كآبة الحياة

منذ 2020-08-18
السؤال:

أعاني من الاكتئاب، وأشعر بأنني سبب تعاسة الآخرين، وأصبحتُ منغلقة على نفسي، أبقى في غرفتي، أتذكر الماضي المنسيَّ، والحاضرَ التَّعِس، حتى لقد شعرت بيأس من الحياة، وأصبح الموت منتهى أملي، وَحاوَلْت الانتحار عدَّة مرات، ولكن ما يمنعني خوفي من الله، ولا أرغب في مواصلة الحياة.
 

الإجابة:

هوِّني عليكِ، يا عزيزتي؛ إذ ما زال أمامكِ زمن آخر، اسْمُه: (المستقبل)، وبإذن الله يكون أجملَ من ذلك الماضي المنسيِّ، وهذا الحاضر التعيس، تفاءلي أنتِ فقط.


إنما حيَّرتني عبارتك: "أشعر بأنني سبب تعاسة الآخرين"، هل تقصدين أنكِ بتعاستك قد تسبَّبتِ في إتعاس الآخرين، أو ماذا؟


كان بِوُدِّي لو شرحتِ لي هذه العبارة؛ لأفهَم، وبِوُدِّي لو فتحتِ لي أبوابَ قلبِكِ؛ لأعرف أسباب هذه الكآبة، ومتى حدثت معكِ لأول مرة؟ هل لكِ أن تفعلي ذلك؟


عزيزتي، هذه الدنيا دار ابتلاء، وسجن جَبْرِيٌّ للمؤمن؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر» رواه ابن ماجه.


والأصل في الدنيا هو التعب والألم؛ قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، روى الوَالِبيُّ، في تفسير هذه الآية، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: "قال في (نصَب)"، وقال الحسن: "يُكابِد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة"، وقال قتادة: "في مَشَقَّة، فلا تلقاه إلا يُكابد أمر الدنيا والآخرة"، وقال سعيد بن جبير: "في شدَّة"، وقال عطاء، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: "في شدةِ حملِهِ وولادته ورضاعه، وفطامه وفصاله، ومعاشه وحياته وموته".


إن الألم المكتوب والمقدَّر علينا ليس باختيارنا، إنما باختيارنا تحديدُ مواقفنا تجاه هذه الآلام: إما الصمودَ والشجاعةَ والتمسكَ بالأمل، أو الاستسلامَ والانهيار واليأس.


وأنتِ فضَّلتِ الاستسلام والانغلاق على نفسك في غرفتك، رغم أن هذا الاختيار لن يحل لكِ المشكلة، ولن ينهي حياتك الأليمة.


افترضِي - مثلاً - أن الله كتب عليكِ العيش تسعين عامًا في هذه الدنيا، هل ستظلين حبيسة آلامك كل هذه السنين؟!


أنتِ مؤمنة، ومهما فكَّرتِ في الانتحار فلن تُقدمي عليه، فماذا ستفعلين إذن؟


الدنيا هي الدنيا؛ إن أخطأكِ ظُلْمُ القريب، أصابكِ خذلان الحبيب، وإن نجوتِ من بحر الإهانة، غرقتِ في طوفان من الخيانة، لن تَسلَمي أبدًا من عذابات الدنيا، ولن يسلم أحد، هذه هي الدنيا: غدر، وقهر، وظلم، وخداع، وتجريح، وتوبيخ، وتعذيب، وقسوة....


وإذن، هل ستظلين كمُومياء فِرعَوْنية محفوظة في تابوتِ غرفتِكِ؛ كي تتجنَّبي كل هذا؟!


كلا، يا صغيرتي، يجب أن تنهضي بشجاعة لمواجهة الألم، والآن وليس غدًا؛ إذ مهما بدت الحياة تعيسةً ومخيِّبة، ومهما تجاوز العالم في ظلمك والقسوة عليك، يجب أن تكملي السير على الطريق الذي قدَّره الله لكِ، لا بأس إن توقَّفْتِ لأيام، لا بأس إن بكيتِ، المهم أن تُكمِلي المسير.


أنا حقيقةً، وبظروفك التي أجهلها، وبأقدارِك التي لا أعلمها - لا أضمَن لك السعادة، إنما أضمن لكِ الأجر الكبير في الدنيا، والفوز العظيم في الآخرة، إن صبرتِ على هذه الابتلاءات، وقاومتِها بصبر وشجاعة.


فتاة في الثامنةَ عشرةَ: يجب أن يكون لها خطة في الحياة، وأهداف مرسومة، وأحلام كبيرة، أنتِ مقبلة على مرحلة مختلفة تمامًا عما اعتدْتِه أيام المدرسة؛ فأنتِ - إن شاء الله - ستلتحقين بالجامعة، وستختارين التخصص الأكاديمي الذي تجدين نفسك فيه، وستكافحين لتُحَقِّقي أعلى الدرجات، وربما يُكتَب لكِ خلال السنوات القادمة الزواجُ برجل يحبك وتحبِّينه؛ ليُعَوِّضك عن كل هذه الآلام.


الزواج وحدَه مرحلةٌ مختلفة، وإذا كتب الله لك أن تكوني أمًّا، فهذه مرحلة أخرى، مع أطفالٍ قد يحملون ملامح وجهِكِ، وفصيلة دمك، ولون عينيك وشكل ابتسامَتِك، ستكونين لهم الحياةَ، تلك الحياةُ التي حاولتِ قَتْلها يومًا ما، إنها لن تكون ملكك عندئذٍ، بل سيكون هناك مَن يشاركك فيها، وبإرادتك، ورغبتك، وأنت متبسِّمة، ربما تلتحقين أيضًا بوظيفة جيدة بعد الجامعة؛ لتُشَكِّل هي الأخرى محطةً فاصلة في حياتك.


أرأيتِ؟ إن أمامك الكثير؛ فلا تتعجَّلي، دعي العمر يسير بوقته المقدر له قبل أن يُخلَق الكون، اتركي الأمور لله، يُصرِّفها كيف شاء، أنتِ الآن في امتحان من الله؛ فجِدِّي، وقَدِّمي كل ما يمكنك عمله؛ لتنجحي فيه.


عليكِ بالدعاء والصبر والهمة، ولا تبالي برأي الناس ومواقفهم تجاهك؛ فكثير من الناس يتعاملون معنا، وكأنهم خُلِقوا لتعذيبنا، وإيقافِ دقَّاتِ قلوبنا همًّا وحزنًا، ثقي أنك لست الوحيدةَ التي تُجَابِه أمثال هؤلاء، وأي أحدٍ يقرأ كلامي الآن سيهزُّ رأسه إيجابًا، ويقول لكِ:

"أَجَلْ، حتى أنا، حتى أنا"، لن أقول لكِ: لا تبكي، على العكس: اتركي الدموع تسير في طريقها الوردي؛ فالدموع لم تُخْلَقْ لتظل حبيسةَ العيون، لا بد أن تسيل ذات يوم؛ لأنها حتمًا ستَجِفُّ ذات يوم، ربما حَجَبَتِ الدموع رؤيتَنا الصحيحة للطريق، كالضباب تمامًا، لكن حتى الضباب الكثيف سينقشع يومًا ما.


أنا أؤمن بأن الحياة يجب أن تسير بصورتها الطبيعية، ولا أحب أن أواجه الخيبات والآلام كامرأة حديدية، فنحن لسنا معادنَ، بل بشرٌ من لحم ودم وعصَب، وإذا كان الحديد نفسه يتأثر سريعًا ويصدأ، فكيف بنا نحن؟! لا بد من التوقف هنيهة، والبكاء لساعات، والحزن لأيام.

 

ثم ماذا؟

لابد بعدها أن ننهض؛ لنغسل تلك الدموع التي غسلت قلوبنا، فهذه هي الحياة مرةً أخرى، انهضي، يا عزيزتي، وقاومي بشجاعة، وخذي بهذه النصائح؛ لعلها تفيدك في علاج الاكتئاب، بإذن الله تعالى.

 

علاج الاكتئاب:

1) العلاج الدوائي: باستعمال مضادات الاكتئاب المعروفة بـ "مثبطات السيروتونين"، وذلك بوصفة طبية بعد زيارة طبيبة نفسية.


2) العلاج النبوي:

1- دعاء الهم والحزن: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَة الرجال»، كذلك دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطائف، وهو من أقرب الأدعية إلى نفسي، وأحبها إلى قلبي: «اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنِي؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُني؟ أم إلى عدو مَلَّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيَتك هي أوسعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصحَّ عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .


2- التَّلْبِينة: عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن التلبينة تُجِمُّ فؤاد المريض، وتُذهب ببعض الحُزْن» ؛ رواه البخاري، قال ابن حجر في "فتح الباري": "التَّلْبِينة - بفتح المثناة، وسكون اللام، وكسر الموحدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم نون - طعامٌ يُتَّخذ من دقيق أو نخالة، وربما جعل فيها عسل، سُمِّيَت بذلك لشبهها باللبن في البياض والرقة، والنافع منه ما كان رقيقًا نضيجًا، لا غليظًا نيئًا".


3) العلاج بالغذاء:

1- العلاج بالأغذية المحتوية على المغنيسيوم: فهو يساعد على تنظيم إنتاج الجسم لهرمون السيروتونين، ويوجد بكثرة في البذور، مثلُ: دوار الشمس، والنخالة، وجنين القمح، والخضروات الورقية الخضراء، والموز، والسمك، والطحالب البحرية، والفواكه المجفَّفة.


2- العلاج بالأغذية المحتوية على البوتاسيوم: إذ يمكن أن يؤدي نقص البوتاسيوم إلى الاكتئاب والارتباك الذهنِي، ويُوجَد في الموز، والكمثرى، والعنب، وسمك السلمون، والبطاطس.


3- العلاج بالحلوى العُمانية: حسنًا، هذه مداعبة منِّي؛ إذ لن يُجْدي شيءٌ كهَذا في كل كتب الطب النفسي، لقد تذوقتُ الحلوى البحرينية، وكانت لذيذة حقًّا، وأظن أن الحلوى العمانية ألذُّ منها، أليس كذلك؟ مَن يدري؟ ربما تفيدك في علاج الاكتئاب.


4) العلاج بالماء الجاري:

إن الأيونات السالبة، المنبعثة من الماء الجاري في النوافير والشلالات - لها مفعولٌ علاجي، ويشاع أنها تجعل الناس يشعرون بالسعادة، فحاولي قضاء بعض الوقت إلى جانب نافورة ماء جارٍ، أو تَوَجَّهي من فورك إلى "شلالات صلالة" الساحرة، التي يوجد بها الآن مهرجان الخريف، وطبعًا بدون مخالفات شرعية، أليس كذلك؟ لكن لماذا تُطْلقون عليه "مهرجان الخريف" رغم أنه يقام في الصيف؟!


5) العلاج بالورد وعطر الورد:

احتفظي بأصيص من الورود النضرة الملونة والمبهجة، في مكان يسمح لك برؤيتها طوال اليوم، وسوف يؤدي ذلك إلى ارتفاع معنوياتك؛ حيث تتمتع الأزهار بالقدرة على تحسين الحالة المزاجية، ويقال: إن أجمل أنواع الورود في عمان تلك التي تنمو على سفح الجبل الأخضر، أهذا صحيح؟


أتساءل: كيف يُصاب أهل عمان بالاكتئاب، ولديهم كل هذه الجنان الساحرة؟!


كذلك استعملي زيت الورد؛ فهو يساعد على تهدئة الإنسان تجاه ما يصيبه من حزن وإحباط، فضعي بضع قطرات منه على منديل، وتنشَّقيه بأنفِكِ.


6) العلاج بالتمارين الرياضية: لأنها تساعد المخ على إفراز مادة "الأندورفين"، وهو الهرمون المسؤول عن الفرح والانتشاء، وعدم الإحساس بالألم، الأمر الذي يعمل على تحسين الحالة المزاجية بشكل طبيعي، جَرِّبي ذلك.


ختامًا:

إذَا اشتَمَلَتْ عَلَى الْيَأسِ الْقُلُوبُ        وَضَاقَ لِمَا بِهِ  الصَّدْرُ  الرَّحِيبُ
وَأوْطَنَتِ   الْمَكَارِهُ   وَاسْتَقَرَّتْ        وَأرْسَتْ فِي أمَاكِنِهَا  الْخُطُوبُ
وَلَمْ تَرَ لانْكِشَافِ  الضُّرِّ  وَجْهًا        وَلا   أغْنَى    بِحِيلَتِهِ    الأرِيبُ
أتَاكَ  عَلَى  قُنُوطٍ  مِنْكَ   غَوْثٌ        يَمُنُّ  بِهِ   اللَّطِيفُ   الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ  الْحَادِثَاتِ   إذَا   تَنَاهَتْ        فَمَوْصُولٌ   بِها    فَرَجٌ    قَرِيبُ

أبياتٌ جميلة تنسب للإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أُهديها لك.


وأدعو الله أن يحميك من كل سوء، وأن يكتب لكِ السعادة أبدًا ما حييتِ، وأنا بانتظار تقدم صحتك النفسية؛ فلا تجعليني أنتظر طويلاً.


وَفَّقك الله ورعاكِ، لا تنسَيْني من صالح دعائك.

 

  • 3
  • 0
  • 2,622

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً