والدم، والعرض والنسب، والمال. لقيام الحياة ووفرة الأمن وصيانة المجتمع وجعلت فيها حدود لحفظها وغير ذلك.

وقسم لم تظهر حكمته بهذا الظهور ولكنه لم يخل من حكمة كالطواف والسعي والركوع والسجود والوضوء والتيمم والغسل ونحو ذلك.

وقسم ابتلاء وامتحان أولا ولحكمة ثانيا، كتحويل القبلة كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143].

وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة:150].

والمسلم في كلتا الحالتين ظهرت له الحكمة أو لم تظهر وجب عليه الامتثال والانقياد، كما قال عمر عند استلامه للحجر: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقبلك ما قبلتك" فقبله امتثالا واقتداء.. بصرف النظر عن ما جاء من أن عليا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال له بلى يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبله، لأن عمر أقبل عليه ليقبله قبل أن يخبره علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام إذ خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار وكلها أعمال لم يعلم لها موسى -عليه السلام- حكمة فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها.

وهكذا نحن اليوم وفي كل يوم، وقد بين تعالى هذا الموقف بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].

وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز ويدفعهم إلى التسليم في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها والعلم عند الله تعالى.

 

كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

{كَلَّا} ردع لمن أنكر العدة أو سقر أو الآيات. أو إنكار لأن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون.

قال في «التحرير والتنوير»: {كلا} حرف ردع وإبطال. والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أو من متكلم وسامع، مثل قوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِي} [الشعراء:61-62] فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله. ومنه قوله تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} [مريم:79]، ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيل بالردع والتشويق إلى سماع ما بعده، وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالا لما قبله من قولهم: "ماذا أراد الله بهذا مثلا".

{وَالْقَمَرِ} واو القسم {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} ولَّى ذاهباً بطلوع الفجر {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أضاء وأشرق.

وهذه ثلاثة أيمان لزيادة التأكيد فإن التأكيد اللفظي إذا أكد بالتكرار يكرر ثلاث مرات غالبا، أقسم بمخلوق عظيم، وبحالين عظيمين من آثار قدرة الله تعالى.

ومناسبة القسم بـ {وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أن هذه الثلاثة تظهر بها أنوار في خلال الظلام، فناسبت حالي الهدي والضلال من قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ومن قوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} ففي هذا القسم تلويح إلى تمثيل حال الفريقين من الناس عند نزول القرآن بحال اختراق النور في الظلمة.

{إِنَّهَا} النار {لَإِحْدَى الْكُبَرِ} الأمور العظام، ومعنى {إحدى} أنها المتوحدة المتميزة من بين الكبر في العظم لا نظير لها، كما يقال: هو أحد الرجال لا يراد: أنه واحد منهم، بل يراد: أنه متوحد فيهم بارز ظاهر.

{نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} إنذاراً لهم، وكفى بها نذيرا، كأنه قيل: أعظم الكُبر إنذاراً.

{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ} التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال: لمن شاء منهم، أي من البشر.

{أَنْ يَتَقَدَّمَ} يسبق إلى الإيمان والطاعة لينتذر بها {أَوْ يَتَأَخَّرَ} يتأخر عنها ويولي ويردها، فَلَا يَرْعَوِي بِنِذَارَتِهَا.

كقوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:39]

ويجوز أن يقدر: لمن شاء أن يتقدم إليها، أي إلى سقر بالإقدام على الأعمال التي تقدمه إليها، أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها.

 

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)

{كُلُّ نَفْسٍ} استئناف بياني للسامع عقبى الاختيار.

{بِمَا كَسَبَتْ} والباء للمصاحبة لا للسببية.

{رَهِينَةٌ} أي كل إنسان رهن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك، فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم.

فهي مرهونة ومتعلقة ومحبوسة بعملها عند الله تعالى يوم القيامة.

والرهن: الوثاق والحبس، ومنه الرهن في الدين، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة، ومنه: فرسا رهان، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت من المحقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة، ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضمانا لئلا يبخس القوم بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن.

{إِلَّا} استثناء منقطع {أَصْحَابَ الْيَمِينِ} فإنهم فكوا رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق.

وأصحاب اليمين هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك. فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مكان القدس يوم الحشر لا يحيط بها وَصْفُنَا، وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك.

{فِي جَنَّاتٍ} هم في جنات لا يدرك وصفها.

{يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ} قال القاشاني: أي: يسأل بعضهم بعضاً عن حال المجرمين، لاطلاعهم عليها وهم في الغرفات وأولئك في الدركات.

{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} وأصل معنى سلكه أدخله يبن أجزاء شيء حقيقة، ومنه جاء سلك العقد، واستعير هنا للزج بهم، والمعنى: ما زج بكم في سقر؟.

إما سؤال على حقيقته فكل من أصحاب اليمين يشرف على المجرمين من أعالي الجنة فيسألهم عن سبب ولوجهم النار فيحصل جوابهم، وذلك إلهام من الله ليحمده أهل الجنة على ما أخذوه به من أسباب نجاتهم مما أصاب المجرمين ويفرحوا بذلك.

وأيضا كان الاستفهام مستعملا في التنديم، أو التوبيخ.

وإما أن يكون سؤالا موجها من بعض أصحاب اليمين إلى ناس كانوا يظنونهم من أهل الجنة فرأوهم في النار من المنافقين أو المرتدين بعد موت أصحابهم، فيكون المراد بأصحاب اليمين بعضهم وبالمجرمين بعضهم، وهذا مثل ما في قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ} [الصافات: 27-28]

وأجاب المجرمون بذكر أسباب الزج بهم في النار لأنهم ما ظنوا إلا ظاهر الاستفهام، فذكروا أربعة أسباب هي أصول الخطايا:

{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} لم يكونوا من أهل الصلاة فحرموا أنفسهم من التقرب إلى الله.

{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} لم يكونوا من المطعمين المساكين وذلك اعتداء على ضعفاء الناس بمنعهم حقهم في المال.

{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} كانوا يخوضون خوض المعهود الذي لا يعدو عن تأييد الشرك وأذى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنين.

أو نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة: "كلما غوي غاو غوينا معه".

{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم.

وهذا كناية عن عدم إيمانهم، سلكوا بها طريق الإطناب المناسب لمقام التحسر والتلهف على ما فات، فكأنهم قالوا لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل.

وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:2-4].

** وفي الأفعال المضارعة في قوله {لم نك، ونخوض، ونكذب} إيذان بأن ذلك ديدنهم ومتجدد منهم طول حياتهم.

** وفي الآية إشارة إلى أن المسلم الذي أضاع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مستحق حظا من سقر على مقدار إضاعته وعلى ما أراد الله من معادلة حسناته وسيئاته، وظواهره وسرائره، وقبل الشفاعة وبعدها.

وقد حرم الله هؤلاء المجرمين الكافرين أن تنفعهم الشفاعة فعسى أن تنفع الشفاعة المؤمنين على أقدارهم.

** وجمعوا بين الكفر بتكذيبهم بيوم الدين وبين الفروع وهي ترك الصلاة والزكاة المعبر عنها بإطعام المسكين إلى آخره فهذه الآية من الأدلة على أن الكافر مطالب بفروع الشرع مع أصوله.

كما في قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:7]

{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} الموت، فرأينا به ما كنا ننكره عياناً.

كقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]

وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ وَاللهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللهِ مَا يُفْعَلُ بِي) [أحمد بسند صحيح]

{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} من نبيّ أو ملك، لو قدر على سبيل فرض المحال، لأنهم غير قابلين لها. لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلا فأما من وافى الله كافرا يوم القيامة فإنه له النار لا محالة، خالدا فيها.

قال ابن جرير: أي: فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد، فتنفعهم شفاعتهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى ذِكره، مشفِّع بعض خلقه في بعض.

قال في أضواء البيان: فيه أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين كما أن فيها إثبات الشفاعة للشافعين، ومفهوم كونها لا تنفع الكفار أنها تنفع غيرهم.

وقد جاءت نصوص في الشفاعة لمن ارتضاهم الله، وقد دلت نصوص على كلا الأمرين:

- فمن عدم الشفاعة للكفار قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].

وقوله: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:99-100] ونحو ذلك من الآيات.

- وفي القسم الثاني قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].

وكذلك الشفيع لا يشفع إلا من أذن له ولا يشفعون إلا فيمن أذنوا فيه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. وقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [طه:109].

وخلاصة القول فيها أنها لا تكون إلا بإذن من الله الماذون له فيها، وقد ثبت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشفاعة العظمى، وهي «المقام المحمود» وعدة شفاعات بعدها، منها ما اختص به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالشفاعة العظمى ودخول الجنة والشفاعة في غير مسلم وهو عمه أبو طالب للتخفيف عنه، ومنها ما يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصلحاء والله تعالى أعلم.

 

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين، لا يستمعون لها، فيتعظوا ويعتبروا.

وجيء باسم التذكرة الظاهر دون أن يؤتى بضميره نحو: أن يقال: "عنها معرضين"، لئلا يختص الإنكار والتعجيب بإعراضهم عن تذكرة الإنذار بسقر، بل المقصود التعميم لإعراضهم عن كل تذكرة وأعظمها تذكرة القرآن كما هو المناسب للإعراض قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27].

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} كأنهم في الإعراض عن الذكرى، وبلادة قلوبهم، حمر شديدة النفار.

والسين والتاء في {مُسْتَنْفِرَة} للمبالغة في الوصف مثل: استكمل واستجاب واستعجب واستنبط، أي نافرة نفارا قويا فهي تعدو بأقصى سرعة العدو.

{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أسد، أو عصبة قنص من الرماة.

عن يوسف بن مهران عن ابن عباس: الأسد، بالعربية، ويقال له بالحبشية: قسورة، وبالفارسية: شير، وبالنبطية: أويا.

{بَلْ} إضراب انتقالي لذكر حالة أخرى من أحوال عنادهم.

{يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} ينزل عليه كتاب كما أنزل على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونحوه آية:

{وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ} [الأنعام:124]

{وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء:93]

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7] الآية.

والمنشرة: المفتوحة المقروءة، أي لا نكتفي بصحيفة مطوية لا نعلم ما كتب فيها و {منشرة} مبالغة في منشورة. والمبالغة واردة على ما يقتضيه فعل "نشر" المجرد من كون الكتاب مفتوحا واضحا من الصحف المتعارفة. وفي حديث الرجم: "فنشروا التوراة".

{كَلَّا} إبطال لظاهر كلامهم ومرادهم منه وردع عن ذلك، أي: لا يكون مرادهم، ولا يتبع الحق أهوائهم. أو ليس إرادتهم تلك للرغبة في الإيمان، فقد جاءهم ما يكفيهم عن اقتراح غيره، وإنما هم مردة الداء، ولذا قال:

{بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} لا يؤمنون بالبعث والجزاء، ولا يخشون العقاب، لإيثارهم العاجلة. فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، والإباء عن الإيمان بتنزيله.

{كَلَّا} ردع ثان مؤكد للردع الذي قبله عن إعراضهم {إِنَّهُ} القرآن {تَذْكِرَةٌ}  التنكير للتعظيم.

{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} اتعظ وعمل بما فيه من أمر الله ونهيه. ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل:19].

وهذا تعريض بالترغيب في التذكر، أي التذكر طوع مشيئتكم فإن شئتم فتذكروا.

{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ذكرهم واتعاظهم، لأنه لا حول لهم ولا قوة إلا به سبحانه. وهذا كقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ} [الإنسان:30].

وأفاد أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاء في الدنيا والآخرة، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد.

وهذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله، والأدلة التي اقتضت المؤاخذة على الضلال، وتأويلها الأكبر في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78-79]

وفيه ترويح لقلبه صلوات الله وسلامه عليه، مما كان يخامره من إعراضهم، ويحرص عليه من إيمانهم.

{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} حَقيقٌ بأن يتقى عقابه، ويؤمن به ويطاع.

جملة واقعة في موقع التعليل لمضمون جملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} تقوية للتعريض بالترغيب في التذكر، والتذكر يفضي إلى التقوى.

فالمعنى: فعليكم بالتذكر واتقوا الله تعالى لأن الله هو أهل التقوى.

{وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} حقيق بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه.. لأن المغفرة من خصائصه وأنه حقيق بأن يغفر لفرط رحمته وسعة كرمه وإحسانه.

وهذا تعريض بالتحريض للمشركين أن يقلعوا عن كفرهم بأن الله يغفر لهم ما أسلفوه قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [لأنفال: 38]

وبالتحريض للعصاة أن يقلعوا عن الذنوب قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 23

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً