لهذا يتباغض الإخوة!
كلما تذكر المرء فضل الصبر على زلّات أخيه، واستحضر عظم حقه عليه وإن حدث ما حدث، وتحلّى بالصبر والتسامح والرفق والسكينة، وأدار العلاقة بحكمة، ووسّع دوائر التواصل والمصارحة والحوار وحسن الظن،… كان أقدر على حفظ المودة وتعميق التقارب مع أخيه، والعكس بالعكس.
مع أنّ الأخوّة يكفيها شرفًا أنها صلةُ دم، فإن مما يزيدها قدرًا أنها وشيجة عظيمة، ورابطة فطرية وأخلاقية، تستوجب المحبة الصادقة، وعمق المودّة، والتعاضد عند الشدائد، والتكاتف في مواجهة الأعباء، والتعاون على البر والخير. وهي من أرسخ العلاقات الإنسانية، وأقواها أثرًا في تكوين النفس وتشكيل بنية المجتمع.
غير أنّ المتأمل في واقع مجتمعاتنا اليوم يلحظ – بوضوح وألم – ازدياد ظاهرة التقاطع والتدابر بين الإخوة، بل وربما تطورت في بعض الأحوال إلى عداوات صريحة وقطيعة مزمنة. وحين يبحث المرء عن أسباب ذلك، يجد جملة من العوامل المتداخلة، لعل من أبرزها:
أولًا: مفاضلة الوالدين بين الأبناء، وهي من أخطر الأسباب وأعمقها أثرًا؛ إذ تورث بين الإخوة غيرة كامنة، ناتجة عن المقارنة المستمرة، والشعور الدائم بالظلم، ولا سيما حين يُفضَّل أحد الأبناء تفضيلًا غير مستحق، أو يُمنح امتيازًا بلا مبرر واضح. ومع توالي الزمن تتحول هذه المشاعر إلى تشاحن، ثم إلى تحاسد وأحقاد وبغضاء مكتومة.
ولخطورة هذا المسلك جاء التوجيه النبوي الصريح للوالدين بالعدل بين الأبناء، فقال ﷺ: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، فدلّ ذلك على النهي عن تفضيل بعض الأولاد على بعض بلا حق ولا مسوّغ شرعي معتبر؛ إذ كلهم أولاده، وكلهم يُرجى برّه، وكلهم مسؤولية عظيمة في عنقه.
ثانيًا: تباين القيم وطرائق التفكير والاهتمامات والطباع بين الإخوة، فهذا يرى الأصلح في اتجاه، وذاك يراه في اتجاه آخر؛ وأحدهم يعدّ كثرة الإنفاق كرمًا، والآخر يراها تبذيرًا؛ وما يحبه فلان قد يبغضه علّان. ولا شك أن هذا التباين – إذا لم تتم إدارته بحكمة – يوسّع دائرة التنازع، ويقلّص مساحة التوافق والتآلف بين الإخوة.
وتجاوز هذا السبب يتطلب عقلًا راشدًا وقوة إدراك، إما بالعمل على المشتركات في الرغبات والاهتمامات، أو بحسن توزيع الأوقات وتقسيم الأدوات أو المهام بعدل يريح جميع الأطراف، أو بتجنّب العمل المشترك في المجالات التي تتباين فيها الطباع وتكثر فيها الاحتكاكات، مع بقاء الودّ والاحترام. فالاختلاف في ذاته ليس آفة، وإنما الآفة في سوء إدارته وطريقة التعامل معه.
ثالثًا: تراكم الخلافات وتضاعفها مع مرور الوقت، فحين تتعاظم مساحات التباين دون تفاهم أو حل، ويُركَن إلى الصمت بدل الحوار، يصبح كل طرف مهيأ للانفجار نتيجة طول الكبت وتراكم المشاعر السلبية. ومثل هذا الوضع قد يتطلب تدخلًا حكيمًا من المقربين، كأحد الوالدين أو أحد أهل الرشد، لقيادة حوارات مسؤولة ومشتركة، تتقارب من خلالها النفوس، وتُفهم وجهات النظر المتقابلة، ويُتفق على آلية مرضية لإدارة الخلاف وتجاوز التباينات مستقبلًا، إما بربحٍ متبادل، أو حتى بأقل قدر ممكن من الخسائر.
رابعًا: الخلافات المادية، سواء أتعلقت بإرث، أم بدَين، أم بحقوق مالية متشابكة. وحل هذا الإشكال يقوم على أمرين متلازمين:
أحدهما: إلزام النفس – فيما يخصّها – بتقوى الله، وتحقيق العدل، وتجنب الظلم وأسبابه، واستحضار خطورة القطيعة.
والآخر: حمل النفس – في يخص الطرف المقابل – على التسامح والإحسان، وتقديم صفاء القلوب على حظوظ الدنيا، والبعد عما يشتت الصف ويبث الفرقة.
خامسًا: تدخل أطراف خارجية في تشكيل العلاقة، كالأصدقاء أو الأزواج ونحوهم، ممن يُلهبون المنافسة، ويوغرون الصدر، ويعمّقون سوء الظن، ويشجّعون على الشدة، أو استعمال العنف، أو إثبات الذات بكل سبيل في مواجهة الأخ. وحل هذا السبب أن يُغلق العاقل الباب كله أمام كل طرف خارجي يسعى لإثارة الإنسان على أخيه، سواء أوقع خلاف بالفعل أم كان مجرد ظن، ومن غير ما بيّنة ولا برهان.
وقد ذُكر في هذا السياق أن رجلًا قيل له: إن أخاك يعبث بمالك، فقال: يا هذا لستَ بأحرص من أخي عليّ، وإن كان أخذ منه شيئًا فهو أحقّ به مني، وقد كان ذلك بإذني ورضاي، فما صلتك بأمرٍ بين أخوين؟، مع أن أخاه – في حقيقة الأمر – كان ينمّي له ماله، قيامًا بحق الإخاء، وابتغاءً لوجه الله تعالى.
وخلاصة الأمر، فكلما تذكر المرء فضل الصبر على زلّات أخيه، واستحضر عظم حقه عليه وإن حدث ما حدث، وتحلّى بالصبر والتسامح والرفق والسكينة، وأدار العلاقة بحكمة، ووسّع دوائر التواصل والمصارحة والحوار وحسن الظن، وأظهر الاحترام والود مهما وُجد من خلاف، وتجنب القطيعة والهجر لأجل أمور الدنيا، ووضع لنفسه حدودًا في الجوانب التي لا يرضاها أخوه، وبادر إلى الاعتذار وطلب المسامحة عند الخطأ، ولم ينقل مشكلته مع أخيه إلى الآخرين… كان أقدر على حفظ المودة وتعميق التقارب مع أخيه، والعكس بالعكس.
رزقنا الله الهدى والرشد، وحسن الإخاء، وصفاء السريرة، إنه جواد كريم.
والله الهادي.
- التصنيف: