إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ

منذ 15 ساعة

{{إِنَّا أَعْتَدْنَا}} أي أعددنا، بدالين، أي: هيئنا للكافرين، يقال: اعتد كما يقال: أعد، قال تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف:31].

{بسم الله الرحمن الرحيم }

يقول تعالى في سورة الإنسان:

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) }

{{إِنَّا أَعْتَدْنَا}} أي أعددنا، بدالين، أي: هيئنا للكافرين، يقال: اعتد كما يقال: أعد، قال تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف:31].

غير أن الاستعمال خص الفعل ذا التاء بعدة الحرب، فقالوا: عتاد الحرب ولم يقولوا عداد.

{{لِلْكَافِرِينَ}} ابتدأ بجزاء الكافر لأن ذكره أقرب، وأكد الخبر عن الوعيد بحرف التأكيد لإدخال الروع عليهم لأن المتوعد إذا أكد كلامه بمؤكد فقد أذن بأنه لا هوادة له في وعيده.

{{سَلَاسِلَ}} ليقادوا بها ويستوثق بها منهم شداً في الجحيم، وبين تعالى نوع هذه السلاسل بذراعها في قوله تعالى: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} [الحاقة:32].

  {{وَأَغْلَالًا}} الغل: حلقة كبيرة من حديد توضع في رقبة المقيد، وتناط بها السلسلة، فالأغلال والسلاسل توضع لهم عند سوقهم إلى جهنم.

  {{وَسَعِيرًا}} النار المسعرة، أي التي سعرها الموقدون بزيادة الوقود ليشتد التهابها.

كما قال تعالى: {إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71-72].

{{إِنَّ الْأَبْرَارَ}} جمع بَر، وجمع بار أيضا، و البَر أو البار المكثر من البِر وهو فعل الخير، ولذلك كان البَر من أوصاف الله تعالى قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28].

ووصف بَر أقوى من بار في الاتصاف بالبِر، ولذلك يقال: الله بَر، ولم يقال: الله بار.

وأخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن {شَاكِراً} مذكور قبل {كَفُوراً}، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة، تقريبا للموصوف من المشاهدة المحسوسة.

وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنين خيرا منهم في عالم الخلود، و وَلِإِفَادَةِ الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين.

{{يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ}} خمر، أطلقت عليها للمجاورة.

وابتدأ في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس، وكانوا يتنافسون في تحصيلها.

والكأس: الإناء المجعول للخمر، فلا يسمى كأسا إلا كان فيه خمر، وقد تسمى الخمر كأسا بهذا الاعتبار كما سيجيء قريبا قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً} [الإنسان:17]

{{كَانَ مِزَاجُهَا}} ما تمزج به {{كَافُورًا}} في طيب رائحتها كالكافور.

ولما كان الكافور من أطيابهم كان كناية عما يطيب به مما له عرف ذكي.. وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة.

ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور.

وإقحام فعل {كان} في جملة الصفة بقوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} لإفادة أن ذلك مزاجها لا يفارقها إذ كان معتاد الناس في الدنيا ندرة ذلك المزاج لغلاء ثمنه وقلة وجدانه.

وشرب أهل الجنة على سبيل الترفه والتلذذ فهم لا يشربون عن ظمأ كما في قوله تعالى لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118-119]

{{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا}} بمعنى: «منها» {{عِبَادُ اللَّهِ}} الأبرار. وهو إظهار في مقام الإضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافة تشريف.

{{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}} يثيرونها من منابعها في روض الجنة، إثارة مبهجة، تفنناً في النعيم.

والتفجير: هو الإنباع، وفتح الأرض عن الماء.. أي: استنباط الماء الغزير، وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حد ولا نضوب، فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعا.

وقيل: يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم.

{{يُوفُونَ}} الوفاء: أداء ما وجب على المؤدي وافيا دون نقص ولا تقصير فيه.

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإيمان والعمل الصالح، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجبا الثناء عليهم.

{{بِالنَّذْرِ}} استئناف مسوق لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم، مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالاً، كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية؟ فقيل: يوفون بما أوجبوه على أنفسهم من النذر، فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم؟

{{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ}} للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلا فإن شر ذلك اليوم ليس واقعا في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه.

{{شَرُّهُ}} عذابه {{مُسْتَطِيرًا}} منتشراً ظاهراً للغاية عام على الناس إلا من رَحِمَ الله.

السين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر. والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيها له بانتشار الطير في الجو، ومنه قولهم: «الفجر المستطير» وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوءه في الأفق، ويقال: «استطار الحريق» إذ انتشر وتلاحق.

** والجملة عطف على {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا: «صحة الاعتقاد، وحسن الأعمال».

** والمراد بالخوف خوف في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم. وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون.

** ووصف اليوم بأن له شرا مستطيرا وصفا مشعرا بعلة خوفهم إياه. فالمعنى: إنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب.

{{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى}} بمعنى: مع { {حُبِّهِ}} مع حب الطعام واشتهاؤه، كما قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]

أو على حب الله تعالى، لما سيأتي من قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإِنسَان:9]

وخصص الإطعام بالذكر لما في إطعام المحتاج من إيثاره على النفس كما أفاد قوله: {عَلَى حُبِّهِ}.

** والتصريح بلفظ الطعام مع أنه معلوم من فعل {يُطْعِمُون} توطئة ليبنى عليه الحال وهو {عَلَى حُبِّهِ} فإنه لو قيل: "ويطعمون مسكينا ويتيما وأسيرا" لفات في قوله {عَلَى حُبِّهِ} من معنى إيثار المحاويج على النفس، على أن ذكر الطعام بعد {يُطْعِمُون} يفيد تأكيدا مع استحضار هيئة الإطعام حتى كأن السامع يشاهد الهيئة.

{ {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} } مأسوراً من حرب أو مصلحة. وإنما اقتصر على الثلاثة لأنهم من أهم من تجدر الصدقة عليهم؛ فإن المسكين عاجز عن الاكتساب لما يكفيه. واليتيم مات من يعوله ويكتسب له، مع نهاية عجزه بصغره. والأسير لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلةً.

** وجمع أصناف ثلاثة: الأول والثاني من المسلمين غالبا، أما الثالث وهو الأسير فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلا من الكفار، وإن كانت السورة مكية إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم.

وهذا من محاسن الإسلام وسمو تعاليمه وإن العالم كله اليوم لفي حاجة إلى معرفة هذه التعاليم السماوية السامية حتى مع أعدائه.

كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]

{{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}} قائلين ذلك بلسان الحال أو المقال، وإزاحة لتوهم المنّ المبطل للصدقة، وتوقع المكافأة، أي: لا نقصد بإطعامكم إلا ثوابه تعالى والقربة إليه والزلفى عنده. وإطلاق الوجه على الذات مجاز مشهور.

{{لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً}} مكافأة أو عوض عن العطية من خدمة وإعانة { {وَلَا شُكُورًا} } ثناءً ومديحاً.. والجملة مبينة لمضمون جملة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}.

{{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا}} عذاب يوم { {عَبُوسًا} } شديداً مظلماً. أو تعبس فيه الوجوه من شدة مكارهه وطول بلائه، والعبس: كلوح الوجه وعدم انطلاقه.

{{قَمْطَرِيرًا}} شديد الهول والكرب، والقمطرير: الشديد الصعب من كل شيء.

وفيه تأكيد الخوف بتكرير متعلقة ومرجع التكرير إلى كونه خوف الله لأن اليوم يوم عدل الله وحكمه.

وخوفهم من اليوم كناية عن عمل ما يؤمنهم فزعه وهوله من الصالحات.

وجملة {{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا}} إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}.

والمعنى: إنهم يقولون ذلك لهم تأنيسا لهم ودفعا لانكسار النفس الحاصل عند الإطعام، أي ما نطعمكم إلا استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله.

{ {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} } بسبب ما ذكر من خوفهم منه {وَلَقَّاهُمْ} جعلهم يلقون، أي جعل لهم {نَضْرَةً} حسن البشرة، وذلك يحصل من فرح النفس ورفاهية العيش، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] فمثل إلقاء النضرة على وجوههم بزج أحد إلى لقاء أحد على طريقة التمثيل.

{{وَسُرُورًا}} في القلوب.

وفاء {{فَوَقَاهُمُ}} للتفريع، وفي هذا التفريع تلوين للحديث عن جزاء الأبرار وأهل الشكور، وهذا برزخ للتخلص إلى عود الكلام على حسن جزاءهم أن الله وقاهم شر ذلك اليوم وهو الشر لمستطير المذكور آنفا، وقاهم إياه جزاء على خوفهم إياه وأنه لقاهم نظرة وسرورا جزاء على ما فعلوا من خير.

وهذه كقوله تعالى: {{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}} [عبس:38-39].

وذلك أن القلب إذا سُرَّ استنار الوجه، قال كعب بن مالك في حديثه الطويل: « "فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ» " [البخاري]

وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 39

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً