ما أفلح المستبد برأيه (خطبة)
العناصر الأساسية: العنصر الأول: من عظمة الإسلام قبول الرأي والرأي الآخر. العنصر الثاني: مرونة الإسلام وبراءته من التعصب الأعمى. العنصر الثالث: ما أفلح مستبد برأيه. العصر الرابع: البيوت المؤمنة وشؤم التعصب للرأي.
الموضوع:
أما بعد: فقد ورد في الصحيح من حديث تمِيمٍ الدَّارِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « " الدِّينُ النَّصِيحَةُ ". قُلْنَا لمن يا رسول الله ؟ قَالَ : " لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ "» .
أيها الإخوة الكرام: إن من مواطن العظمة في الإسلام أنه دينٌ يقبل الرأي والرأي الآخر، ليس في الإسلام استبداد، ليس في الإسلام تعسف، ليس في الإسلام مصادرة على آراء الآخرين..
{(ما أريكم إلا ما أرى)} هذا المبدأ هو أساس الغواية والضلال والإفساد..
{(ما أريكم إلا ما أرى)} ليس من الإسلام في شيء..
الإسلام : دين يسمح للمسلم أن يفكر، يسمح له أن يتكلم، الإسلام يترك مساحة واسعة للتعبير عن الرأي قال الله تعالى لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}}
يذكر أصحاب السير أنه في يوم بدر: نزل رسول الله وأصحابه عشاء عند أدنى ماء من مياه بدر..
فقام رجل من المسلمين يقال له الحباب بن المنذر رضي الله عنه فقال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
فقال عليه الصلاة والسلام : بل الرأي والحرب والمكيدة..
فقال الحباب: يا رسول الله ما هذا بمنزل. فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نُغٕوِّر ما وراءه من عيون الماء، ثم نبني على مائنا حوضاً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام «لقد أشرت بالرأي» وأخذ رسول الله وعمل برأي الحباب وانتصر المسلمون بفضل الله تعالى وبفضل هذا الرأي الذي أدلى به الحباب بن المنذر..
وفي هذا إشارة قوية إلى موطن من مواطن العظمة في الإسلام وهو مرونة الإسلام وقبوله للرأي والرأي الآخر على حد قول القائل ( العاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين)
وفي العام الخامس من الهجرة نما إلى علم الرسول صلى الله عليه وسلّم أن قريشا جمعت الناس لغزو المدينة..
فجمع رسول الله أصحابه فلم يفرض عليهم رأيه، وإنما جمعهم فشاورهم فأدلى كل برأيه، وكان أفضل الآراء رأي سلمان فأخذ رسول الله به، ووضع رسول الله يده بأيدي المسلمين فحفروا الخندق حول المدينة في ستة أيام..
وجاءت قريش، وتجمعت الأحزاب، وعلى ابواب المدينة حال الخندق بين قريش وبين دخول المدينة، لكن حاصرت قريش المسلمين عند الخندق قريباً من ثلاثين يوماً ، ووقع المسلمون في حرج شديد بين الجوع وبين العطش وبين شدة البرد وبين قوة العدو، وبين طول الحصار، وبين الخوف على النساء والذراري، وبين تفلت المنافقين عن نصرة رسول الله، وقبل كل ذلك وبعده أن بني قريظة نقضت عهدها وناصرت قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمدتهم بالمال والطعام والسلاح..
عند ذلك صار حال المسلمين كما وصف الله تعالى: {{إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}}
عند ذلك تدخلت عناية الله تعالى.. فأنزل الله الملائكة تناصرالمؤمنين، وسلط الله الريح على قريش، وألقى في قلوبهم الرعب فانهزموا ورجعت قريش إلى مكة، بفضل الله تعالى أولاً، وبفضل الرأي الصائب الذي أدلى به سلمان..
ورجع رسول الله إلى المدينة فبينما هو كذلك إذ جاءه جبريل فأمره أن لا يضع سلاحه حتى يغزو بني قريظة..
فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه : " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ "
فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَ بني قريظة، فلم يصلوا العصر إلا في بني قريظة..
وَقَالَ آخرون : بَلْ نُصَلِّي العصر الآن لَمْ يُرِدْ رسول الله مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
لماذا؟
لأن الإسلام دين مرن ليس في الإسلام تعصب ليس فيه تعسف ليس في الإسلام استبداد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ "
أما بعض الصحابة فأخذ النص أمراً فلم يصلي العصر إلا في بني قريظة..
وأما البعض الآخر من الصحابة ففهم من النص أن رسول الله يريد الذهاب السريع إلى بني قريظة فتوقف هؤلاء في بعض الطريق فصلوا العصر قبل أن يصلوا إلى بني قريظة فلما بلغ رسول الله فعل هؤلاء وفعل هؤلاء قبل الرسول من الجميع رأيه واجتهاده و" لَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ ".
من مواطن العظمة في الإسلام أنه ليس في الإسلام تعصب للرأي ، من مواطن العظمة في الإسلام أنه ليس فيه صلابة وليس فيه تعنت..
ذلك أن التعصب للرأي ضلال وعمى وهذا ليس من الإسلام في شيء
التعصب للرأي تعسف وجمود في الفكر وهذا ليس من الإسلام في شيء
التعصب للرأي أنانية وانتقاص من الآخرين وعدوان عليهم وهذا أيضاً ليس من الإسلام في شيء..
التعصب للرأي سبب كل خصومة وشقاق ونفور وصدام بين الناس..
(ما أريكم إلا ما أرى) هذا المبدأ العدواني الغاشم الظالم ليس من الإسلام في شيء..
أيها الإخوة الكرام : علمتنا الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أنه ما أفلح مستبد برأيه..
فكم أسقط الاستبداد دولاً، وكم ضيع التعصب للرأي أمماً..
في زمان فرعون موسى كان الرأي الواحد، كان التعصب للرأي، كان الاستبداد على أشده..
لدرجة أن من آمن بموسى من قوم فرعون كتم إيمانه من شدة القهر والظلم {فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}
حتى مؤمن آل فرعون ( الوحيد) الذي استطاع أن ينطق هو أيضا كتم آيمانه، ورغم ذلك سماه القرآن رجلاً لأنه نطق في زمان التعصب والتعسف والاستبداد..
في سورة القصص ورد ذكره في قول الله تعالى {{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ من الناصحين} }
وفي سورة غافر ورد ذكره في قول الله تعالى:
{{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}}
في زمان التعصب للرأي، في زمان التعسف والاستبداد قال الفرعون لقومه : {{ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } }
ماذا كانت نتيجة هذا التعصب الأعمى للرأي؟ ماذا كانت نتيجة هذا التعسف؟
كانت النتيجة أن كان ضلال ذلك الفرعون، أن كان ضلال آل فرعون، ومن ثم كان هلاك ذلك الفرعون وهلاك قومه..
{{وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ }}
أقرب ما ينتظر المستبد برأيه، أن يقع في شر أعماله، وأقرب ما ينتظر الإنسان المرن الحكيم وقديما قال آباؤنا وقال الأجداد ( ما خاب من استشار، وما ندم من استخار)
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير .
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن شؤم التعصب للرأي
بقي لنا أن نقول:
ما ترك التعصب للرأي علاقة إلا أفسدها، وما ترك بناء إلا هدمه، وما ترك موضعا عامراً إلا أفسده..
البيوت المؤمنة ما البيوت المؤمنة:
جعل الله تعالى البيوت المؤمنة مواضع للمودة والرحمة، جعل الله البيوت المؤمنة مواضع للسكينة والطمأنينة، بين المرء وبين زوجه قال الله تعالى : {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}}
من أكثر الصحابة تحليًا بالحكمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من أجمل أقواله قوله: لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت..
قيل وكيف ذلك وما بينك وبين الناس إلا شعرة؟
قال إن شدوها أرخيتها، وإن أرخوها شددتها..
بين الرجل وبين زوجه عهد وميثاق غليظ ، بين المرء وبين زوجه حبل ممدود ولو أن الرجل تعصب لرأيه فشد من جهته، وتمسكت المرأة برأيها فشدت من جهتها، انتقض العهد، وانقطع الحبل، وانقلبت الحياة رأساً على عقب..
الحياة الزوجية، والبيوت المؤمنة، تدار بالحكمة، تدار بالتوافق بين الزوجين، البيوت تدار بالمشورة، تدار بشيء من التجاوز والتغاضي..
أسوء صور التعصب أن يكون هذا التعصب بين المرء وزوجه، التعصب للرأي بين المرء وزوجه يخرب البيوت العامرة ، ويفرق الجمع، ويشتت الشمل..
التعصب للرأي يحدث في البيوت صراعاً ونزاعا وحياة مريرة، التعصب للرأي يشعل في البيوت نارا لا تنطفئ..
ومع هذا الصراع الأسري ينسي الإنسان العهد والميثاق وينسى العشرة بينه وبين زوجه وينسى كل منهما حق صاحبه، ويقع الفراق..
النبي عليه الصلاة والسلام كما قال للرجل " « الرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته " قال " والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها " وفي ختام الحديث قال " ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " »
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يؤلف بين قلوبنا وأن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
----------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر
- التصنيف: