الإخلاص
ما أجملَ الحديثَ عن الإخلاص والمخلصين! فلله درُّ أرواح تشتاق إلى رَوْح قُربه، ويطول عليها الزمان شوقًا إليه لحُبِّه، إنْ سألتَ عن أوصافهم فكلٌّ منهم مخلص لربه، مجتهد في طاعته خائف من عُتْبه.
كيف أخلص لله؟
ما أجملَ الحديثَ عن الإخلاص والمخلصين! فلله درُّ أرواح تشتاق إلى رَوْح قُربه، ويطول عليها الزمان شوقًا إليه لحُبِّه، إنْ سألتَ عن أوصافهم فكلٌّ منهم مخلص لربه، مجتهد في طاعته خائف من عُتْبه.
والإخلاص في اللغة: مصدر أخلَص يُخلِص، وهو مأخوذ من مادة (خ ل ص) الدالة على تنقية الشيء وتهذيبه.
واصطلاحًا: ألاَّ تَطلبَ لعملك شاهدًا إلا الله، وقيل: تخليص القلب من كل شوب يُكدِّر صفاءه، وقال ابن القيم: "الإخلاص هو ما لا يَعلَمه ملَكٌ فيكتبه، ولا عدوٌّ فيُفسده، ولا يُعجَب به صاحبُه فيُبطله".
أما عن كيفية تحقيق الإخلاص في الأعمال والأقوال والنيات، فيكون ذلك بالتخلق بما يتحلى به أهلُه من صفات، التي من أهمها:
• إخفاء العمل: فإذا أردتَ أن تسلُك طريق المخلصين، فلا بُد من إخفاء عملِك ما أمكنك؛ فالمخلص الصادق لا يَودُّ أن يطَّلع الناس على مثقال ذرة من عمله الصالح.
قال إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون أن يُظهِروا صالحَ ما يُسرُّون"، وعن سفيان بن عُيَيْنَة قال: "قال أبو حازم: اكتُم حسناتِك أشدَّ مما تكتم سيئاتِك".
• الخوف من الشهرة: قال عبدالله بن المبارك: "قال لي سفيان: إياك والشهرةَ؛ فما أتيتُ أحدًا إلا وقد نهاني عن الشهرة".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((طُوبَى لعبدٍ آخذٍ بعنان فَرَسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُه، مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السُّوقة كان في السوقة، إنِ استأذن لم يُؤذَن له، وإن شفع لم يُشفع له))؛ رواه البخاري.
ففرَّ يا أخي من طنين الشهرة إن أردتَ طريق الإخلاص، وكُن كالجذر من الشجرة: به قوامُها وحياتُها؛ ولكنه مستورٌ في باطن الأرض لا تراه العيونُ، أو كالأساس من البناء: لولاه ما ارتفع جدارٌ، ولا قام بيتٌ، ولكنَّ أحدًا لا يراه.
• اتهام النفس: فمِن سُبُل الإخلاص اتهامُ النفس بالتقصير في حق الله تعالى، قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، في الحديث أنهم الذين يصومون ويصلُّون ويتصدقون، ويخافون ألا يُتقبَّل منهم.
قال ابن أبي مُلَيْكَةَ - فيما رواه البخاري في صحيحه -: "أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسه، ما منهم مِن أحدٍ يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل!".
وقال محمد بن واسع: "لو كان يوجد لِلذنوبِ ريحٌ ما قدرتُم أن تدنوا مني؛ مِن نتن ريحي!".
• أن يستوي عندك مدح الناس وذمهم:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في "الفوائد": "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس؛ إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدَّثتْك نفسُك بطلب الإخلاص فأقبلْ على الطمع أولاً فاذبحْه بسكين اليأس، وأقبلْ على المدح والثناء فازهدْ فيهما زهدَ عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبحُ الطمع، والزهدُ في الثناء والمدح؛ سَهُل عليك الإخلاصُ.
فإن قلتَ: وما الذي يُسهِّل عليَّ ذبحَ الطمع، والزهدَ في الثناء والمدح؟
قلتُ: أما ذبحُ الطمع؛ فيسهِّله عليك علمُك يقينًا أنه ليس من شيء يُطمَع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنُه لا يملكها غيره، ولا يؤتِي العبدَ منها شيئًا سواه.
وأما الزهدُ في الثناء والمدح؛ فيسهِّله عليك علمُك يقينًا أنه ليس أحدٌ ينفع مدحُه ويزين، ويضرُّ ذمُّه ويشين إلا الله وحده، كما قال ذلك الأعرابي للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن مدحي زينٌ، وذمِّي شينٌ، فقال: ((ذلك الله عز وجل)).
فازهد في مدح مَن لا يزينك مدحُه، وفي ذم مَن لا يشينك ذمُّه، وارغبْ في مدح مَن كلُّ الزين في مدحه، وكلُّ الشين في ذمه، ولن يُقدَر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدتَ الصبر واليقين كنتَ كمَن أراد السفر في البحر في غير مركب، قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]".
• قراءة سير المخلصين والاطلاع على أخبارهم، ومصاحبة أهل الإخلاص:
ويخبرُك الحسن - رحمه الله - عن بعض مَن عاشرهم من أهل الإخلاص، فيقول: "إنْ كان الرجلُ لقد جمَعَ القرآن وما يَشعر به جارُه، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْرُ (أي: الزائرون) وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عملٍ يَقدرُون على أن يعملوه في سرٍّ فيكون علانية أبدًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوتٌ، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم - عز وجل؛ ذلك أن الله - عز وجل - يقول: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ [الأعراف: 55]، وذلك أنَّ الله تعالى ذكَر عبدًا صالحًا ورضِيَ قولَه، فقال: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [مريم: 3]".
• معرفة فضل الإخلاص وأهميته:
فالإخلاص هو أحد شرطي قبول الأعمال، وهو من العمل بمنزلة الروح للجسد؛ فكما أنَّ حياة البدن بالروح، فحياة العمل وتحصيل ثمراته يكون بمصاحبته وملازمته للإخلاص.
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - في قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]: "أخلصه وأصوبه", قيل: "يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبَل, وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل, حتى يكون خالصًا صوابًا, فالخالص: ما كان لله, والصواب: ما كان على السُّنة".
• الدعاء: فلقد علَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق – رضي الله عنه - دعاءً يُذهِب اللهُ به عنه الشركَ، فقال: ((ألا أدلُّك على شيء إذا قلتَه ذهب عنك قليلُه - أي الشرك - وكثيره؟))، قال: ((قل: اللهمَّ إني أعوذ بك أن أُشركَ بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم))؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الألباني.
وختامًا أهدي إليك كنزًا من كنوز طبيبٍ من أطباء القلوب وهو الإمام ابن القيم، يقول - رحمه الله تعالى - في كتابه "الفوائد":
"قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾ [الحجر: 21] متضمنٌ لكنز من الكنوز، وهو أنَّ كلَّ شيء لا يُطلَب إلا ممن عنده خزائنُه، ومفاتيحُ تلك الخزائن بيده، وأنَّ طلبَه مِن غيره طلبٌ ممن ليس عنده ولا يَقدِر عليه.
وقوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 42] متضمنٌ لكنز عظيم، وهو أن كل مراد لم يُرَد لأجْله ويتصل به، فهو مضمحل منقطع؛ فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهتْ إليه الأمورُ كلُّها، فانتهتْ إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعِلْمه، فهو غاية كل مطلوب، وكلُّ محبوب لا يُحَبُّ لأجله فمحبتُه عناءٌ وعذاب، وكلُّ عمل لا يُراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكلُّ قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه.
فاجتمع ما يُراد منه كله في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ﴾، واجتمع ما يُراد له في قوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾؛ فليس وراءه سبحانه غايةٌ تُطلَب، وليس دونه غايةٌ إليها المنتهى، وتحت هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أنَّ القلب لا يستقرُّ، ولا يطمئنُّ، ولا يَسكُن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يُحَبُّ ويُراد فمُرادٌ لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى.
ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين؛ كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين، فمَن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره، يَطُل عليه ذلك، وزال عنه وفارقه أحوج ما يكون إليه، ومَن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه؛ ظفر بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أبدَ الآباد".
وفقنا الله وإيَّاك لما يحب ويرضى، وأسأله سبحانه أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن لا يجعل لأحد غيره فيه شيئًا.
- التصنيف:
- المصدر: