﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾
ومن المهم أن يُعلَم أن أخطر ما يواجه الدعوة اليوم ليس تضييق أعدائها فحسب، بل واستبطان الدعاة الخوف المتوهَّم في الداخل، وتحويله إلى قناعات، ثم إلى أُسس ومنطلقات، ثم إلى ثقافة عامة تُفرغ النصوص من معانيها الشرعية.."
إنها آية كريمة ترسم للدعاة مسارهم، وتحدد لهم المنهج الواجب سيرهم عليه، يقول السعدي: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره، بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه المستجيبين لدعوته. وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله).
ومن طالع الأحوال في العقود الأخيرة من عمر الأمة، وجد أن الساحة الإسلامية – في غير قطر ولا إقليم – قد شهدت حراكًا علميًا ودعويًا لافتًا، اتسم بكثافة النشاط، واتساع دوائر التعليم والتكوين، وتنوّع الوسائل والأساليب، وفتح آفاق جديدة امام الدعوة والدعاة إلى الله؛ حتى خُيِّل لكثير من المراقبين وقتها أن الدعوة بدأت تستعيد بعض عافيتها، وتتحسّس طريقها في واقع كثير الاضطراب، سريع التحوّل، بل وبلغت الأمة فيه غاية من التمزق والهوان والتخلف والضعف.
وبلا شك فقد كان هذا الحراك المبارك – على تفاوت مستوياته ومراتبه – تعبيرًا صادقًا عن امتثالٍ لأمر الله بالتبليغ وبث الشرع، وسعيًا في هداية الخلق، وبذلًا لإحياء معاني الإيمان والاستقامة في الأمة، ومحاولةً جادّة لإعادة وصل المجتمعات بمصدر هدايتها الأول، في زمن تكاثفت فيه عوامل التغريب، وتكاثرت فيه أسباب الغفلة والانصراف عن هدى الله عز وجل.
غير أنّ هذا المدّ الدعوي لم يلبث أن اصطدم بموجات متتابعة من الكيد المنظَّم، والتضييق الممنهج، والتشريعات المُقنِّنة للحصار وتجفيف المنابع، والمقيدة للفعل الإيجابي والحركة الدعوية المؤثرة، مع تطبيق سياسات ناعمة حينًا، وخشنة حينًا آخر؛ وكلها تتجه – بوضوح وبلا مواربة – إلى تحجيم الدعوة، أو تفريغها من مضمونها، أو تمزيق صف أهلها وإثارة الفتن بين شبابها وتقديم قيادة موالية لصناع تلك السياسات المجحفة أو تشويه صورتها في وعي الأمة العام، أو تجريم حَمَلتها، ومحاولة صناعة بيئة نفسية واجتماعية رافضة للأعمال الدعوية.
وبالتأكيد فلم يكن ذلك استثناءً عارضًا، بل هو من سنن الصراع الممتد بين الحق والباطل، حين يشعر أهل الزيغ والصد عن سبيل الله أن رسالة الحق قد بدأت تستعيد فاعليتها وتأثيرها.
وأمام هذا الواقع المأساوي المركّب، كان من المنتظر – بل والمتعيّن – أن تتبلور في الميدان الدعوي استجابتان أساسيتان:
أولاهما: ترسيخ فقه الاستمرار والثبات في أوساط الدعاة؛ وذلك بتعميق اليقين بأن الدعوة إلى الله عبادة ممتدة على كل مؤمن قادر، لا ترتبط بمواسم الرخاء وحدها، ولا يتم تعليقها على رضا الواقع أو سماحه، وأن التكليف الشرعي باقٍ ما بقيت الاستطاعة، وأن تضييق المساحات أو لزوم تبديل الوسائل لا يرفع الواجب، وإنما يغيّر صورة أدائه وخارطة انتشاره. فكل انكماشٍ كان ينبغي أن يُقابل باجتهادٍ واعٍ في ابتكار السبل والأساليب المشروعة البديلة، وتجديد الأدوات، وتوسيع دوائر التأثير الهادئ العميق، لا بالانكفاء، ولا بتعليق العمل انتظارًا لـ«تحسّن الظروف»، كما يُردِّد بعضهم تحت ضغط الأوهام الحالمة.
وثانيتهما: بناء فقهٍ راسخ متوازن، يقوم على توكّلٍ صحيح لا يُختزل في اندفاعٍ غير منضبط، ولا يُشوَّه بتحويله إلى إعراض وتواكلٍ باسم «حسن فقه المرحلة» المزيف.
ويقوم على وعيٍ رشيد وحكمةٍ منضبطة يعرف بها المرء ما يعلن من دعوته، وما يسر، ومتى يتقدم، ومتى يتأخر، دون أن يمسّ ذلك انبعاثه وشعوره العالي بالمسؤولية، أو جوهر رسالته بالتحريف أو الحجب المتعمد تبعا للأهواء، ودون أن يجعل من بطش الخلق حاكمًا على القرار الدعوي أو موجّهًا لمساره.
وفي هذا السياق، يبرز خللٌ منهجيٌّ بالغ الخطورة، يتمثّل في طمس بعض الدعاة للفارق بين الخوف المتوهَّم والاضطرار الحقيقي. فليس كل تضييقٍ إكراهًا، ولا كل تهديدٍ مسوِّغًا للتراجع، ولا كل كلفةٍ مبرّرًا لتعليق واجب التبيين والبلاغ. فالاضطرار في الشريعة حالة استثنائية منضبطة بضوابطها، تُقدَّر بقدرها، فلا تلغى عند الحاجة إليها ولا يُتوسّع فيها توسعا يقلبها إلى أصلٍ حاكم، وعند تلك المراعاة فقط يمكن للداعية أن ينزل في واقعه قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} بلا إفراط ولا تفريط. أمّا تحويل هذا الاستثناء إلى قاعدة عامة بصورة مقعدة للدعوة ومكدسة للدعاة بلا عمل، فهو قلب للميزان، وتشويه لفقه الابتلاء، وإفراغ لمفهوم المجاهدة والأخذ بالعزيمة من محتواه الشرعي والتربوي.
ومن نظر في واقع العمل الدعوي في أيامنا هذه بعين ناقدة صادقة، أدرك بجلاء أن كثيرًا من مظاهر الفتور لم تكن ثمرة القهر وحده، بل هي نتاج تراكم ضعف تربوي طويل، ضخمت فيه الدنيا في النفوس، وفترت فيه معاني الصدق والإخلاص، ووَهَنت فيه صلة الخوف من الله، وتقدّم فيه اعتبار السلامة الشخصية والقبول الاجتماعي وتحقيق المصلحة الفردية على مقتضيات البلاغ والبيان.
وبسبب ذلك شاع خطاب الاعتذار الباهت عن العمل، وتضخّمت لغة تبرير القعود، وغُلِّف التراجع غير المسؤول عن الدعوة بأغلفة «العقلانية» و«الواقعية» و«المصلحة» و«تقدير المآلات»، في مواضع لا يسوغ فيها إلا الثبات، ولا يَصحّ فيها إلا مواصلة العمل المتزن الحكيم الواعي.
ومن هنا تتجلّى الحاجة الماسّة إلى إعادة بناء الإنسان الداعية وصياغة المنهج الذي يتربى عليه، قبل الحديث عن الوسائل والبرامج والخطط: بناءٍ يعيد ترتيب سلّم المخاوف لديه، فتكون خشية الله في القمّة، ويغدو الخوف من فوات رضاه هو الضابط الحاكم، ويُنزل خوف الخلق منزلته الطبيعية بوصفه عارضًا وقتيا محدودا لا أصلًا قائدًا.
وبناءٍ يُربّي المرء على الصبر الطويل، والنَّفَس الممتد، والعمل التراكمي الهادئ، ويُخرِج أجيالًا تدرك أن الدعوة ليست مشروعًا قصير الأمد، ولا سهل الدرب، ولا رهينة ظرف سياسي أو مساحة قانونية غاشمة، بل رسالة تُحمَل باستمرار وثبات، وتُؤدّى بحكمة في أي أرض، وتبنى على يقين بتحقق وعدٍ دائم بنصرة الحق والتمكين لأهله، بعزّ عزيز أو بذل ذليل.
ومن المهم أن يُعلَم أن أخطر ما يواجه الدعوة اليوم ليس تضييق أعدائها فحسب، بل واستبطان الدعاة الخوف المتوهَّم في الداخل، وتحويله إلى قناعات، ثم إلى أُسس ومنطلقات، ثم إلى ثقافة عامة تُفرغ النصوص من معانيها الشرعية، أو تنزلها في غير مواضعها، وتفقد الخطاب الشرعي جلاءه ووضوحه، والرسالة المحمدية كثيرا من معالمها المنهجية.
وعليه، فـإن قوله عز وجل {فَلَا تَخَافُوهُمْ} ليس مجرد شعار حماسي عابر، بل هو قاعدة بنائية كبرى في طريق السير إلى الله، وإن قوله {وَخَافُونِ} ليس مجرد وعظٍ مجرّد، بل هو تصحيح جذري لوجهة القلب في هذه الأرض.
وبين الأمرين يتأسّس منهج دعوي راسخ، واعٍ، ثابت، حكيم، متعلق بالله وحده، لا تكسره العواصف، ولا يُذِيبه الضغط، ولا تُفرغه المساومات.
والله الهادي.
- التصنيف: