عدم القدرة على الانخراط في الأسرة والمجتمع
فتاة تعاني – بعد وفاة أبيها – مع والدتها، فهي لا تستطيع أن تتحدث لها بما يَجيش في صدرها، فأمُّها سريعة الغضب، حتى إخوتها لا يستمعون إليها في شيء؛ ما أدى إلى انزوائها عن أسرتها وعن مجتمعها، فأترابها إما متزوجات أو على طريق الزواج، وتسأل: ما النصيحة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بعد وفاة والدي رحمه الله أصبحت أمي أكثر عصبية وأشدَّ غضبًا من ذي قبل، فلا أستطيع - من ثَمَّ - أن أخبرها بحزني؛ حتى لا تبدأ الصراخ في وجهي، فأنا - في رأيها - دائمًا مخطئة، وليس لي الحق في أن أحزن لشيء (فأنا شخصية حساسة يبدو الحزن والغضب سريعًا على ملامح وجهي، ولا أستطيع له كتمانًا)؛ لأن كل شيء متوفر لديَّ، رغم أنني أحاول دائمًا أن أُدخل البهجة والسرور عليها، حتى إخوتي دائمًا يقاطعونني عندما أتحدث، أو هم لا يبالون أصلًا بما أقول، فأصبحت أُفضِّل الصمت، وأخلُدُ إلى النوم والعزلة، وأصبح المنزل محببًا لي، والخروج منه بغيضًا إلى قلبي، ولا سيما الأماكن التي يكثُر فيها الناس، وأنا الآن لديَّ قناعة بأنني لا أستطيع أن أُصادقَ أحدًا، ولا أجيد التحدث مع أحد، وأمي الآن تريدني أن أتزوج؛ فأترابي إما متزوجات أو مرتبطات؛ ولِما سبق كله أشعر بأنني شخصية معقدة وغير مفهومة،
سؤالي: هل أنا مريضة نفسيًّا أو ماذا؟ أرشدوني، وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خير قدوة لنا، وخير هادٍ للعالمين؛ أما بعدُ:
فابنتي الغالية، هدى الله قلبكِ، وشرح صدركِ لِما يُحبه ويرضاه، هذه الحالة التي تعانين منها وتكاد تصل بكِ إلى حد الاكتئاب، هي نتيجة طبيعية للضغوط التي وقعت عليكِ، بدءًا من موت والدكِ رحمه الله، وتغيُّر نفسية أمكِ وعدم صبرها عليكِ، ومن ثَمَّ انتقل شعورها لإخوتكِ فأصبحوا لا يستمعون لحديثكِ أو يقاطعونكِ، ولأنكِ - كما قلتِ - شديدة الحساسية؛ فسبَّب لكِ موقفهم حزنًا عميقًا وآلامًا نفسية، فمِلْتِ طبيعيًّا إلى العزلة؛ لأنها ترحمكِ من نقدهم أو تجاهُلهم لكِ الذي يحزنكِ.
إذًا حالة العزلة والحزن والانفرادية التي أصابتكِ هذه، ما هي إلا ردُّ فعل لمعاملتهم، وليست طبيعة أصيلة فيكِ، ولو تغيَّر محيطكِ الاجتماعي، ودخلتِ بين مجموعة من الزميلات يتبادلون معكِ الاهتمام والاحترام، فسوف يكون لكِ رد فعل إيجابي، وستحبين لقاءهم والتعامل معهم، ثم تألفين الناس من جديد، وتُقبلين على الزواج مثل باقي رفيقات عمركِ.
الآن عليكِ بعض الخطوات الأولية التي سوف تُخفِّف التوتر بينكِ وبين أهلكِ، ومن ثَمَّ تمارسين حياتكِ الطبيعية، وتختلطين بالناس:
في مجلسك مع أهلكِ (أمكِ وإخوتكِ)، لا تعترضي على رأيهم كثيرًا، بل استمعي ثم علِّقي باختصار بما لا يستفز أحدًا، أو يناقض رغبته، ففي كل حال هم سيفعلون ما يريدون، ورأيكِ لن يغيِّر حياتهم، بل سيخلق توترًا بينكم إذا كان شديد المعارضة.
تودَّدي إلى أمكِ حِسبةً لله بالكلمة الطيبة، والخدمة المتكررة دون أن تطلب منكِ، اختاري لنفسكِ طقوسًا في بِرِّها تكون محببة لنفسكِ وسهلة؛ حتى تنفِّذيها كل يوم بانتظام، دون أن تطلب منكِ، فذلك سيرقِّق قلبَها تُجاهكِ، وسيجعل طيبة قلبكِ تطغى على الخوف والارتباك الذي سبَّب لكِ العزلة، وكلها أفعال بسيطة، لكنها تترك أثرًا عظيمًا في نفس الأم كأن تحرصين أن تغطيها كلَّ يوم عند النوم، أو أن تقدمي كل صباح لهما مشروبًا تُحبه، أو عندما يرفض أحد إخوتك تلبية طلب لها، فبادري إليها بحب وتودُّد: (لا تغضبي أمي الحبيبة، سأفعل أنا لكِ ما تريدين ...)، كل هذه الأفعال البسيطة ستجعل لكِ مكانة كبيرة في قلب أمكِ، ومن ثَمَّ سيبدأ حبُّها لكِ يطغى على نقدها لسلوككِ، من هنا ستشعرين بالسعادة، فنصف علاجكِ أن تشعري أنكِ محبوبة منها، ثم من إخوتكِ، وسيمنحك هذا ثقة عالية في النفس تجعلكِ تُقبلين على الحياة والناس.
اصبري على ذلك، فكما أن التوتر الذي بينكم أخذ وقتًا حتى وصل إلى هذه المرحلة، فإن أنهار المحبة تحتاج وقتًا، حتى تجريَ بينكم من جديد.
كما أن بِرَّكِ بها سيفتح لكِ أبواب السماء ورضا رب العالمين، وهو سبحانه قادر على تغيير حالكِ لأفضل حال.
المرحلة الثانية: لا بد أن تَخرُجي من هذه الدائرة التي تحبسين نفسكِ فيها، ابحثي عن عمل، أو أكملي دراستكِ، أو تعلمي مهارة جديدة؛ كالتجويد والحفظ، أو طلب العلم الشرعي، أو حتى الخياطة والتطريز، فكلما أنتج الإنسان شيئًا أو اكتسب علمًا، شعر بالسعادة، وبأهميته في الحياة؛ فينتفي عنه الشعور بالحزن أو الوحدة.
جرِّبي فقط أن تكون حالة الاكتئاب والعزلة هذه تسيطر على خاطركِ، ثم قومي ورتِّبي خِزانة ملابسكِ، أو رتبي أدراج مكتبكِ، أو حتى غيِّري نظام المطبخ - ستجدين شعوركِ بالهمِّ خرج مع الطاقة التي تبذلينها، وتبدَّل حالكِ من ضيق الصدر إلى الشعور بالرضا.
اعلمي بنيتي أن الدنيا ليست مخلوقة لي أو لكِ وحدنا، بل نحن جزء صغير جدًّا جدًّا، وحظُّنا منها مثل حظِّ غيرنا، لن تُرضيَنا الدنيا بكل ما نملك سواء ماديًّا أو معنويًّا، إنما هي مراحل من الكَبَدِ يتخللها لحظات من السعادة، حتى نصبر عليها ونكملها، فاصبري وتعايشي، واهتمي بحقِّ الله عليكِ؛ من صلاة وأذكار، وقراءة قرآن، وبرٍّ بأمكِ، ثم اشغلي نفسك بما يُذهلها عن مشاعركِ السلبية، وسوف تلمسين أثر ذلك بردًا وسلامًا على قلبكِ.
لا تستسلمي للشيطان الذي يملأ قلبكِ حزنًا؛ ليسرق عمركِ، ويُنسيَكِ الهدف من خلْقِكِ، وهو عبادة ربكِ بصورها الواسعة.
الإحسان إلى نفسكِ عبادة، وبرُّ أُمكِ عبادة، والصبر على إخوتكِ صلة ومودة، علِّقي قلبكِ بالله واستشفي بالقرآن، واصنعي لنفسكِ برنامجًا لتجديد الحياة، ووافقي على أول خاطب مناسب، فهذه فطرة الله في الخلق، ومن يخالفها يشقى، سيرزقكِ الله رجلًا طيبًا مثلكِ، ثم طفلًا يغير وجه الحياة في عينكِ، وتتعرفين معه على السعادة الحقيقية والحب الحقيقي، لا تُضيِّعي عمركِ في أوهام الوحدة والعزلة، فتقل فرصتكِ في الزوج الذي تحلمين به وتندمي، استعيني بالله وأنت طبيبة نفسكِ، روِّضيها من جديد على استقبال الحياة بسعادة ورضًا ويقين أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
في كل يوم قولي: اللهم إني ولَّيْتُكَ أمري، فدبِّر لي حياة تقرِّبني منكِ، وتعينني على نفسي، ثم ارضي بما يقدِّره لكِ، واستغلي عمركِ يا غالية فرحًا وسعادة وبرًّا وزواجًا وحبًّا.
وفَّقكِ الله لِما يحب.
- التصنيف:
- المصدر: