الانحراف بعد الزواج

منذ 2016-12-28
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لا أدري من أين أبدأ؟ لكنني جئتُكم بعد أن أحسستُ بأني أكاد أغرق، أو غرقت بالفعل!

قبل أن أتزوَّج كنتُ فتاةً ملتزمةً مؤدبةً، مِن أسرة محافظة، لكن عندما أختلي بنفسي، يتملكني إحساسٌ بأني فتاةٌ أخرى؛ فأضع مكياجًا، وألبس ملابسَ غير محتشمة، وأمسك قلمًا أتخيله سيجارة، وأحتسي ماءً وأتخيله خمرًا، وأكلم أشخاصًا وهميين!

ثم تزوجتُ من شخصٍ متدينٍ كما كان يبدو عليه، خلوقٍ كما عاشَرْتُه في البداية، سألته يومًا: لماذا تكون الجلساتُ الحميميةُ غير الشرعية مجالس خمر ورقص؟ فقال زوجي: من أجل المتعة!

فقلتُ: لِمَ لا نجرِّب هذه الجلسات؟!

وبالفعل أتى زوجي بالخمر والسجائر، رغم أنه لا يدخِّن ولا يشرب الخمر، فمثلتُ تلك الشخصية القابعة داخلي. لكن بعدها أفقتُ على ندمي الشديد، ولم ينفع الندمُ فأَعَدْنا الكرة مرات ومرات، وأصبحتْ جلساتنا لا تحلو بدون ذلك!

أشعر بالمرارة، أشعر بالندم، وألوم زوجي: لماذا استجبتَ إلى طلبي دون تفكير؟ أشعر بالندم الشديد، وفي الوقت نفسه أشعر بلذة خفيةٍ، لذة شيطانية تتقافز إلى السطح، تم تقتلها مرارة ندمي!

أنا نادمةٌ، فهل من توبة؟ وكيف أتوب؟ كيف أحرِّر زوجي من هذه الجلسات التي أحبها؟ كيف نستيقظ من غفلتنا ونحن نعي أن الخمر من الكبائر؟

زوجي حلالي، لكننا حوَّلنا الحلال إلى حرام، لا تقسُوا عليَّ، ولا تظنوا أني سعيدةٌ بما فعلت، لكني أطلب المساعدة، أريد أن أخرج مما فعلتُ، أريد أن أغتسلَ من ذنبي!

أخبروني كيف أتوب؟ أخبروني كيف أزيل من داخلي هذه الشخصية الغريبة الجريئة الساقطة وأعود إلى حياتي السابقة مرة أخرى؟

يساورني إحساس بأن عذابي قريب، وأريد أن أتوب، أرجوكم لا تتركوني دون جوابٍ ساعدوني؛ فربما أجد مَن يأخذ بيدي ويردني إلى الصواب.

وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فلن أقسوَ عليك - أيتها الأخت الكريمة - وليس لأحدٍ الحق في أن يُعامل أحدًا من الناس - مهما كان خطؤه - معاملةً قاسية؛ كيف واللهُ تعالى قد أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوَ إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، فهذه هي الوسيلةُ والطريقة إلى التبليغ، وهذا لا يُنافي أن أكونَ صادقًا معك، وحاسمًا في بيان كلمة الحق؛ رغبةً في نجاتك، وخروجك سالمةً مما أَلَمَّ بك.

ليست المشكلةُ في أن تخطئي أنت وزوجك؛ فكلُّ ابن آدم خطاءٌ، وخيرُ الخطائين التوابون؛ كما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أيضًا: «والذي نفسي بيده، لو لم تُذنبوا لَذَهَبَ الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم»؛ رواه مسلم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن عبدًا أصاب ذنبًا - وربما قال: أذنب ذنبًا - فقال: ربّ أذنبتُ - وربما قال: أصبتُ - فاغفرْ لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخُذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا، أو: أذنب ذنبًا، فقال: ربّ أذنبتُ - أو أصبتُ - آخر، فاغفره؟ فقال: أعلم عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، وربما قال: أصاب ذنبًا، قال: قال: رب أصبتُ - أو قال: أذنبتُ - آخر، فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي ثلاثًا، فليعمل ما شاء».

فالذنبُ لو تكرر مائة مرةٍ، أو ألف مرةٍ، أو أكثر، وتاب العبد في كل مرةٍ، قُبِلَتْ توبتُه، وسقطتْ ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبةً واحدةً بعد جميعها، صحتْ توبته، المهم عدم القنوط مِن رحمة الله، أو استكثار الذنب، أو عدم التوبة؛ فالتوبةُ تغفر جميع الذنوب، ولو كانتْ ملء الأرض؛ كما في مسند أحمد: أن أبا ذرٍّ قال: حدثنا الصادقُ المصدوقُ - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه - عز وجل - أنه قال: «الحسنةُ بعشر أمثالها أو أزيد، والسيئة بواحدةٍ أو أغفر، ولو لقيتني بقُراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي لقيتُك بقرابها مغفرةً، قال: وقراب الأرض: ملء الأرض».

قال ابن القيم في مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 336): "واعلمْ أن الإصرارَ على المعصيةِ يُوجِبُ مِن خوف القلب مِن غير الله، ورجائه لغير الله، وحبِّه لغير الله، وذُلِّه لغير الله، وتوكُّله على غير الله - ما يَصيرُ به مُنْغَمِسًا في بِحار الشرك، والحاكمُ في هذا ما يعلمه الإنسانُ مِنْ نفسه، إن كان له عقلٌ، فإنَّ ذُلَّ المعصية لا بد أن يقومَ بالقلب فيورثه خوفًا من غير الله، وذلك شركٌ، ويورثه محبةً لغير الله، واستعانةً بغيره في الأسباب التي تُوصله إلى غرضه، فيكون عمله لا بالله، ولا لله، وهذا حقيقةُ الشرك.

نعم قد يكون معه توحيدُ أبي جهلٍ، وعُبَّاد الأصنام، وهو توحيد الربوبية، وهو الاعترافُ بأنه لا خالق إلا الله، ولو أنجى هذا التوحيد وحْدَهُ، لأنجى عبَّاد الأصنام، والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحِّدين.

والمقصودُ أنَّ من لم يشرك بالله شيئًا يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا، مُصِرًّا عليها، غيرَ تائبٍ منها، مع كمال توحيده الذي هو غايةُ الحبِّ والخُضوع، والذلِّ والخوف والرجاء للرب تعالى".

الأخت الكريمة، أنت تعلمين - بلا أدنى شك - أن الخمرَ أم الخبائث كبيرةٌ مِن الكبائر، وهي مِن جُملة الذنوب التي تَوَعَّد الله صاحبها بالعذاب الأليم والمضاعَفِ إذا لم يَتُبْ، وفي هذا ردعٌ لكل مسلمٍ عن اقترافها، والبُعد عن كل الطرُق المؤَدِّية إليها، وكل عاقلٍ يسمع نَهْي الله ووعيد العزيز الجبار - جل جلاله - عليه أن يخاف الله تعالى، ويتدارك نفسه بالتوبة قبل أن يدركه الأجلُ وهو مُصِرٌّ على المعصية، فيحرم نفسه نعيمًا أبَدِيًّا مِن أجْلِ لذة لحظةٍ يُعاقَبُ عليها دهورًا.

ومِن لُطْف الله بعباده أنه جعل باب التوبة مفتوحًا ما دام الإنسانُ على قيد الحياة، فبادري - بارك الله فيك - أنت وزوجك بالإنابة إلى الله، وأكْثِري من الاستغفار والأعمال الصالحة، فربُّك كريمٌ غفورٌ؛ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50].

وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 53 - 56].

هذا، وسأذْكُر لك بعضَ الطرُق التي تعينكما على اجتياز تلك الفتنة وتجنُّبها:

  • استحضري دائمًا اطِّلاع الله تعالى عليك، وأنه سبحانه يُحصي عليك كل صغيرةٍ وكبيرةٍ عملتِها، وأنه يعلم خواطرك وأفكارك؛ فهذا يجلب الاستحياءَ مِن الله أن يرى في قلبك ما يسخطه، وفي حديث جبريل عليه السلام: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان؟ فقال: {أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك}؛ متفقٌ عليه.
  • فاستِدامَةُ علمك وتيقُّنك من اطلاع الحق - سبحانه وتعالى - على ظاهرك وباطنك، وأنه سبحانه رقيبٌ عليك، ناظرٌ إليك، سامعٌ لقولك كل وقتٍ، وكل لحظةٍ، وكل نفَسٍ، وكل طرفة عينٍ، والغافل عن هذا المقام سيقع في المُحَرَّمات بلا شك.
  • مُطالَعة أسرار أسمائه وصفاته؛ كالعليم، والسميع، والبصير، والرقيب، والشهيد، والحسيب، والحفيظ، والمحيط؛ فثمرةُ ذلك الخوفُ منه سبحانه في السِّرِّ والعلن، والانتهاءُ عن معصية الله، والصدُّ عن داعي الشهوة.
  • الاستعانة بالصبر والصلاة، والاستعاذة مِن الشيطان، والذكر، وقراءة القرآن؛ قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200].
  • مُدافعة خواطر تلك الفواحش، ولا تَنْساقي إليها بل ادفعيها، ولا تسترسلي معها، وزاحميها بالخواطر الطيبة، واشغلي النفس بالفكر فيما ينفعك.
  • اجعلي مِن بيتك مَحْضنًا لطاعة الله، فإذا كانتْ غُرفة نومك مثلاً ارتبطتْ معك بالمعصية، أو كلما دخلتِها تذكَّرْتِ المعصية فتُستثارين، وتقعين في المحظور، فغيِّريها إلى غرفةٍ أخرى، وعَمِّري تلك الغرفة بقراءة القرآن، وقيام الليل، وصلاة السُّنن الرواتب والذِّكر؛ لتكون مُذَكِّرًا للطاعة، وليس العكس، فإذا دخلتِ تذكَّرْتِ كل هذا، فالإكثارُ مِن الطاعات في بيتك يربط نفسك بالخير، وبفعل الخير، فتستزيدين من ذلك، ويقل وُرُود المعصية على ذهنك، ويخف نداء الشهوة المحرَّمة.
  • الحرص على استغلال الوقت في طاعة الله - عز وجل - فالنفسُ إن لم تشغليها بالطاعة، شغلتْك بالمعصية.
  • خُذي نفسك بالقوة، ولا تتهاوني في الأمر، وتحلَّيْ بصدق العزيمة، فإذا صدقت الله تعالى صدقك، وإذا أعانك الله تعالى سهَّل عليك ترْك هذه المعاصي؛ فالجزاءُ مِن جنس العمل؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
  • أكْثِري مِن الدعاء، وقولي: «اللهم إني أعوذ بك مِن شرِّ سمعي، وبصري، ولساني، ومنيِّي»؛ يعني: الفرْج؛ رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الألباني.
  • ومنها: الدعاء الوارد في صحيح مسلم: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى».

وفي الدعاء المأثور: «اللهم اقسمْ لنا من خشيتك ما تَحُول به بيننا وبين معاصيك».

  • حسن الظن بالله تعالى، وعدم اليأس من التوفيق إلى التوبة.
  • أن تتذكري خطَر وشُؤم المعصية، وأنها قد تؤدِّي إلى كثيرٍ مِن العواقب السيئة في دين المرء ودنياه.

وأخيرًا أوصيك بالقراءة في كتاب الإمام أبي الفرج ابن الجوزي: "تلبيس إبليس"، وكذلك كتاب الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"؛ حيث ذَكَرَا الطرق التي يصيد بها الشيطان بني آدم، ويغويهم بها.

وفي الختام أسأل اللهَ أن يتوبَ علينا جميعًا، وأن يرزقنا الثباتَ على الخير.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 3
  • 0
  • 32,461

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً