مرور المرأة أمام المصلي

منذ 17 ساعة

إذا مرت امرأة بين يدي المصلي قريبا منه، أو بينه وبين سترته، قطعت صلاته، على الراجح، إماما كان أو مأموما

{بسم الله الرحمن الرحيم }

 

** إذا مرت امرأة بين يدي المصلي قريبا منه، أو بينه وبين سترته، قطعت صلاته، على الراجح، إماما كان أو مأموما؛ لما روى مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ). قُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنَ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا سَأَلْتَنِي، فَقَالَ: (الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ)» .

وروى ابن خزيمة في "صحيحه" عن أبي ذر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «(تعاد الصلاة من ممرّ الحمار والمرأة والكلب الأسود)» [صححه الألباني في "الصحيحة"]

والأقرب أن الحديث غير محفوظ بهذا اللفظ: (تعاد الصلاة)؛ قال الشيخ ياسر آل عيد، حفظه الله: "فهذا الحديث قد رواه بهذا اللفظ من الثقات: شعبة، ويونس بن عبيد، ومنصور بن زاذان، وأيوب السختياني، وقتادة، وجرير بن حازم، وخالد الحذاء، وحبيب بن الشهيد، وسليمان بن المغيرة، وعاصم الأحول، وقرة بن خالد، وسهل بن أسلم العدوي، وسلم بن أبي الذيال، وأشعث بن عبد الملك، وعمر بن عامر السلمي، وقيس بن سعد المكي، والحسن بن ذكوان، وهم سبعة عشر رجلًا، وتابعهم غيرهم.
وانفرد عنهم هشام بن حسان فأتى دونهم بهذا اللفظ: (تعاد الصلاة من: ممر الحمار، والمرأة، والكلب الأسود)، فإنه رواه بالمعنى الذي ظهر له، والله أعلم، وهو لفظ شاذ لمخالفته فيه عامة من روي الحديث من الثقات عن حميد بن هلال، والله أعلم.[فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود]

قال الشوكاني رحمه الله: " وأحاديث الباب تدل على أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة. والمراد بقطع الصلاة: إبطالها، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة وأنس وابن عباس في رواية عنه، وحكي أيضا عن أبي ذر وابن عمر، وجاء عن ابن عمر أنه قال به في الكلب، وقال به الحكم بن عمرو الغفاري في الحمار. وممن قال من التابعين بقطع الثلاثة المذكورة: الحسن البصري وأبو الأحوص صاحب ابن مسعود.

ومن الأئمة: أحمد بن حنبل، فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري، وحكى الترمذي عنه أنه يُخصص بالكلب الأسود، ويتوقف في الحمار والمرأة. قال ابن دقيق العيد: وهو أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار.

وذهب أهل الظاهر أيضا إلى قطع الصلاة بالثلاثة المذكورة" [نيل الأوطار]

والمذهب المعتمد عند الحنابلة: أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم.
وأما قطعها بمرور المرأة والحمار: فرواية عن أحمد. قال المرداوي: "اختارها المجد، ورجحه الشارح، وقدمه في المستوعب وابن تميم، وحواشي ابن مفلح، وجزم به ناظم المفردات، وهو منها. واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: هو مذهب أحمد" انتهى [الإنصاف]

وقال ابن المنذر رحمه الله: "أما حجة من قال: يقطع الصلاة الكلب، والمرأة، والحمار، فظاهر خبر عبيد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: وهو خبر صحيح لا علة له، فالقول بظاهره يجب، وليس فيما يثبت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا التسليم له، وترك أن يحمل على قياس أو نظر" انتهى [الأوسط]

وجاء في «فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء»:" السترة للمصلي سنة في حق الرجل والمرأة، ولا يجوز لكل منهما المرور بين يدي المصلي أو بينه وبين سترته، سواء كان المصلي رجلاً أو امرأة، وسواء كان المار امرأة أو رجلاً، لكن إن كان المار امرأة قطعت صلاة من مرت بين يديه أو بينه وبين سترته إلا في المسجد الحرام، فيعفى عن ذلك لعدم إمكان التحرز منه، وقد قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}" انتهى

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:" المرأة تقطع صلاة المرأة كما تقطع صلاة الرجل".

وقال الشيخ الألباني رحمه الله: "الصلاة تنقطع ولو كانت المصلية امرأة والمارة امرأة؛ لأن الخطاب لجميع الأمة " انتهى

إذا لم يكن للمصلي سترة، فمر واحد من الثلاثة المذكورة بين يديه، فإن مر قريبا منه، على بعد ثلاثة أذرع من قدميه، فأقل: بطلت صلاته.

فإن مر فيما وراء ذلك، أي على بعد أكثر من ثلاثة أذرع: لم تبطل صلاته.

قال البهوتي رحمه الله في «كشاف القناع»: "(وإن مر بينه) أي المصلي (وبينها)، أي سترته، كلب أسود بهيم (أو لم تكن له سترة، فمر بين يديه، قريبا) منه، (كقربه من السترة)، أي ثلاثة أذرع فأقل، من قدميه [أي: تحسب المسافة من مكان وقوفه] = (كلب أسود بهيم، وهو ما لا لون فيه سوى السواد: بطلت صلاته)؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره، إذا كان بين يديه مثلُ مُؤْخِرة الرحل، فإن لم يكن، فإنه يقطع صلاته: المرأة والحمار والكلب الأسود) ..." انتهى.

وإنما قدروا ذلك بثلاثة أذرع؛ لأن هذا هو موضع السترة؛ لما روى النسائي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ "» [صححه الألباني].

ورواه البخاري عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ "إِذَا دَخَلَ الكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخُلُ، وَجَعَلَ البَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ، فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثَةِ أَذْرُعٍ، صَلَّى؛ يَتَوَخَّى المَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِهِ بِلاَلٌ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى فِيهِ".

وإذا قطعت صلاة الإمام، بطلت صلاته وصلاة المأمومين.

قال البهوتي -رحمه الله- في «كشاف القناع»: "(وإن مر ما يقطع الصلاة) وهو الكلب الأسود البهيم (بين الإمام وسترته قطع صلاته وصلاتهم) لأنه مر بينهم وبين سترته" انتهى.

والثلاثة الأذرع، بالمقياس العصري: قريب من متر ونصف المتر.

** ذهب جمهور أهل العلم إلى أن سترة المصلي سنة وليست واجبة، وذهب بعضهم إلى وجوبها. ويستوي في هذا الحكم الرجل والمرأة.

وتأثر الصلاة أو بطلانها بالمرور أمام المصلي فقد ذهب الجمهور إلى أن الصلاة لا يبطلها المرور أمام المصلي، سواء كان المار رجلاً أو امرأة أو حيوانا. وذلك لأدلة منها:

ما رواه أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ)

[الحديث ضعفه الألباني وقال محقق المسند: حديث أبي سعيد أخرجه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي، وفي سنده مجالد بن سعيد، وهو سيىء الحفظ، لكنه يتقوى بما أخرجه الطبراني والدارقطني من طريق سليم بن عامر، عن أبي أمامة مرفوعاً: (لا يقطع الصلاة شيء) وذكره الهيثمي في "المجمع" عن الطبراني وحسن إسناده، مع أن فيه عُفيرَ بن معدان، وهو ضعيف، وبما رواه الدارقطني أيضاً من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة مرفوعاً: (لا يقطع صلاة المرء امرأةٌ، ولا كلبٌ، ولا حمار)، وبما رواه من حديث أنس مرفوعاً: (لا يقطع الصلاة شيء)، وهذه الشواهد يشد بعضها بعضاً، فيتقوى بها الحديث.

وفي "الموطأ": عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر كان يقول: "لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي". وهذا إسناد صحيح على شرطهما.

وأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن علي وعثمان، قالا: "لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوهم عنكم ما استطعتم".

وهذا مع اتفاقهم على أن من تعمد المرور أمام المصلي آثم، وكذلك المصلي إذا خشي المرور أمامه ولم يتخذ سترة فإنه آثم أيضاً، فقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. [البخاري]

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة تبطل بمرور المرأة أو الحمار أو الكلب الأسود أمام المصلي إذا لم تكن له سترة أو كانت له سترة فمرت بينها وبينه، وذلك لما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْحِمَارُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ).

وتأول ذلك الجمهور بأنه نقص للأجر لشغل القلب بهذه الأشياء عن الصلاة، وليس المراد بطلانها بالكلية.. أي أنه قطع نقصان لا قطع بطلان.

قال الإمام النووي وغيره: اختلف العلماء في هذا فقال بعضهم: يقطع هؤلاء الصلاة، قال أحمد بن حنبل: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من المرأة والحمار شيء، إلى أن قال: وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي -رضي الله عنهم- وجمهور العلماء من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا من غيرهم.

وتأول هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد بطلانها.

وفي صحيح مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ قَدْ شَبَّهْتُمُونَا بِالْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.

وفي مسلم عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ قَالَ فَقُلْنَا الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ فَقَالَتْ إِنَّ الْمَرْأَةَ لَدَابَّةُ سَوْءٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَرِضَةً كَاعْتِرَاضِ الْجَنَازَةِ وَهُوَ يُصَلِّي.

وروى أحمد بسند حسن عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّهُ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ، قَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: " أَلَيْسَ هُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ وَعَمَّاتِكُمْ ؟ "

فتبين من هذا أن الصحيح عن جل أهل العلم أن الصلاة لا تبطل بمرور هذه الأشياء الثلاثة، وأن المقصود بالقطع: نقص الأجر بشغل القلب بمرور أحدها،

وعليه فمن مَرَّ أمامه واحد من هذه الثلاثة فلا يقطع صلاته وليستمر فيها، وليعلم أن الصلاة لا تقطع بالشك، فمن دخل فيها لزمه إكمالها إلا إذا طرأ عليه مبطل يقينا، أو ترتب على التمادي فيها هلاك نفس محترمة كأعمى أو صبي أمامه نار سيقع فيها إن لم يقطع المصلي صلاته، فيجب عليه قطعها لإنقاذ حياته.

فالصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا تبطل الصلاة بمرور المرأة بين يدي المصلي رجلا كان أم امرأة.

أما من ذهبوا إلى أنها تقطع الصلاة فاختلفوا في قطع المرأة صلاة المرأة:

فذهبت طائفة -منهم ابن حزم- إلى أن المرأة لا تقطع صلاة المرأة لحديث أبي ذر في المسند وغيره أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل: المرأة والحمار والكلب الأسود)

وقال الآخرون: بل ذكر الرجل من باب التغليب والمرأة مثله في الحكم تقطع المرأة صلاتها كصلاته كما يقطع الكلب الأسود والحمار صلاتها كصلاة الرجل.

قال الشيخ ابن عثيمين: المرأة تقطع صلاة المرأة كما تقطع صلاة الرجل وتوجيه الحديث الذي ذكرته: هو أن الأحكام التي تذكر للرجال تثبت للنساء إلا بدليل والأحكام التي تثبت للنساء تثبت للرجال إلا بدليل هذه هي القاعدة وهو الأصل فإذا لم يكن هناك دليل صريح يدل على أن مرور المرأة بين يدي المرأة لا يقطع الصلاة أو مرور الكلب بين يدي المرأة لا يقطع الصلاة وأريد بالكلب الكلب الأسود أو مرور الحمار لا يقطع يعني: قد يقول قائل: مرور المرأة بين يدي المرأة لا يقطع الصلاة لأن نفس المرأة لا تتعلق بأختها بخلاف مرور المرأة بين يدي الرجل لكن يرد على هذا الكلب الأسود والحمار فهذا لا يفترق فيه الرجال والنساء فالصحيح: أنه عام للرجال والنساء وأن تقييده بالرجل كغيره من النصوص الكثيرة التي تذكر الحكم معلقا بالرجال أو معلقا بالنساء والأصل تساويهما في الأحكام. اهـ. [لقاء الباب المفتوح]

فعلى القول بأن مرور المرأة أمام المصلي يقطع صلاته فإن هذا عام سواء مرت أمام رجل أو أمام امرأة,

وإن اتخذ المصلي سترة لم يضره ما مر بين يديه من ورائها ولا يمنعه

** المشروع للمصلي إذا أراد الصلاة أن يجعل بين يديه سترة تكف نظره عما وراءه وتمنع من المرور بين يديه.. قال الصنعاني -رحمه الله-: "يندب للمصلي اتخاذ سترة, ويكفيه مثل مؤخرة الرحل؛ وهي قدر ثلثي ذراع, وتحصل بأي شيء أقامه بين يديه.

قال العلماء: والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها، ومنع من يجتاز بقربه". انتهى بتصرف يسير.

فإذا صلى المرء إلى سترة لم يجز لزوجته أن تمر بينه وبين سترته, وإذا قصر المصلي في اتباع السنة وصلى إلى غير سترة لم يجز لزوجته أن تمر بين يديه قريبا منه كذلك, فعن أبي جهيم بن الحارث -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه). متفق عليه.

جاء في «الروض مع حاشيته»: "ويحرم المرور بين المصلي وسترته ولو بعيدة، وإن لم يكن سترة ففي ثلاثة أذرع فأقل أي فيحرم المرور في ثلاثة أذرع من قدم المصلي فأقل. وحكى ابن حزم الاتفاق على إثمه, وقيل: أبعد من موضع السجود, وأما البعيد فلا يتعلق به حكم. وقال الموفق: لا أعلم أحدا حد البعيد في ذلك, ولا القريب، وقال: الصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه المصلي، ودفع المار بين يديه، للأمر به فتقيد بدلالة الإجماع بما يقرب منه. انتهى.

وقيد بعض العلماء القرب بموضع السجود وبعضهم بثلاثة أذرع وبعضهم حده بالعرف, فإنها إن خالفت ومرت بين يديه حيث لا يجوز لها المرور أثمت بالاتفاق، وتبطل صلاته بذلك عند بعض أهل العلم. واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يقطع صلاة الرجل المسلم - إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل - المرأة، والحمار، والكلب الأسود) .

ومذهب الجمهور أن الصلاة لا تبطل بذلك.

قال ابن القاسم رحمه الله في الحاشية: قال الشيخ - أي شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله - والصواب أن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار بين يدي المصلي دون سترة يقطع الصلاة، وقال ابن القيم: صح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من طرق أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود. فثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن مغفل، ومعارض هذه الأحاديث قسمان صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك لمعارض هذا شأنه. اهـ .

وذهب مالك والشافعي، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف أنه لا يبطل الصلاة مرور شيء، ولم يأمر أحدا بإعادة صلاته من أجل ذلك، وتأولوا أن المراد نقص الصلاة بشغل القلب بهذه الأشياء, قالوا: وصح عن عمر: لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي، وأوردوا أحاديث . انتهى.

وفي المسألة مناقشات تطول، ولكن تجنب الدخول في مثل هذا الخلاف أولى وأحرى بالمكلف, وأما إذا مرت من وراء الستر أو بعيدا منه إن كان يصلي إلى غير سترة على الخلاف المبين في حد البعد، ورجح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه يقيد بموضع السجود فإن صلاته لا تتأثر بذلك.

** ترجم البخاري بابا بعنوان: «مَنْ قَالَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ». وروى فيه حديثا عن عائشة رضي الله عنها، وأثرا عن ابْن أَخِي ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمَّهُ- يعني الزهري- عَنْ الصَّلَاةِ يَقْطَعُهَا شَيْءٌ فَقَالَ لَا يَقْطَعُهَا شَيْءٌ.

وروى أبو داود في سننه بسنده عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ). وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو متكلم فيه. والحديث ضعفه: ابن تيمية، وابن حجر، وعبد الحق الإشبيلي، وابن الجوزي، وابن عبد الهادي وغيرهم من المعاصرين كالألباني.

ولأن الحديث لم يثبت فلم يأخذ به من قال بأن الصلاة تقطعها المرأة والحمار والكلب الأسود لأن هذا هو الثابت عنده في الحديث، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) .

وأما عن الخلاف في مسألة قطع الصلاة، فذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن مرور شيء بين المصلي والسترة لا يقطع الصلاة ولا يفسدها، أيا كان، ولو كان بالصفة التي توجب الإثم على المار، وقال الحنابلة مثل ذلك، إلا أنهم استثنوا الكلب الأسود البهيم فرأوا أنه يقطع الصلاة، ولهم روايات أخرى في المسألة

وننبه إلى أنه لا يوجد أحد من العلماء المعتبرين يتعمد ترك حديث ثابت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مقدمة كتابه «رفع الملام عن الأئمة الأعلام»: وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ -الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا- يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ. فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ, إلَّا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ, فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ. وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:

أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ.

وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.

وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ .

وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ. ثم ذكرها رحمه الله.

** هل شبه الإسلام المرأة بالكلاب؟؟

يمكننا أن نجيب هذا المعترض أو صاحب الشبهة من خلال تذكيره بأمور أساسية لا بد من مراعاتها في فهم هذا الموضوع والتدقيق فيه:

أولا: ليس ثمة شيء في الوجود إلا وبينه وبين الأشياء الأخرى وجه شبه، ولو في بعض المعاني المطلقة، فالإنسان يشبه الجماد في كون كل منهما موجودا مخلوقا، ويشبه الحيوان في أوجه كثيرة، فكل منهما كائن حي يأكل ويشرب ويحيا ويموت، بل يُعَرِّفُ المناطِقَة الإنسان بأنه: «حيوان ناطق».

وكذلك بين الإنسان والنبات أوجه شبه كثيرة من جهة حياة كل منهما، وإثماره، وحاجته للغذاء، ونحو ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "كل موجودين فلابد أن يكون بينهما نوع مشابهة ولو من بعض الوجوه البعيدة ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود" [بيان تلبيس الجهمية]

ولا يعرف عن العقلاء والمفكرين أن أحدا عد كل أوجه الشبه السابقة عيبا في الإنسان يستوجب الذم والقدح فيه ؛ فهي أوجه شبه إما محمودة، وإما أنها خلقية لا توصف بمدح ولا ذم.

ثانيا: التشبيه في اللغة والمنطق يشتمل على أربعة أركان: المشبَّه، والمشبَّه به، ووجه الشبه، وأداة التشبيه.

وإذا طلبنا الحكم على تشبيه معين هل نعده ذما أو مدحا، فإن من الخلل الاقتصار في النظر على (المشبَّه به)، بل لا بد من النظر في (وجه الشبه) أيضا.

وقد ورد عن بعض الصحابة تشبيه فعل نفسه بفعل الدابة، كما قال عمار بن ياسر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ" [البخاري، ومسلم]

.ولم يفهم أحد من الناس أنه يقصد تشبيه نفسه بالدابة من كل وجه، تشبيها مذموما لا قدر الله، إذ لا تحتمل لغة العرب ذلك أبدا.

إذن فلا بد من فهم اللغة العربية التي هي لغة القرآن والسنة، قبل الخوض في هذه الشبهات الساقطة، التي تدل على جهل تام بالأسلوب العربي.

ولا بد من التدقيق في وجه الشبه قبل الاتهام بأن التشبيه ذم للمرأة مطلقا أو قدح لجنس النساء.

ثالثا:من نظر في الحديث المقصود في سؤال السائل، وهو حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، وَيَقِي ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ) [مسلم]، علم أن (وجه الشبه) المقصود ليس شيئا يتعلق بالصفات السيئة لكل من الحمار والكلب، أو أن المرأة في درجة هذه الدواب والعياذ بالله، فهذا من ساقط الظن وتافه القول، وعائشة -رضي الله عنها- لم تقصد ذلك مطلقا عندما سمعت هذا الحديث فقالت: "شَبَّهْتُمُونَا بِالحُمُرِ وَالكِلاَبِ" [البخاري]

وإنما (وجه الشبه) المراد هنا هو: مجرد الاشتراك في فعل معين، يتعلق بالصلاة؛ وهو إخراج المصلي عن خشوعه واتصاله بالله سبحانه وتعالى، وعائشة رضي الله عنها لا توافق على أن مرور المرأة يخرج الصلاة عن هيئتها الخاشعة لله سبحانه، وخالفها في ذلك كثير من الصحابة الكرام.

وينبغي أن نتنبه إلى أن أصل المرور بين يدي المصلي، وتأثر صلاة المصلي بمن يمر من أمامه، كائنا ما كان المار، رجلا أو امرأة، إنسانا أو حيوانا هذا كله ممنوع من حيث الأصل ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في منع الجميع من هذا الفعل المذموم: «(لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ) » قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. [البخاري]

بل روى البخاري، ومسلم: « "أن أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ كان فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنِ أَخِيكَ، يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ)»

قال النووي -رحمه الله-: "قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مُرُورِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ الرُّجُوعِ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَفْعَلُ فِعْلَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ بَعِيدٌ مِنَ الْخَيْرِ وَقَبُولِ السُّنَّةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّيْطَانِ الْقَرِينُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ( فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينُ ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ " انتهى [شرح مسلم]

ومن الواضح هنا: أن هذا الحديث عام في كل من أراد أن يجتاز بين يدي المصلي، وأن قصة أبي سعيد هذه: لا مدخل للنساء فيها البتة !!

رابعا: إذا كان المرور بين يدي المصلي ممنوعا كله، سواء في ذلك الرجل أو المرأة، وإذا كان ذلك يؤثر أيضا في صلاته؛ فقد ذهب بعض أهل العلم في تأويل القطع المذكور في هذه الأحاديث، إلى أنه ليس المراد به إبطال الصلاة، وإلزام إعادتها، وإنما المراد به القطع عن إكمالها والخشوع فيها بالاشتغال بها، والالتفات إليها.

قال القرطبي -رحمه الله-: "ذلك أن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب يروع، فيتشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة وتفسد، فلما كانت هذه الأمور آيلة إلى القطع، جعلها قاطعة". [المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم]

وقال ابن رجب رحمه الله، بعد ما ذكر نحوا من هذا التأويل: "وأقرب من هذا التأويل: أن يقال: لما كان المصلي مشتغلا بمناجاة الله، وهو في غاية القرب منه والخلوة به، أمر المصلي بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصة، والقرب الخاص؛ ولذلك شرعت السترة في الصلاة خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجة في هذه الحال، فيقطع بذلك مواد الأنس والقرب؛ فإن الشيطان رجيم مطرود مبعد عن الحضرة الإلهية، فإذا تخلل في محل القرب الخاص للمصلي: أوجب تخلله بعدا وقطعا لمواد الرحمة والقرب والأنس.

فلهذا المعنى - والله اعلم - خصت هذه الثلاث بالاحتراز منها، وهي:المرأة ؛ فإن النساء حبائل الشيطان، وإذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان، وإنما توصل الشيطان إلى إبعاد آدم من دار القرب بالنساء.

والكلب الأسود: شيطان، كما نص عليه الحديث. وكذلك الحمار؛ ولهذا يستعاذ بالله عند سماع صوته بالليل، لأنه يرى الشيطان.

فلهذا أمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالدنو من السترة، خشية أن يقطع الشيطان عليه صلاته، وليس ذلك موجبا لإبطال الصلاة وإعادتها، والله أعلم؛ وإنما هو منقص لها، كما نص عليه الصحابة، كعمر وابن مسعود، كما سبق ذكره في مرور الرجل بين يدي المصلي، وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدفعه وبمقاتلته، وقال: (إنما هو شيطان)، وفي رواية: أن معه القرين؛ لكن النقص الداخل بمرور هذه الحيوانات التي هي بالشيطان أخص: أكثر وأكثر، فهذا هو المراد بالقطع، دون الإبطال والإلزام بالإعادة. والله اعلم" ["فتح الباري" لابن رجب]

خامسا: ليس من الإنصاف ولا من العدل في شيء: أن يعمد الباحث، أيا ما كان دينه، ومذهبه، إلى نص منفرد، مشتبه، يحتمل من الدلالات، ما لا علاقة له بموضوع نظره وبحثه، ثم يجعله طعنا في دين كامل متكامل التشريعات والآداب، كدين الإسلام، متعاميا عن عشرات النصوص والأصول التي تكرم المرأة في ذلك الدين، بما لم يكرمها غيره من الأديان ولا الشرائع ولا القوانين.

 فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت، قَالَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَال) » [الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح ابي داود"]

قال الخطابي: "وقوله النساء شقائق الرجال؛ أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شققن من الرجال... وفيه من الفقه... أن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها" [معالم السنن]

واستدل أهل العلم بهذا الحديث على أن الأصل أن ما يجب للذكور يجب للإناث، وما يجوز للذكور يجوز للإناث ولا يفرق بينهما إلا بنص.

ولهذا القرآن يخاطب المرأة كما يخاطب الرجل والنصوص على هذا كثيرة.

كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .

وكقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]

** من أراد أن يمر من أمام المصلي، فهذا لا يخلو من أحوال:

1- أن يمر بين يدي المصلي، يعني في المنطقة التي بين سجوده ووقوفه، فهذا محرم، بل هو كبيرة من الكبائر، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه). قال أبو النضر – وهو أحد الرواة -: لا أدري أقال: أربعين يوما أو شهرا أو سنة. [البخاري، ومسلم عن أبي جهيم رضي الله عنه.

وهنا لا فرق بين أن يكون له سترة أو لا يكون له سترة.

2- أن يمر في المنطقة التي من بعد موضع سجوده، وهذه لها حالان:

الأولى: أن يكون المصلي يتخذ سترة، فهنا يجوز المرور من خلف السترة، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن فليخط خطا ثم لا يضره من مر بين يديه) [أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، قال ابن حجر في البلوغ: ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن] .

وعن طلحة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك) [مسلم]

الثانية: أن لا يتخذ سترة، فهنا ليس له إلا موضع سجوده، وهذا الأقرب من أقوال أهل العلم، ويجوز لمن أراد أن يجتاز أن يمر فيما يلي موضع سجوده، وذلك لأن النهي الوارد في الحديث إنما هو في المرور بين يدي المصلي، وما يلي موضع سجوده ليس بين يدي المصلي.

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- بعد أن ذكر اختلاف العلماء في المسافة التي يمنع المصلي أحداً أن يمر فيها أمامه: "وأقرب الأقوال: ما بين رجلين وموضع سجوده، وذلك لأن المصلي لا يستحق أكثر مما يحتاج إليه في صلاته، فليس له الحق أن يمنع الناس مما لا يحتاجه". [الشرح الممتع]

وهذا كله فيما لو كان منفردا أو إماما، أما لو كان مأموما، فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه.

قال البخاري رحمه الله: «باب سترة الإمام سترة لمن خلفه».

وعن ابن عباس قال: أقبلت راكبا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي. [البخاري، ومسلم]

ومن أقوال أهل العلم أن مكة وغيرها سواء لعموم الأدلة، ولا يوجد ما يخرج مكة من هذا العموم، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين. [الشرح الممتع]

واستثنى جماعة من أهل العلم المسجد الحرام، فرخصوا للناس المرور فيه بين يدي المصلي، وذهبوا إلى أن مرور المرأة وغيرها بين يدي المصلي لا يقطع صلاته .قال ابن قدامة رحمه الله في «المغني»: "ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة، وروي ذلك عن ابن الزبير وعطاء ومجاهد. قال الأثرم: قيل لأحمد: الرجل يصلي بمكة، ولا يستتر بشيء؟ فقال: قد روي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه صلى ثم ليس بينه وبين الطُّوَّاف سترة. قال أحمد: لأن مكة ليست كغيرها، كأنّ مكة مخصوصة. وقال ابن أبي عمار: رأيت ابن الزبير جاء يصلي، والطُّوَّاف بينه وبين القبلة، تمر المرأة بين يديه، فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها. رواه حنبل في كتاب «المناسك». وقال المعتمر: قلت لطاووس: الرجل يصلي - يعني بمكة - فيمر بين يديه الرجل والمرأة ؟ فإذا هو يرى أن لهذا البلد حالا ليس لغيره من البلدان، وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم، ويزدحمون فيها، فلو مَنَع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس" انتهى باختصار.

وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: لقد وجدت حديثا مثبتا وهذا نصه: إذا كان أحدكم في صلاة، فمر أمامه حمار أو كلب أسود أو امرأة فإن صلاته باطلة إذا كان نص الحديث صحيحا فما رأيكم في الذين يصلون في الحرم الشريف وتمر النساء أمامهم وهن طائفات؟

فأجاب: "الحديث صحيح يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يقطع صلاة المرء المسلم إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل: المرأة والحمار والكلب الأسود) رواه الإمام مسلم في صحيحه، فإذا مر بين يدي المصلي أو بينه وبين سترته كلب أسود أو حمار أو امرأة، كل واحد يقطع صلاته. هكذا جاء الحديث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الأصح من أقوال أهل العلم وفي ذلك خلاف بين أهل العلم، منهم من يؤوله على أن المراد قطع الثواب، أو قطع الكمال.

ولكن الصواب أنها تقطع الصلاة وأنها تبطل بذلك. لكن ما يقع في المسجد الحرام معفو عنه عند أهل العلم؛ لأن في المسجد الحرام لا يمكن للإنسان أن يتقي ذلك بسبب الزحام ولاسيما في أيام الحج فهذا مما يعفى عنه في المسجد الحرام ويستثنى من عموم الأحاديث، فما يقع من مرور بعض النساء أو الطائفات بين يدي المصلين في المسجد الحرام لا يضرهم وصلاتهم صحيحة: النافلة والفريضة، هذا هو المعتمد عند أهل العلم" [فتاوى الشيخ باز]

وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز المرور بين يدي المصلي في المسجد؟فأجابوا: يحرم المرور بين يدي المصلي، سواء اتخذ سترة أم لا، لعموم حديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه) واستثنى جماعة من الفقهاء من ذلك الصلاة بالمسجد الحرام، فرخصوا للناس في المرور بين يدي المصلي؛ لما روى كثير بن كثير بن المطلب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيال الحجر والناس يمرون بين يديه، وفي رواية عن المطلب أنه قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي الركن بينه وبين السقيفة فصلى ركعتين في حاشية المطاف وليس بينه وبين الطواف أحد.

 وهذا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد غير أنه يعتضد بما ورد في ذلك من الآثار، وبعموم أدلة رفع الحرج لأن في منع المرور بين يدي المصلي بالمسجد الحرام حرجا ومشقة غالبا" [فتاوى اللجنة الدائمة]

لكن لا ينبغي التساهل في أمر السترة، ولو مع الزحام، ما دام الأمر ممكنا. كما لا ينبغي التساهل في المرور بين يدي المصلي إلا عند الاضطرار لذلك.

فقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم من يمرون أمام المصلين خاصة في الحرم من النساء والرجال ويقطعون الصلاة؟

فأجاب: "أما الرجال فإنهم لا يقطعون الصلاة، لكن الإنسان مأمور بأن يردهم، وأما النساء فالمرأة البالغة تقطع الصلاة إذا مرت بينك وبين سترتك، أو بينك وبين موضع سجودك إذا لم يكن لك سترة سواءً في الحرم أو في غير الحرم، إلا إذا كان الإنسان لم يتيسر له مكان إلا في مكان مرور الناس مثل عند الأبواب فهذا للضرورة لا تنقطع صلاته؛ لأنه لو أخذ يرد الناس لكثرت الحركة في صلاته فأبطلتها.

السائل: لكن ما الحكم إذا ساروا من بعيد قليلاً؟ الشيخ: إذا ساروا من بعيد من وراء موضع سجوده فهذا لا يضر" [لقاء الباب المفتوح]

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 130

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً