نواة ناحال.. الاستيطان الصهيوني حين يعود بزيّ عسكري

منذ 3 ساعات

في خطوة مثيرة للجدل، تعود إسرائيل لتفعيل نموذج "نواة ناحال" العسكري في غزة، مستثمرة تاريخها في دمج الجيش بالاستيطان، ما ينذر بتصعيد جذري في المشهد الفلسطيني عبر عودة الاستيطان إلى قطاع غزة

في تصعيدٍ جديد لمشاريع الاستيطان الصهيونية، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن نية إقامة ما أسماه "نواة ناحال" في شمال قطاع غزة، في تصريحات أثارت جدلًا واسعًا على المستويين الإقليمي والدولي. هذا الإعلان لا يعدّ زلة لسان في خطاب سياسي عابر، بل مؤشر على عودة التفكير الاستيطاني الإسرائيلي بصيغة عسكرية ـ أمنية، مستندًا إلى برنامج تاريخي تأسس عام 1948م لدمج الخدمة العسكرية ببناء المستوطنات، ما جعله أداة مزدوجة للسيطرة على الأراضي الفلسطينية وتشكيل جيل جديد مرتبط مباشرة بالاحتلال. ومع هذا التوجه، تعود إسرائيل لتعيد رسم حضورها في قلب القطاع، مستثمرةً في تاريخ تجربتها السابقة لإضفاء الشرعية على مشاريع استيطانية تحت غطاء الجيش، بما يكرّس الاحتلال ويقوّض أي أفق للسلام العادل أو لإقامة الدولة الفلسطينية.

جذور الاستيطان:

يعود برنامج ناحال إلى عام 1948، في أعقاب النكبة الفلسطينية، حيث أسسه ديفيد بن غوريون ضمن رؤية ربطت بين الجيش والسيطرة على الأرض، تحت شعار "شباب  عمال - مقاتل". كان الهدف الأساسي من البرنامج مزدوجًا: تدريب شباب يهود على الخدمة العسكرية، وفي الوقت نفسه توطيد الوجود اليهودي عبر إنشاء مستوطنات في الأراضي التي احتلتها إسرائيل. يعدّ برنامج ناحال هو الإطار الأيديولوجي التنظيمي وليس وحدة عسكرية بحد ذاته، بل فلسفة صهيونية ترى أن الاستيطان جزء من الأمن، وأن الجندي يجب أن يكون مستوطنًا، والمستوطن جنديًا عند الحاجة، أما نواة ناحال "لواء ناحال" فهي الأداة البشرية التنفيذية داخل البرنامج. وهي عبارة عن مجموعات صغيرة متماسكة من الشباب اليهود، يعيشون ويتدربون ويعملون معًا، ثم يلتحقون بالجيش كوحدة واحدة، وبعد الخدمة يعودون لتأسيس مستوطنة جديدة أو تعزيز مستوطنة قائمة، بعبارة أدق فإن نواة ناحال هي الخلية الاستيطانية الأولى.

في السنوات الخمس الأولى، ساهمت عناصر ناحال في تأسيس أكثر من 30 مستوطنة في الضفة الغربية وشمال فلسطين التاريخية، لتصبح قاعدة لتوسيع السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وقد أشار موشيه ديان إلى هذا اللواء آنذاك باعتباره "جهازًا لتثبيت الجبهة الداخلية في المناطق الحدودية". وخلال العقود التالية، تطور لواء ناحال ليصبح من أهم الأذرع العسكرية الاستيطانية في إسرائيل، وشارك في معظم النزاعات الكبرى التي خاضتها الدولة الصهيونية. ففي حرب 1967، كانت عناصر ناحال في طليعة القوات الإسرائيلية التي احتلت الضفة الغربية وشمال سيناء، بينما خاضوا في حرب 1973 معارك عنيفة في سيناء والجولان. كذلك نفّذ اللواء عمليات داخل القرى الفلسطينية المحتلة، مستهدفًا مقاومة الفلسطينيين ومصادر المقاومة المسلحة، وهو ما رسّخ فكرة ربط الاستيطان بالأمن العسكري.

 

العودة اليوم لإحياء هذا النموذج في غزة، كما أعلن يسرائيل كاتس، ليست مجرد محاولة تنظيمية أو تدريبية، بل تكرار لتجربة تاريخية أثبتت نجاحها بالنسبة لإسرائيل في تثبيت المستوطنات

لواء ناحال لم يقتصر دوره على التدريب العسكري، بل تورّط في عمليات واسعة أثارت جدلاً دوليًا بسبب ما اعتُبر مجازر ضد المدنيين الفلسطينيين. من أبرز هذه العمليات:

* في سبعينيات القرن الماضي، شارك عناصر ناحال في حملات عسكرية داخل القرى الحدودية للضفة ولبنان، حيث تم تدمير المنازل وارتكاب انتهاكات ضد المدنيين تحت غطاء الأمن العسكري.

* خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، كان لعناصر ناحال دور في القمع المباشر للمظاهرات والانتفاضات، وشارك في عمليات اعتقال واسعة ومداهمات أدت إلى سقوط عشرات الشهداء الفلسطينيين.

* وفق بعض التقارير التاريخية، تورّطت وحدات من ناحال في تنفيذ سياسات التهجير القسري للفلسطينيين من مناطق معينة في الضفة، خصوصًا خلال مراحل توسيع المستوطنات الزراعية.

اللواء أيضًا لعب دورًا رمزيًا في بناء جيل جديد من الجنود المستوطنين، عُرِفَت لاحقًا باسم تجمعات "الغرينيّيم" أو النوى، والتي تضم شبابًا مدربًا على القتال، يعيش معًا، يعملون في المشاريع الزراعية والمستوطنات، ثم يعودون إلى الجيش كوحدة متماسكة. القادة العسكريون في ناحال، مثل العقيد عمير أبوليفا الذي تولى قيادة اللواء في 2010، أكدوا أن البرنامج يهدف إلى تشكيل جيش مرتبط مباشرة بالأرض والمجتمع الاستيطاني، أي أن الاستيطان لم يكن مجرد سياسة مدنية، بل أداة للسيطرة العسكرية والهوية القومية الصهيونية.

إحياء البرنامج مجددًا:

العودة اليوم لإحياء هذا النموذج في غزة، كما أعلن يسرائيل كاتس، ليست مجرد محاولة تنظيمية أو تدريبية، بل تكرار لتجربة تاريخية أثبتت نجاحها بالنسبة لإسرائيل في تثبيت المستوطنات وفرض السيطرة على الأرض الفلسطينية بالقوة. لم يستخدم كاتس مصطلح "مستوطنات" بالمعنى التقليدي، بل تحدث عن مواقع ترتبط مباشرة بالجيش الإسرائيلي، وهو ما يشير إلى أن إسرائيل تعمل على خلق شرعية مزيفة لنشاط يُعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني.

 

الحديث اليوم عن نواة ناحال في قطاع غزة لا يندرج ضمن خطاب أمني تقليدي، بل تحرك سياسي محسوب يعكس الانتعاش اليميني داخل إسرائيل واستراتيجيته لتعبئة قواعده قبل الانتخابات القادمة في 2026م

حتى عام 2025 بلغ عدد المستوطنات التي أقيمت عبر أطر مشابهة لـ"الغارينيم" أكثر من 1200 وحدة سكنية في الضفة الغربية وحدها، بما يوضح أن هذه البرامج أصبحت أداة استراتيجية دائمة لتعميق الاحتلال. الحديث عن نواة ناحال في غزة، إذا تم تنفيذه، سيعيد خلق هذا النمط العسكري الاستيطاني، ويحوّل قطاع غزة إلى منطقة متماسكة عسكريًا وسكنيًا، في خطوة تهدد الأرض الفلسطينية وأصحابها بشكل مباشر.

الحكومة الإسرائيلية تقدم هذا المشروع باعتباره إجراءً أمنيًا لحماية الإسرائيليين، لكن الواقع يشير إلى أن الدافع الحقيقي استيطاني توسعي. المشروع يهدف إلى استبدال السكان الفلسطينيين بتجمعات شبابية عسكرية مرتبطة مباشرة بالجيش والدولة، وهو ما يعيد إنتاج تجربة ناحال التاريخية في الضفة الغربية التي أثبتت نجاحها في فرض السيطرة وخلق جيل جديد من الجنود المرتبطين بالاستيطان. تصريحات كاتس جاءت ـ وهو يقف في مستوطنة بيت إيل ـ في وقت يشهد تصاعدًا في النشاطات الاستيطانية بالضفة الغربية، مع توسع حكومة نتنياهو في مشاريعها، ما يوضح أن الاستراتيجية الحالية لا تقتصر على غزة وحدها، ويعكس نية إسرائيل توحيد مشروعها الاستيطاني العسكري عبر الضفة وغزة، ليصبح الاستيطان أداة استراتيجية للهيمنة والسيطرة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

الانتعاش اليميني:

الحديث اليوم عن نواة ناحال في قطاع غزة لا يندرج ضمن خطاب أمني تقليدي، بل تحرك سياسي محسوب يعكس الانتعاش اليميني داخل إسرائيل واستراتيجيته لتعبئة قواعده قبل الانتخابات القادمة في 2026م. فالمشروع الاستيطاني يُوظف لاستقطاب الناخبين الذين يعتبرون أن السيطرة على الأراضي الفلسطينية جزء من الهوية الصهيونية، وأن أي تنازل عنها يُعد خيانة للأرض والدولة. لهذا فإن إعلان كاتس يصب مباشرة في خطاب سياسي يميني متشدد يعزز الولاء لحكومة نتنياهو الحالية ويعيد إنتاج الاستيطان كأداة للسياسة الداخلية، ويُنظر إليه على أنه وسيلة لتوحيد قواعد اليمين حول مشروع وطني توسعي يمنح الحكومة الحالية قوة سياسية في الداخل.

لكن هذه الخطوة ليست موحدة في تأييدها داخليًا؛ فبينما يظهر دعم شعبي بين قطاعات واسعة من اليمين المتطرف الذي يرى في نواة ناحال ضمانة أمنية واستراتيجية لتعزيز النفوذ، هناك معارضة ملحوظة في الأوساط السياسية غير الحكومية والأحزاب المركزية، التي تحذر من أن هذه السياسات قد تضاعف الضغط الدولي على إسرائيل، وتزيد من العزلة الدبلوماسية، وتغذي الصراع المستمر مع الفلسطينيين. دراسات الرأي الأخيرة داخل إسرائيل تشير إلى أن نحو 60% من اليمين يؤيد مثل هذه الإجراءات الاستيطانية، بينما يرى غالبية الوسط واليسار أنها تزيد من التوترات وتضر بالموقع الدولي لإسرائيل. ومن ناحية أخرى؛ فإن هذه الخطوة قد تكون خيارًا محفوفًا بالمخاطر؛ فدمج الاستيطان بالجيش بشكل مؤسسي في غزة يضع إسرائيل أمام تحديات لوجستية وأمنية ضخمة، ويزيد من استمرار المواجهات مع الفلسطينيين وهو ما يستنزف الموارد العسكرية والمالية.

وكان من الملاحظ أيضا خلال عملية طوفان الأقصى التي بدأت في أكتوبر 2023، أن لواء ناحال قد شارك بشكل مباشر في المعارك البرية داخل قطاع غزة، خصوصًا في بيت حانون ورفح والمناطق الشمالية، متكبّدًا خسائر بشرية معتبرة شملت ضباطًا وجنودًا ضمن وحداته القتالية، كما تعرضت وحداته لضربات نوعية من المقاومة الفلسطينية عبر أنفاق وهجمات مباشرة، ما أظهر صعوبة السيطرة على الأرض حتى بالنسبة للواء مخضرم تاريخيًا، وبيّن حجم التحديات التكتيكية التي تواجه أي قوة إسرائيلية تعتمد على هذا النموذج العسكري الاستيطاني في مواجهة مقاومة منظمة وفاعلة على الأرض.

تبعات وعواقب:

في حال جرى تنفيذ برنامج ناحال فعليًا في قطاع غزة، فلن يمثل الأمر إجراءً ظرفيًا، بل سيُشكّل نقلة نوعية في إعادة هندسة الاحتلال عبر الدمج المباشر بين السيطرة العسكرية والاستيطان طويل الأمد. فالتجربة التاريخية الإسرائيلية تثبت أن كل وجود عسكري دائم يتحول تدريجيًا إلى واقع مدني استيطاني، ما يجعل الحديث عن نواة مؤقتة مجرد تمويه لغوي لمشروع توسعي مستدام. قد تتجلّى العواقب المتوقعة لهذا المشروع في مجموعة من النتائج المترابطة، يمكن تلخيص أبرزها في الآتي:

* تعميق التهجير القسري عبر خلق مناطق عسكرية مغلقة تمنع عودة السكان أو تدفعهم للنزوح القسري تحت ذريعة الضرورات الأمنية.

* تغيير ديمغرافي ممنهج من خلال إحلال تجمعات يهودية مرتبطة بالمؤسسة العسكرية محل التجمعات الفلسطينية، بما يعيد رسم الخريطة السكانية للقطاع.

* تطبيع الاحتلال الدائم عبر تحويل الوجود العسكري إلى بنية ثابتة تتعايش معها المؤسسات الإسرائيلية السياسية والأمنية كأمر واقع.

* تصعيد دورة العنف نتيجة الاحتكاك المستمر بين قوات الاحتلال والسكان المدنيين، ما يُبقي غزة في حالة اشتعال دائم.

في المحصلة، لا يمكن فصل برنامج ناحال عن البنية الاستعمارية التي قامت عليها دولة الاحتلال منذ تأسيسها؛ بنية ترى في القوة العسكرية وسيلة لإعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا معًا. وعليه، فإن خطورة هذا المشروع لا تكمن فقط في آثاره المباشرة على غزة، بل في كونه نموذجًا قابلاً للتعميم على باقي الأراضي الفلسطينية، بما ينذر بمرحلة أكثر قسوة من الصراع، تُغلق فيها أبواب الحلول وتُفتح على مصراعيها سيناريوهات الهيمنة الدائمة. وفي ظل هذا المشهد، يبقى الشعب الفلسطيني نازحًا في أرضه، يدافع عن وجوده وحقوقه، في مواجهة أدوات استيطان جديدة تعيد كتابة التاريخ عبر البندقية دون سواها.

__________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر

  • 0
  • 0
  • 32

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً