أريد أن أصلح خطئي
شابٌّ تعرف إلى فتاة عبْر الفيس بوك، وتحدَّثَا في كلام محرم، ويخشى أن تكونَ الفتاةُ استَمَرَّتْ في ذلك، حاوَل إصلاحها لكنه لم يصلْ إليها، ويسأل: ماذا أفعل؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
منذ سنوات تعرفتُ إلى فتاةٍ عبر الفيس بوك، ونجحتُ في استدراجها، وتكلَّمنا كلامًا إباحيًّا، ولا أعلَمُ كيف فعلتُ كلَّ ذلك!
المشكلة أن الفتاةَ منذ أن تكلَّمنا كانتْ تُفَكِّر في الجنس، وبالتأكيد أنا السبب في هذا، وأشعُر بتأنيب شديدٍ للضمير، فماذا أفعل لكي أُصلح خطئي تجاهها؟
حاولتُ الوصول إليها لأستسمحها مِرارًا وتَكْرارًا، لكنني فشلتُ في ذلك، وأشعُر أني ارتكبتُ ذنبًا كبيرًا، وأريد التوبة.
فهل من سبيل لذلك؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فالتوبةُ أيها الابن الكريم مِن أَجَلِّ وأحَبِّ الطاعات إلى الله تعالى، وهو سبحانه يفْرَح بتوبة عبده أعظم مِن فَرَح هذا الواجد لراحلته في الأرض المُهْلِكة بعد اليأس منها؛ كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «والله لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم يَجِد ضالَّتَهُ بالفلاة»، وفي صحيح البخاري عن الحارث بن سُويد: حدَّثنا عبدالله بن مسعود حديثين: أحدهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: «إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقعَ عليه، وإن الفاجرَ يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه»، فقال به هكذا، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه، ثم قال: «لله أفرح بتوبة عبده مِن رجلٍ نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبتْ راحلته، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه، فإذا راحلتُه عنده».
وهذه فرحةُ إحسانٍ وبرٍّ ولُطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده منتفع بها، فلا يتكثر به مِن قلة، ولا يتعزَّز به مِن ذلة، ولا ينتصر به مِن غلبة، ولا يعده لنائبةٍ، ولا يستعين به في أمرٍ، وإنما هو محض كرم وبر، فهو سبحانه أجودُ الأجودين، وأكْرَمُ الأكرمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه سبقتْ رحمته غضبه، وحِلْمه عقوبته، وعفوه مؤاخذته، وأنه قد أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأنه يُحب الإحسان والجود والعطاء والبر، والفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلاً، ويغمرهم إحسانًا وجُودًا، ويتم عليهم نعمته، ويضاعف لديهم منته، ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.
والعفو والمغفرة والرحمة أحب إليه مِن الانتقام والعقوبة والغضب، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، وتأمَّلْ رعاك الله قوله صلى الله عليه وسلم: «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها»؛ متفق عليه، وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعتْ كل شيء؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرْف تلك الرحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به؟!
وقد خَلَقَ عباده على صفاتٍ وهيئاتٍ وأحوال تقتضي أن يُذنبوا ويَتُوبوا إليه ويستغفروه، ويطلبوا عفوه ومغفرته، كما روى مسلم: «لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يُذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم».
قال الإمام ابنُ القَيِّم: "فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلمَن يغفر؟ وعلى مَن يتوب؟ وعمَّنْ يعفو ويسقط حقه ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه وهو واسع المغفرة؟ فكيف يعطل هذه الصفة أم كيف يتحقق بدون ما يغفر ومن يغفر له ومن يتوب وما يتاب عنه؟"؛ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 223).
وقد ذكَر رحمه الله أكثر من ثلاثين وجهًا مِن حكمة تخلية الله بين العبد وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئته أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله، فراجِعْها في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين.
كما أنصحك بمراجعة منزلة التوبة في كتابه: "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين".
فسبيلُ التوبة مفتوحٌ دائمًا لكل مَن قصده أيها الابن الكريم، ففر إلى سيدك، وجد في الهرب إليه مُنْطَرِحًا على بابه، متذلِّلاً متضرِّعًا، خاشعًا باكيًا آسفًا، متذكرًا عطفه وبره ولطفه ورحمته ورأفته وإحسانه وجوده وكرمه مع غناه وقُدرته.
ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا كان أعظم الخلق وأعلمهم بالله أتقاهم وأخشاهم له كان أكملهم توبة، وأكثرهم استغفارًا، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر مِن سبعين مرة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»؛ رواه مسلم، وعن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: «ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم»؛ رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله عز وجل واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة»؛ رواه أحمد، والأحاديثُ في هذا المعنى الشريف أكثر مِن أن يحاط بها ها هنا، وهي أشْهَرُ مِن أن تذكر.
أما ما يجب عليك فعله تجاه تلك الفتاة: فقد ذكرت أنك حاولتَ الوصول إليها لتتحلَّلها، وتطلب منها العفو والمسامحة، إلا أنك فشلتَ في ذلك، فلم يبق أمامك غير الاستغفار والدعاء لها بالتوبة الصادقة النصوح، وأن يشرح الله صدرها للخير، وأن يلهمها الله رشدها ويعيذها من شر نفسها وشر الشيطان وشركه ونحو هذا من الدعاء، وتذكَّرْ دائمًا أن الله تعالى غفور رحيم يقبل كل مَن تاب إليه ولا يرد مَن فرَّ إليه، وأحسن الظن بالله أن يوفقها للعودة إليه.
وإن آنستَ مِن نفسك عند تذكُّر الذنب أو الفتاة إحباطًا أو حنينًا للشر، فابتعدْ عن ذلك وادفعْ تلك الخطرات واقلعها من نفسك.
وأسأل الله أن يتوب علينا جميعًا، وأن يغفر لنا ما قدمنا وما أخَّرْنا.
- التصنيف:
- المصدر: