أخاف أن أموت وفي قلبي كره لله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا فتاةٌ في بداية العشرين مِن عمري، كثيرًا ما أردِّد بيني وبين نفسي هذا السؤال:
لماذا خَلَقَنا الله نحن ذوي البشرة السوداء على هذه الشاكلة، مع ارتباط ذلك بالفقر..؟ ولو كنا فُقراء بهيئةٍ مَقبولةٍ لهان الأمرُ علينا، فكثيرًا ما أتَمَنَّى أن يكونَ شعري ناعمًا طويلاً، وأنفي جميلاً..
ولا أستطيع الزواج مِن رجلٍ وسيمٍ، بل حتى القبيح لم يأتِ لأنَّ القبيحين ممن لديهم قدرة مادية اتجهوا نحو الجميلات من البيض، وحظوا بهنَّ.
أنا حزينةٌ جدًّا، وأقول لنفسي: ليتني لم أوجدْ في هذه الدنيا، ولا أحاول النظر إلى من هم أقل مني كالمعاقين وغيرهم، فيكفيني ما ابتليتُ به.
رجوتُ الله كثيرًا، لأني معذَّبة في الدنيا، ومُرهقة وخائفة من أن أموت وفي قلبي كرهٌ لله لهذه الأسباب.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فالذي يَظْهر أنَّ ما أوقعك في تلك الورطة أيتها الابنة الكريمة هو الجهل بكمال حكمة الله تعالى في الخلْق، وأن خلق الأشياء وأضدادها مَحْضُ كمال، فلولا خلْقُ المتضادات لما عُرِف كمال القدرة والمشيئة والحكمة، فاللهُ تعالى لا يَخْلُق شيئًا عبَثًا، ولا يشرع إلا ما فيه مصلحة ظاهرة للعباد، وقد اقتضتْ حكمتُه البالغة خلْق الأضداد، فخَلَق الملائكة والشياطين، والليل والنهار، والطيب والخبيث، والحسن والقبيح، والأبيض والأسود، والخير والشر، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والسليم والسقيم، والعاقل والمجنون، ولولاها لم يظهرْ فضْلُه؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]؛ أي: وأكثر الناس لا يعلمون آية خلق السموات والأرض واختلاف الألسنة والألوان، فلا يراها إلا الذين يعلمون، وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر: 27، 28].
أما مَن خَصَّهم الله بالسواد دون غيرهم من أصحاب البشرة البيضاء، فإن من حكمة الله في خلقه أن يبتليهم ويبتلي بعضهم ببعض، ليَتَبَيَّن من يشكره ومن يكفره؛ قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، وهو الذي أحْسَن كلَّ شيء خَلَقَه وصنعه وأتقنه؛ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].
أما كيفية مقاومة تلك الأفكار أيتها الابنة العزيزة، فاسألي نفسك أولاً هذا السؤال:
هل يسمح خاطر مَن له أدنى مسكة من عقل بمثل هذا السؤال؟! وهل ذلك إلا موجَب ربوبيته وإلهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجَب صفات كماله عنها؟ وهل تمام الملك والحكمة وكمال القدرة إلا بخلْق المتضادَّات والمختلفات وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها إليه؟ وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا مِن لَوازم ربوبيته وملكه؟
وتأمَّلي رعاك الله ما كتَبَه شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص: 219): "إن الحكمةَ إنما تتم بخلْق المتضادات والمتقابلات؛ كالليل والنهار، والعلو والسفل، والطيب والخبيث، والخفيف والثقيل، والحلْو والمُر، والبَرْد والحر، والألم واللَّذَّة، والحياة والموت، والداء والدواء، فخَلْقُ هذه المتقابلات هو محلُّ ظهور الحكمة الباهرة، ومحل ظهور القدرة القاهرة والمشيئة النافذة والملك الكامل التام، فتوهُّم تعطيل خلْقِ هذه المتضادات تعطيلٌ لِمُقْتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها، وذلك عينُ المحال، فإنَّ لكل صفة من الصفات العليا حكمًا ومقتضيات وأثرًا هو مظهر كمالها، وإن كانتْ كاملةً في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها مِن كمالها، فلا يجوز تعطيلُه، فإن صفة القادر تستدعي مَقدورًا، وصفة الخالق تستدعي مَخلوقًا، وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدِّم المؤخِّر المعزّ المُذِل العفو الرؤوف تستدعي آثارها وأحكامها، فلو عطِّلَتْ تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه - لَم يظهرْ كمالُها وكانتْ مُعَطَّلة عن مُقتضياتها وموجباتها.
فلو كان الخلْقُ كلهم مطيعون عابدون حامدون لَتَعَطَّل أثرُ كثير من الصفات العلا والأسماء الحسنى، وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها، وتضعها مواضعها، فلو كان الخلْق كلهم أمة واحدة لفاتت الحِكَم والآيات والعِبَر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه، وفات كمال الملك والتصرف، فإن الملك إذا اقتصر تصرُّفه على مقدور واحد من مقدوراته؛ فإما أن يكون عاجزًا عن غيره، فيتركه عجزًا، أو جاهلاً بما في تصرُّفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلاً، وأما أقدرُ القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرُّفه في مملكته لا يقف على مَقدورٍ واحدٍ؛ لأنَّ ذلك نقصٌ في ملكه، فالكمالُ كل الكمال في العطاء والمنْعِ، والخفض والرفع، والثواب والعقاب، والإكرام والإهانة، والإعزاز والإذلال، والتقديم والتأخير، والضر والنفع، وتخصيص هذا على هذا، وإيثار هذا على هذا، ولو فعل هذا كله بنوعٍ واحدٍ مُتماثل الأفراد، لكان ذلك منافيًا لحكمته، وحكمتُه تأباه كل الإباء، فإنه لا يفرق بين متماثلين، ولا يُسَوِّى بين مختلفين، وقد عاب على من يفعل ذلك، وأنكر على مَن نسبه إليه...
إلى أن قال: (ص: 221-222): إنه سبحانه يجب أن يُشكر، وَيُحِبُّ أن يُشْكَر عقلاً وشرعًا وفطرةً، فوُجوب شكرِه أظهرُ مِن وجوب كل واجب، وكيف لا يجب على العباد حمده وتوحيده ومحبته وذكر آلائه وإحسانه وتعظيمه وتكبيره والخضوع له والتحدُّث بنعمته والإقرار بها بجميع طرُق الوجوب، فالشكرُ أحبُّ شيء إليه وأعظم ثوابًا، وأنه خلق الخلق، وأنزل الكُتُب، وشرع الشرائع، وذلك يستلزم خلْق الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل، ومِن جملتها أنْ فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة، في خلقهم وأخلاقهم، وأديانهم وأرزاقهم، ومعايشهم وآجالهم، فإذا رأى المعافى المبتلى، والغنيُّ الفقيرَ، والمؤمنُ الكافرَ، عظُم شكره لله، وعرف قدْر نعمته عليه، وما خصه به وفضله به على غيره؛ فازداد شكرًا وخُضوعًا واعترافًا بالنعمة، وفي أثرٍ ذَكَرَهُ الإمام أحمد في الزهد: "أن موسى قال يا رب، هلاَّ سويتَ بين عبادك؟ قال: إني أحببتُ أن أُشْكَر".
فإن قيل: فقد كان مِن الممكن أن يسوي بينهم في النِّعَم، ويُسَوِّي بينهم في الشكر كما فعل بالملائكة، قيل: لو فعل ذلك لكان الحاصلُ مِن الشكر نوعًا آخر، غير النوع الحاصل منه على هذا الوجه، والشكر الواقع على التفضيل والتخصيص أعلى وأفضل من غيره، ولهذا كان شكر الملائكة وخضوعهم وذلهم لعظمته وجلاله بعد أن شاهدوا من إبليس ما جرى له، ومن هاروت وماروت ما شاهدوه - أعلى وأكمل مما كان قبله، وهذه حكمة الربِّ، ولهذا كان شكر الأنبياء وأتباعهم بعد أن عاينوا هَلاك أعدائهم وانتقام الرب منهم، وما أنزل بهم من بأسه - أعلى وأكمل، وكذلك شكر أهل الجنة في الجنة، وهم يشاهدون أعداءه المكذبين لرسله المشركين به في ذلك العذاب، فلا ريب أن شكرهم حينئذٍ ورضاهم ومحبتهم لربهم أكمل وأعظم مما لو قدر اشتراك جميع الخلق في النعيم، فالمحبةُ الحاصلةُ من أوليائه له والرضا والشكر وهم يشاهدون بني جنسهم في ضد ذلك مِن كل وجه أكمل وأتم؛ فالضِّدُّ يُظهر حُسْنَه الضِّدُّ، وبضدِّها تَتَبَيَّنُ الأشياءُ.
ولولا خلْقُ القَبيح لما عُرِفَتْ فضيلة الجمال والحسن، ولولا خلق الظلام لما عرفتْ فضيلة النور، ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية، ولولا الجحيم لما عرف قدر الجنة، ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدًا لما عرف قدره، ولو جعل الليل سرمدًا لما عرف قدره، وأعرف الناس بقدر النعمة مَن ذاق البلاء، وأعرفهم بقدر الغنى من قاسى مرائر الفقر والحاجة، ولو كان الناس كلهم على صورة واحدةٍ من الجمال لما عرف قدر الجمال، وكذلك لو كانوا كلهم مؤمنين لما عرف قدر الإيمان والنعمة به، فتبارك مَن له في خلقه وأمره الحكم البوالغ والنعم السوابغ.
وما إخالك إلا وقد انشَرح صدرك لحكمة الله تعالى في الخلْق في دار الابتلاء والامتحان، وأدركت أن الله سبحانه يَبْتلي كل أحد بضدٍّ يجعله؛ فالأغنياءُ فتنةٌ للفقراء كما أن الأبيض فتنة للأسود؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]، والمفسدة التي تحصل لك مِن ذلك مغمورة جدًّا بالنسبة للمصالح والحكم المترتبة عليها، وهي كمفسدة المطر إذا بلَّ الثياب، وخراب بعض البيوت بالنسبة إلى مصالحه العامة التي منها حياة الإنسان والحيوان.
وفي الختام تسلي بتلك المعاني الراقية والحكم الجليلة مِن ابتلاء العباد:
وكم له سبحانه في مِثْل هذا الابتلاء والامتحان مِن حكمةٍ بالغةٍ، ونعمةٍ سابغةٍ، وحُكمٍ نافذٍ، وأمر ونهيٍ، وتصريف دالٍّ على ربوبيته وإلهيته، وملكه وحمده، وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدار هو من كمال حكمته ومقتضى حمده التام.
ولولا هذا الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر والرضا، والتوكل والجهاد، والعفة والشجاعة، والحلم والعفو والصفح، والله سبحانه يُحب أن يكرم أولياءه بهذه الكمالات، ويحب ظُهورها عليهم، ليثني بها عليهم هو وملائكته، وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور، وإن كانتْ مرة المبادئ، فلا أحلى من عواقبها، ووجود الملزم بدون لازمه ممتنع، وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأن كمال الغايات تابعة لقوة أسبابها وكمالها ونقصانها لنقصانها، فمَن كمَّل أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها، ومَن حُرمها حرمها، ومن نقصها نقص له من غاياتها، وعلى هذا قام الجزاءُ بالقسط والثواب والعقاب، وكفى بهذا العالم شاهدًا لذلك، فرَبُّ الدنيا والآخرة واحدٌ، وحكمته مطردة فيهما، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة، لكن المؤمن يحصُل له الألم في الدنيا أشد، ثم ينقطع، ويَعقبه أعظم اللذة، والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداءً، ثم ينقطع، ويعقبه أعظم الألم والمشقة.
فالألمُ واللذةُ أمر ضروري لكل إنسان، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بونٌ، ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات، فمن ظن أنه يتخلص من الألم بحيث لا يصيبه البتة، فظنه أكذب الحديث، فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح والغم، وذلك مِن جهة تركُّبه وطبيعته وهيئته". ا.هـ. مختصرًا مِن شِفاء العليل.
أسأل الله أن يشرح صدرك، وأن يُلهمك رشدك، ويُعيذك من شر نفسك.
- التصنيف:
- المصدر: