انعزلت عن المجتمع فتغيرت أفكاري
أنا طالبة جامعيةٌ متخصصة في الصِّحة، مُنْعَزِلة عن بيئتي بسبب تربيتي منذ الصِّغَر؛ لأنَّ والدتي ترفُض أن أختلطَ مع بنات جيلي، وتخاف من أن أتأثَّر بتصرفاتهنَّ.
تأثَّرْتُ بهذا الوَضْعِ، وتأقْلَمْتُ عليه إلى أن كبرتُ، واعتكفتُ على الكتب والقراءة، وقرأتُ كل شيءٍ، حتى راودتْني كثيرٌ مِن الأفكار والتساؤلات، منها:
• لماذا نتَّبِع دين الإسلام، ونحن لا نُطَبِّق جميعَ تعالميه؛ ففي بلادنا مثلًا لا يعترفون بالديانات السماوية الأخرى، ولا ندرسها في مناهجنا؟
• لماذا نشتم أهل الكتاب، ونطعن في الشيعة، ونُكَفِّر الناس بسهولة، رغم أن التكفيرَ والطعْنَ في الأنساب مُحَرَّم في الإسلام؟
• لماذا أجد "بعض" المشايخ يُرَدِّدون ألفاظًا لا تليق بأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- عندما يتحدثون عن الذين يتبعون دينًا غير دينهم، أو مذهبًا غير مذهبهم؟
توصَّلْتُ لنتيجةٍ مُؤلمةٍ، والآن أنا مُتيقِّنة بها، وأجزم بصحتها، وهي: أن أغلبنا يتَّبع الإسلام فقط لأنه دين آبائه وأجدادِه، قرَّرْتُ أن أقرأَ في الأديان السماوية، خصوصًا أنها تُشابه الإسلامَ في التحليل والتحريم.
قرأتُ في التوراة والإنجيل، وكنت خائفةً مِن أن أكونَ مِن المُرْتَدِّين، وكنتُ كلما قرأتُ سِفْرًا أُرَدِّد: "يا مُقَلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دين الحق"!
لم أقتنعْ أبدًا لأني وجدتُ ألفاظًا لا تليق بالديانات، كما أن طريقة السَّرْدِ ركيكةٌ جدًّا، ولا تليق بكتابٍ كهذا، والجاهلُ يَجْزِم بأنه مُحَرَّفٌ، فما بالكم بالمتعلم الواعي؟!
اقتنعتُ بالإسلام أكثر؛ لأنه دينٌ منطقيٌّ وعقلانيٌّ، ثم أنشأتُ لنفسي بيئةً خاصةً وأفكارًا وعقائدَ وطُمُوحات، ووضعتُ لنفسي قيودًا وحدودًا لا أسمح لأحدٍ بتجاوُزها، أُقابل الناسَ بمُجاملةٍ عند الضرورة، أتصرَّف بلُطْفٍ أمام كبار السن.
لستُ سيئةً، لكني أصبحتُ أخشى مِن العظَمة التي تُراودني بين الفينة والأخرى؛ لأني كلما تعمَّقْتُ في العلم والكُتُب -لا شعوريًّا- أستَصْغِرُ المجتمعَ، خصوصًا عندما أقرأ التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعيِّ، أجد فيها كميةَ تخلُّف وجهلٍ لا تُطاق.
زاد الأمر عندي حتى أصبحتُ أشعر بأنَّ وُجودي في هذه الدولة ظُلْمٌ وكبْتٌ لحريتي وعقليتي، ولا أقصد بالحرية هنا تلك التي تُناجي التمرُّد على الدين، بل أقصد الحرية التي تُتيح لي أن أتعلَّمَ وأتوظَّفَ بلا قيودٍ اجتماعيةٍ، بلا فسادٍ إداريٍّ، بلا رجال حَمْقَى يتشبَّثون بمناصبَ عُليا، ويرَوْنَ أنَّ المكان الأنسبَ للفتاة بيت زوجها أو مطبخها.
أنا مُتيقِّنة من أنَّ بلاد العرب لا تَصْلُح للحياة، فهي فقط للموت! وهذا الأمر يكاد يقتلني مِن شدة التفكير، فكلما شاهدتُ أبناء الوطن وهم يبيعون اختراعاتهم وأفكارَهم للجامعات التي تستغل حاجتهم، بدون أن نجد مُنَظَّمَةً تَحْمِيهم مِن الاستغلال أتمسَّك بيقيني بأنَّ الحياة هُنا تُكَلِّفنا بَيْعَ عُقولنا!
كنتُ أعمل كاتبةً في ثلاث صُحُفٍ محلية وخارجية، وتركتُها خوفًا مِن شعور العظَمة الذي يُراوِدني، فماذا أفعل؟
هل تنصحونني بتَرْك القراءة، رغم أن الكُتُبَ التي أقتنيها محتواها لا يتنافى مع الإسلام أبدًا؛ فهي عن التنمية البشرية، والقيادة، والطب، والتسويق، والإدارة، والنجاح، والموارد البشرية والصحية، وتحفيز الذات؟!
هل تنصحونني بالعودة للكتابة؛ لأني أعتصر ألمًا عندما أتجاهل أفكاري بلا تدوين؟!
وجزاكم الله خيرًا
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ ما تشعرين به -أيتها الابنة الكريمة- مِن تضارُبٍ في القِيَم والاختلاف البعيد بين قِيَم الإسلام ومنهجه القويم، وبين انحطاط المسلمين، فإنما يَرْجِعُ في الأساس إلى بُعْدِ الناس عن دينهم، وخُفُوت نور الإيمان في القلوب، وإلى التطبيق السيئِ لتعاليم الإسلام، وعدم أخذنا بسُنن الله -سبحانه وتعالى- في التدافع والتقدُّم، فأقصينا الشريعة السمحاء مِن الحكم ونَحَّيْناها مِن الواقع، وتغلغلتْ في النفوس الهزيمةُ النفسيةُ أمام غير المسلمين.
يقول أمير البيان شكيب أرسلان: "مِن أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقْدُهم كل ثقة بأنفسهم، وهو مِن أشد الأمراض الاجتماعية، وأخْبَث الآفات الرُّوحية، لا يتسلط هذا الداء على أمة إلا ساقها إلى الفناء".
أما تساؤلاتك عن عدم تدريس الدِّيانات الأخرى في بلادنا، فقد وقفت بنفسك على الكمِّ الهائل من التحريف والتبديل في تلك الديانات، فما الفائدة إذًا في دراستها وتشويش ضعاف العقول بها، وهي شرٌّ محضٌ؟!
أما الشيعةُ فلو نظرتِ في كُتُبِهم فستجدين ما لا يُصَدَّق من الكَذِب والضلال والغلو والإلحاد، ومُعاونة الكفَّار والمشركين والشِّرْك والحُمْق وقلة العقل؛ فاعْتَقَدُوا عصمةَ أهل البيت -رضي الله تعالى عنهم- وعصمةَ ذُرِّياتهم وأئمتهم، وفي نفس الوقت تقرَّبوا إلى الله بِسَبِّ أبي بكر وعمر، وتسميتهم لهما بصنمَيْ قريش، وأنهما المقصودان بالجِبْتِ والطاغوت، وأنهما ما زالا منافِقَيْنِ، وتكفيرُهم لذي النورين عثمان، وجمهورِ السابقين الأولين، وخيرِ القرون أصحاب رسول الله، ويرمون أم المؤمنين عائشة بالزنا؛ وهي زوجةُ إمام أهل البيت، المُبَرَّأة من الله في قرآن يُتلى، واعتقادهم تحريف القرآن ونقصه، واستغاثتهم بالأموات، ودعاؤهم مِن دون الله، والسجودُ لقبورهم!
وزعمُهم أنَّ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إمامٌ معصومٌ، وأنَّ مَن خالَفَه كفَر، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نَصَّ عليه، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص، وكفروا بالإمام المعصوم، وبدلوا الدين، وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا!
أما استخدام البعض -كما تقولين- لألفاظٍ لا تليق مع أعداء الإسلام عمومًا، فهذا أمرٌ غير جائز، بل يجب أن تكونَ مناقشتهم بحُسن خُلُق ولُطف ولين، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد عن الباطل وتهجينه، بأقرب طريق مُوصل لذلك، ويكون القصد من كلامهم بيان الحق وهداية الخلق، إلا من ظلم من أهل الكتاب؛ قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].
أما ما تخشينه على نفسك مِن الكبر والعظمة، فالخوفُ دليل حياة القلب، وعلاج ذلك يسيرٌ -إن شاء الله تعالى- فيكفي أن تضعي أمام عينك ذم الشارع للمتكبرين وتدبر آيات الكتاب الكريم من ذم المُتَكبّرين، كقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]، وقال -عز وجلَّ-: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23]، وقال تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «
» (رواه أحمد والترمذي، مِنْ حديث عبدالله بن عمرو)، وعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ب « » (متفق عليه). (الخُيلاء: الكبر مع الإعجاب بالنفس).قال أبو حامد الغزالي في "الإحياء":
"المقام الأول في استئصال أصْله -الكبْر- وعلاجه علمي وعملي، ولا يتم الشِّفاء إلا بمجموعهما، أما العلمي: فهو أن يعرفَ نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر، فإنَّه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل مِنْ كُل ذليل، وأقل مِنْ كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضُع والذلَّة والمهانة، وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله.
وأما العلاج العملي: فهو التواضُع لله بالفعل، ولسائر الخلْق بالمُواظَبة على أخلاق المتواضعين، كما وصفناه وحكيناه مِن أحوال الصالحين، ومِن أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه كان يأكل على الأرض، ويقول: «
»، وقيل لسلمان: لَم لا تلبس ثوبًا جديدًا؟ فقال: إنما أنا عبدٌ، فإذا أُعتقت يومًا لبست جديدًا، أشار به إلى العتق في الآخرة، ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل". اهـ. مختصرًا.أما ترْكُك للكتابة في الصحف فليس علاجًا، وإنما هو وسواس من الشيطان ليشغلك بالباطل، فالترْكُ ليس علاجًا إلا لما حَرَّمَهُ اللهُ، وقد قال أهلُ العلم: ترْكُ العمل مِن أجل الناس رياء، فالإنسانُ إن خاف على نفسه الرياء فلا يمتنع مِن فِعْل الخير، وإنما يعمل ويُجاهد نفسه ويداويها بأدوية الشرع، فعاودي الكتابة، وما لا تستطيعين نشره فدعيه عندك حتى يأتيَ يومٌ يرى فيه النور، وكلما أعجبتْك نفسك ذكريها بأنَّ كلَّ نعمةٍ ظاهرة وباطنة من الله، لا أحد يشركه فيها، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
وأخيرًا أنصحك بالتحلي بالسلم النفسي، حتى تستطيعي إصلاح المجتمع والتأثير الإيجابي فيه، ولا تستكثري هذا ولا تستصعبيه، واستمدي العون مِن الله، وتسلَّحي بالعلم والثقافة والصبر، فمَن شاء أن يُصْلِحَ مجتمعه فليردَّ الناس إلى الإسلام وشريعة الإسلام، ومنهج الإسلام يردهم إلى النظافة والطهارة والاستقامة والاعتدال، فالإسلام نظامٌ متكاملٌ لا يعمل إلا وهو كامل شامل.
ولو تأملتِ كتاب الله وتدبَّرْتِ آياته، لعلمتِ أن الله تعالى أوْجَبَ على الفرد أن ينصح، وأن يحاول الإصلاح غايةَ جهده، وأنه إذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها، فإنما هو محاسبٌ على إحسانه.
وأُرَشِّح لك بعضَ الكتُب للقراءة؛ مثل:
(هل نحن مسلمون؟)، و(واقعنا المعاصِر)، و(مذاهب فكريَّة مُعاصِرة)، و(المستشرقون والإسلام)؛ جميعها للأستاذ/ محمد قطب. و(لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم غيرُهم؟)، و(حاضر العالم الإسلامي)؛ لأمير الأدب/ شكيب أرسلان. و(وحي القلم)؛ لشيخ الأدباء/ مصطفى صادق الرافعي.
وفَّقك الله لما يحبه ويرضاه.
- التصنيف:
- المصدر: